رحمَ اللهُ كاتبَ هذا المقال ( في خمسينات القرن الماضي ) :
خذوا هذا الدين جملة ، أو دعوه
[SIZE="4"] ( لكل نظام من النظم فلسفته و فكرته العامة عن الحياة، ولكل نظام مشكلاته التي تنشأ من تطبيقه، و قضاياه التي تناسب طبيعته وآثاره في عالم الواقع ولكل نظام كذلك حلوله التي يواجه بها المشكلات والقضايا الناشئة من طبيعته وطريقته.
و ليس من المنطق – كما أنه ليس من الإنصاف – أن تطلب من نظام معين حلولاً لمشكلات لم ينشئها هو، و إنما أنشأها نظام آخر مختلف في طبيعته وطريقته عن ذلك النظام.
و المنطق المعقول ينادي بأن من أراد أن يستفتي نظاماً معيناً في حل مشكلات الحياة، فليطبق أولاً هذا النظام في الواقع، ثم لينظر إن كانت هذه المشكلات ستبرز أو تختفي، أو تتغير طبيعتها ومقوماتها عندئذ فقط يمكن استفتاء هذا النظام في مشكلاته التي تقع في أثناء تطبيقه.
والإسلام نظام اجتماعي متكامل، تترابط جوانبه وتتساند، وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة، ووسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية، وعن النظم المطبقة اليوم عندنا، يختلف اختلافاً كلياً أصيلاً عن هذه النظم ومن المؤكد أنه لم يشترك فيخلق المشكلات القائمة في المجتمع اليوم. إنما نشأت هذه المشكلات من طبيعة النظم المطبقة في المجتمع، ومن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة.
ولكن العجيب بعد هذا أن يكثر استفتاء الإسلام في تلك المشكلات، وأن تـُطلب لها عنده حلول، وأن يؤخذ رأيه في قضايا لم ينشئها هو، ولم يشترك في إنشائها، العجب أن يُستفتى الإسلام في بلاد لا تطبق نظام الإسلام في قضايا من نوع ( المرأة والبرلمــان ) و( المرأة و العمل ) والمرأة والاختلاط
و( مشكلات الشاب الجنسية ) وما إليها. وأن يستفتيه في هذا وفي أمثاله ناس لا يرضون للإسلام أن يحكم، بل إنه ليزعجهم أن يتصوروا يوم يجيء حكم الإسلام!
والأعجب من أسئلة هؤلاء، أجوبة رجال الدين ودخولهم مع هؤلاء السائلين في جدل حول رأي الإسلام وحكم الإسلام في مثل هذه الجزئيات، وفي مثل هذه القضايا، في دولة لا تحكم بالإسلام و لا تطبق نظام الإسلام.
ما للإسلام اليوم و ان تدخل المرأة البرلمان أو لا تدخل؟ ماله و أن يختلط الجنسان أو لا يختلطان؟ ماله و أن تعمل المرأة أو لا تعمل؟ وماله لأية مشكلة من مشكلات النظم المطبقة في هذا المجتمع الذي لا يدين للإسلام، و لا يرضى حكم الإسلام؟ و ما بال هذه الجزئيات وأمثالها هي التي يُـطلب أن تكون وفق نظام الإسلام؟ ونظام الإسلام كله مطرود من الحكم، مطرود من النظام الاجتماعي، مطرود من قوانين الدولة، مطرود من حياة الشعب!.
إن الإسلام كل لا يتجزأ فإما أن يؤخذ جملة و إما أن يترك جملة.
أما أن يُـستفتى الإسلام في صغار الشؤون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع، فهذا هو الصغار الذي لا يجوز للمسلم – فضلاً عن عالم الدين – أن يقبله للإسلام.
إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكـّموا الإسلام أولا في الحياة كلها ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام.
إن الإسلام يربي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، و ينظم شؤونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة. فأولاً طبقوا الإسلام جملة في نظام الحكم،وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية. ثم انظروا هل تبقى هذه المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من تلقاء نفسها.
أما قبل هذا فما للإسلام و ما لهذه القضايا التي لا يعرفها المجتمع الإسلامي الصحيح؟!
أوجدوا المجتمع الإسلامي، الذي تحكمه شريعة الإسلام و مبادئ الإسلام وربوا النساء والرجال تربية في البيت والمدرسة والمجتمع، وأوجدوا ضمانات الحياة التي يكفلها الإسلام للمجتمع، وحققوا عدالة الإسلام التي يفرضها للجميع، ثم اسألوا بعد هذا : أتريد هي أن تدخل البرلمان أم أنها لا تجد ضرورة لهذه المحاولة مع تلك الضمانات؟ و اسألوها: هل تريد أن تعمل في الدوائر العامة؟ أم أنها لا ترغب في العمل لأن مقتضيات حياتها لا تستدعيه. واسألوها هل تريد أن تختلط بالرجال و أن تتزين و تتبرج أم أن تربيتها إذن ستعصمها من نزوات الحيوان وشهوات الحيوان، ومشاعرها ستدعوها إلى العصمة حياء من الله؟ لذلك يسأل بعض الأحيان أناس : ترى سنقطع أيدي ألوف من السارقين في كل عام تنفيذاً لشريعة الإسلام؟! و هؤلاء يرتكبون نفس الغلطة، والذين يجيبونهم برأي الإسلام الفقهي يرتكبون غلطتين...
إن هؤلاء الألوف من السارقين في كل عام ليسوا من نتاج المجتمع الإسلامي، ولا النظام الإسلامي. إنما هم نتاج مجتمع آخر يطرد الإسلام من حياته، ويطبق نظاماً اجتماعياً آخر لا يعرفه الإسلام. إنهم نتاج مجتمع يسمح بوجود الجائعين و المحتاجين دون ان يقدم لمشكلتهم علاجاً، مجتمع لا يضمن للملايين القوت ولا يربي النفس الإنسانية، و لا يربط الحياة الدنيا كلها بإله ولا بشريعة الإله.
أما المجتمع الإسلامي فهو مجتمع آخر؛ مجتمع كل فرد فيه مضمون الرزق عاملاً ومتعطلاً، قادراً أو عاجزاً، صحيحاً أو مريضاً و يأخذ ما متوسطه نصف العيش كل عام لا من رؤوس الأموال ومن أرباحها لبيت المال ثم يأخذ بعد ذلك – بلا قيد و لا شرط - من المال كل ما تحتاجه الدولة لحماية المجتمع من الآفات.
طبقوا هذا النظام أولاً، ثم انظروا كم محتاجاً يبقى بعد هذا؟ وكم سارقاً سيقدم على السرقة وبطنه مملوء بالطعام، و قلبه عامر بالإيمان؟!
كذلك يسأل بعضهم عن ( مشكلات الشاب الجنسية ) إذا اتبعوا هم تعاليم الإسلام.
وهؤلاء يرون الشباب الذي يعيش في مجتمع غير إسلامي كل ما فيه يهيج غرائزهم، وكل ما فيه يثير نزواتهم...ثم يطلبون رأي الإسلام في مشكلات هذا الشاب.
إن المجتمع الإسلامي لن تكون فيه فتيات كاسيات عاريات مائلات مميلات في كل مكان، ينشرن الفتنة لحساب الشيطان. المجتمع الإسلامي لن تكون فيه أفلام قذرة، ولا أغان مريضة
المجتمع الإسلامي لن تكون فيه صحافة تنشر الصور العارية، والكلمات العارية، والنكت العارية، وتقوم مقام المواخير المتنقلة في كل مكان. المجتمع الإسلامي لن تكون فيه خمور تـُزين للناس الفجور، وتحرمهم الإرادة و التفكير، و أخيراً فالمجتمع الإسلامي سيهيئ للشباب زواجاً مبكراً، لأن بيت المال ملزم أن يُعين من يريد الإحصان.
فإذا شئتم رأي الإسلام في مشكلات الشاب الجنسية، فأولاً طبقوا النظام الإسلامي كله ثم انظروا بعد ذلك – لا قبله – إن كانت هنالك مشكلات الشباب!
إنني أعتبر كل استفتاء للإسلام في قضية لم تنشأ من تطبيق النظام الإسلامي كله مطرود من الحياة، إنني أعتبر كل استفتاء من هذا النوع سخرية من الإسلام، كما أعتبر الرد على هذا الاستفتاء مشاركة في هذه السخرية من أهل الإفتاء.
والذين يصرخون اليوم طالبين منع المرأة من الانتخابات باسم الإسلام، أو منعها من العمل باسم الإسلام، أو إطالة أكمامها و ذيلها باسم الإسلام!
... ليسمحوا لي – مع تقديري لبواعثهم النبيلة – أن أقول لهم : إنهم يحيلون الإسلام هزأة وسخرية لأنهم يحصرون المشكلة كلها في مثل هذه الجزئيات.
إن طاقاتهم كلها يجب أن تنصرف إلى تطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية في كل جوانب الحياة . يجب أن يطالبوا بأن يسيطر على نظام المجتمع و قوانين الدولة و للتربية الإسلامية بأن تسيطر على المدرسة و البيت والحياة جملة. فهذا هو الأليق للإسلام. وكرامة دعاة الإسلام )
سيد قطب