إن التحول الذي مررت به منذ بضع سنوات _ ستة أعوام_ لا يعدو إلا أن يكون تحولاً معرفياً , وإدراكاً لفائدة القراءات , والعائد الثقافي(الثمرة) الذي أجنيه من طول المطالعة للكتاب وإمعان النظر فيه , لإعادة صياغة العقلية التي تضفي بدورها علي تحسيناً سلوكيا , في شتى المناحي الحياتية الإجتماعية والنفسية وفن التعامل , بل هو إعادة إحياء للضمير الإنساني .
كلّ ذلك أصبح هو وغيره ما يدور في الوجدان والعقل , اللذان بدورهما يصنعان المفهوم والنظرية في نفسي , ولا شكّ أنني اكتشفت الحاجة عندما امتلكت الحد الأدنى من المعرفة للانتاج الأدبي والعودة لتلك المفاهيم التي شاعت وذاعت في الأوساط الثقافية , وتأدولت على الألسن في كلّ ناد , كانت الغاية هي الولوج إلى تلك المحاضن والمظان العلمية أهم التوجهات التي تملكتني باعتبارها مملكة الفكر والضمير الإنساني الذي تخلص من شوائبه وعلائقه , بوصفه خلاصة وصفوة المجتمع كيف لا وهم يتربعون على عروش المعرفة والثقافة والفلسفة , ولكني استدرك فأقول : أنها كانت الصدمة الحقيقية .
وأنا لا أبالغ إن قلت أن أغلب نوادي الأدب والعلم لاتحفل بجديدٍ يطرق فيها ولا تنظر إلى الآخرين المسجدين في مجالهم إلا بعين إقصائية إبعادية , تشبه نظرتهم نظرة الكبير للصغير المتعالية .
فضلاً على أنهم يقتاتون على العلم , ويرددون مصطلحات أكل الزمن عليها وشرب , لا جديد يذكر سوى القديم الذي استحدث أو استيراد النظريات والكتابات الغربية التي تترجم , بذلك وغيره كانت إخراجات الثقافة ضعيفة في الشكل والمضمون , مما خلق مسالك ومؤديات لا تحمد لها عاقبة , منها السواعد الفتية التي شاحت برؤوسها بعيداً عما تنتجه هذه الوسائل , المعدة راعيةً للثقافة في نشراتها ومجلاتها وصحافتها , التي تنهج نمطاً واحداً منذ الأزل , وهذا موافق لقول زهير :
ما أرانا نقول إلا معاراً أو معاداً من اللفظ مكروراً
هنا نضع حداً للتطور العلمي والمعرفي بوضعنا لتلك الخطوط المتوازية , التي لا تمكّن لأحد أن يستحدث أو يستكشف طرائق جديدة في فيما أخص العلوم النظرية المحضة أو التطبييقية البحتة .
وأنا حين أتحدث لا أقول أن الجميع بهذه الصفة , ولكنّهم نسبة تطغى وتلقي بضلالها على البقية المهمشة في المجال الثقافي , أيضاً الحرقة التي تسكنني كل هذه الأعوام منبعها , الإحصائيات التي وردت في كتاب (المعرفة قوة والحرية أيضاً) لـ د. فهد العرابي , الذي أطرد في كتابه أرقام حقيقية ولكنها أقرب للخيال , قائلاُ : أنّ الدول العربية مجتمعة تنفق 1.10 بالمائة على التعليم بينما إسرائيل الدخيلة تنفق ربع الناتج القومي على التعليم , وتُعنى بمخرجاته عناية بالغة ,مما يجعلني أجزم أنها القوة المعرفية والاقتصادية والعسكرية القادمة بقوة , هذا والكثير من الأرقام والحقائق عن عالمنا العربي وأقولها بكل أسف أنها (مخزية) وتجبرنا بعد ذلك أن ننكس رؤوسنا في عالم تسكنه الأشباح .
ثم إن الغرب لم يفرض ثقافته علينا ولكنّه سوق لها فلقيت عندنا أحضاناً مفرجة , وأبواباً مشرعة , وانجذاب عطشى لسراب بعيد , وأنا أدركت أننا نستطيع أن نحيي التراث القديم , ونكوّنه في صياغات جديدة بل ونزايد عليه بإضافات جوهرية تنعم بعقليات وعبقريات فذة في العالم العربي .
وحين اخترت هذا المحفل الثقافي للكتابة , لم يكن الاختيار إلا بفضل روية وطول تفكير , الذي يتميز بالانصهار في بوتقة العروبة , من كافة أصقاعها وامصارها .
قلم : محمد العياشي