سألنا أستاذ البلاغة عن سبب التوكيد بأكثر من مؤكد في هذه الآية ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )، وذلك لأن التوكيد بأكثر من مؤكد يدل على أن المتلقي للخبر منكرٍ له..
فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر هذا الأمر حتى يؤكده الله تعالى له ؟
والجواب : كلا.. لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم منكراً، ولا يمكن تصور ذلك أصلاً..
والتفصيل كان في هذا البحث الصغير..
خروج الكلام عن مقتضى الظاهر
يقسم البلاغيون الخبر إلى ثلاثة أضرب، وذلك على أساس علاقة الخبر بظاهرة التوكيد، وهذه الأضرب هي :
أولاً : الخبر الابتدائي : وهو الخبر الذي يُلقى إلى مخاطبٍ خالي الذهن، حيث يكون هذا الخبر خالياً من المؤكدات، نحو :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى...... فصادف قلباً خالياً فتمكنـا
ثانياً : الخبر الطلبي : وهو الخبر الذي يُلقى إلى مخاطبٍ مترددٍ في قوله، ولذا فإن المُلقي للخبر يؤكده بمؤكدٍ واحد، نحو قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).
ثالثاً : الخبر الإنكاري : وهو الخبر الذي ينكره المُخاطَبُ إنكاراً يحتاج المُلقي للخبر أن يؤكده بأكثر من مؤكد، نحو قوله تعالى ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ. قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ).
ويطلق البلاغيون على مطابقة الأسلوب الخبري لتلك الأحول السابقة : مراعاة مقتضى الظاهر.. أي لظاهر حال المُخاطَب..
إلا أن هناك اعتبارات تقتضي تخريج الكلام على خلاف مقتضى ظاهر الحال، وهذا التخريج هو ( باب من البلاغة أوقع في النفس من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر، لدقة مسلكه، وحسن موقعه في النفس)(1).
ومن هذا الخروج على مقتضى الظاهر :
أولاً : تنزيل العالم ـ بفائدة الخبر، أو لازمها، أو بهما معاً ـ منزلة الجاهلِ بذلك، لعدم جريه على موجب علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل به، كقولك لمن يعلم وجوب الصلاة، وهو لا يصلي : ( الصلاة واجبة ) توبيخاً له على عدم عمله بمقتضى علمه، وكقولك لمن يؤذي أباه : ( هذا أبوك ) (2).
ثانياً : تنزيل من هو خالي الذهن منزلة السائل المتردد، وذلك إذا كان في سياق الكلام ما يثير ترقبه وتشوّقه للخبر، لأن هذا الترقب لديه بمثابة التردد، وهذا يسوّغ تأكيد الخبر له رغم خلو ذهنه منه، كقوله تعالى (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)، فإنه لمّا قال ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ) بعد قوله تعالى ( وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا )، صار المقام مقام تلهّفٍ وترقب لمصير هؤلاء الظالمين، ولذا ورد الإخبار بهذا المصير مؤكداً (3).
ومنه أيضاً قوله تعالى ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
المخاطب في هذه الآية خالي الذهن من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى ( إنّ النفس لأمّارةٌ بالسوء ) غير أن هذا الحكم لما كان مسبوقاً بجملة أخرى وهي قوله تعالى ( وما أبري نفسي ) وهي تشير إلى أن النفس محكوم عليها بشي غير محبوب أصبح المخاطب مستشرفاً متطلعاً إلى نوع هذا الحكم، فنزل من أجل ذلك منزلة الطالب المتردد وألقي إليه الخبر مؤكداً (4).
ومنه أيضاً قول المتنبي :
ترفق أيّها المولى عليهم...... فإن الرّفق بالجاني عتاب
ثالثاً : تنزيل المنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن إنكاره لا قيمة له ولا اعتداد به، كقوله تعالى ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ).
فالخبر هنا جاء غير مؤكد، مع أن الكفار والمعرضين يرتابون في هذا الخبر وينكرونه، وذلك لأن إنكار القرآن هو إنكار الحقيقية الواضحة البيّنة الجلّية، وهو ضربٌ من الوهم والمكابرة والمعاندة، فلم يلتفت القرآن العظيم لهذا الإنكار، فساق الخبر من غير توكيد (5).
رابعاً : تنزيل غير المنُكر منزلة المنكر: إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، كقول حَجَل بن نضلَة القيسي ( من أولاد عَمّ شقيق ) :
جاء شَقيقٌ عارضاً رُمَحهُ...... إنَّ بني عَمك فيهم رماحُ
فشقيقٌ رَجلٌ لا يُنكر رماحَ بني عمّه، ولكن مجيئه على صورة المعجب بشجاعته، واضعاً رُمحَه على فخذيه بالعرض وهو راكب أو حَاملاً له عرضاً على كتفه في جهة العدُو بدون اكتراثه به، بمنزلة انكاره أنَّ لبني عمّه رماحاً، ولن يجد منهم مُقاوماً له كأنهم كلهم في نظره عُزلٌ، ليس مع أحد منهم رمحٌ. فأكَد له الكلامُ استهزاء به، وخُوطبَ خطاب التفات بعد غيبةٍ تهكما به، ورمياً له بالنزق وخرق الرَّأي (6).
وقوله تعالى ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ).
تجمع الحالتين السابقتين ـ إنزال المنكر منزلة غير المنكر وبالعكس ـ وهي تصوير لحال المنافقين عند لقائهم المؤمنين، ولقائهم الكافرين.
فعند لقائهم المؤمنين ومخاطبتهم إياهم جاء الخبر غير مؤكد، لأن حال هؤلاء المنافقين مكشوفة ومفضوحة لدى المؤمنين، وهم يعملون بذلك، ولذا فهم يحسّون وهم يدّعون الإيمان أن الإدعاء يخالف الحقيقة وتخفيها، فلا يقدرون على إبراز الدعوى إلا موجزة خافتة وغير مؤكدة.
إما إذا خلو إلى شياطينهم اليهود وإخوانهم من أهل الكفر والنفاق والضلال، شعروا حينها أنهم قد آبوا إلى حقيقتهم من الكفر وواقعهم الذي حاولوا إخفاءه أمام المؤمنين، فيأنسون بهم وتعلوا أصواتهم في الإعلان عنه، ويأتي التوكيد حينئذٍ ملائماً لهذا الإحساس لديهم.. وهكذا نجد المطابقة هنا ( مطابقة داخلية ) مردها نفوس هؤلاء المنافقين الذين صدر عنهم القول في الحالتين.
خامساً : تنزيل المتردد منزلة الخالي، كقولك للمُتردد في قدوم مسافر مع شهرته ( قدم الأمير ).
سادساً : تنزيل المتُردد منزلة المنكر، كقولك للسائل المستبعد لحصول الفرج ( إنَّ الفرج لقريب ).
سابعاً : تنزيل المنكر منزلة الخالي، إذا كان لديه دلائل وشواهد لو تأملها لارتدع وزال إنكاره، كقوله تعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) وكقولك لمن ينكر منفعة الطب ( الطب نافع ).
ثامناً : تنزيل المنكر منزلة المُتردد، كقولك لمن ينكر ( شرف الأدب ) إنكاراً ضعيفاً ( إن الجاه بالمال: انما يصحبك ما صحبك المال وامَّا الجاه بالأدب فأنه غير زائل عنك ) (7).
وقد يُساق الخبر ولا يكون هناك من مخاطب، بل يكون حينه مفصحاً عن توهّج انفعالات الأديب وعمق إحساسه بموضوع تجربته، نحو قول ابن الرومي في رثاء ابنه :
ابني انـك والعـزاء معـاً...... بالأمس لـف عليكمـا كفـن
تالله لا تنفـك لي شجنـاً...... يمضي الزمان وأنت لي شجن (8)
إقرأ قوله تعالى ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ).
لِم أُكّد الخبر هنا، وامرأة عمران تخاطب ربها العليم، وهو سبحانه أعلم بما وضعت ؟
يقيناً.. لا يُعقل أن يكون هذا التأكيد للمخاطَب..
إذن هل تؤكد لنفسها هي ؟ ولم ؟
نعم.. إنها تؤكد لنفسها.. لقد استقر في هذه النفس بأن جنينها الذي تحمله ذكر، ولهذا نذرته للعبادة ( ِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). فإن من شأن الذي يقوم على خدمة المعابد أن يكون ذكراً لا أنثى، ولكنها فوجئت حينما تمّ الوضع بأنها أنثى، وهذا لم يكن يخطر لها على بال ! من أجل ذلك كان هذا التأكيد.. إنها تريد أن تمحو ما استقر في نفسها، وأن تزيل آثار ذكريات الماضي، وأن تبدد ما أحدثه ذلك الأمل، فجاءت بقولها مؤكداً (9).
وآية ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )، التي هي مدار البحث، من إنزال منزلة غير المنكر منزلة المنكر، حيث الآية نزلت في عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب..
عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره : أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي طالب ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ). فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ). فأنزل الله تعالى فيه ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (10).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن منكراً على أن الهداية التوفيقية من عند الله تعالى وأنه لا دخل ولا إرادة لأحد فيها من البشر، لكن شدّة حرصه عليه الصلاة والسلام على إسلام عمّه الذي وقف معه ونصره وتحمّل ما تحمّل من أعباء وصعوبات، ليس أقلّها الحصار في الشعب لثلاث سنوات.. شدّة الحرص تلك جعله صلى الله عليه وسلم يُلحّ على عمه أن يقول كلمة التوحيد، لكن عمه أبى إلا أن يفارق الدنيا على دين الآباء والأجداد، مما أثر ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحزنه..
فالرسول صلى الله عليه وسلم انطلق من طبيعته البشرية التي ترغب في إسلام العمّ واستحقاقه الجنة، لكن الله تعالى ينبهه هنا إلى المهمة النبوية له، إذ إن عليه البلاغ المبين، وليست الهداية، وأنه ليست لعاطفة القرابة مكان في هذا المقام.
يقول سيد قطب رحمه الله :
( إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه من أمر الله وحده. فهذه القلوب من صنعه ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله. وما على الرسول إلا البلاغ. فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم سبحانه أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه. وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بدّ أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده.. ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد ) (11).
لذلك جاء الخبر مؤكداً بتوكيدين ( إنّ ) و ( لكنّ )، وليس ذلك لإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم للخبر، بل لأن التوكيد هنا له أثره في التوضيح والبيان، وقطع الطريق على أية عاطفة أو تساؤل أو محاولة لتخليص الكافر من عذاب الله تعالى بعدما تبيّن له الحق فأنكره، واستحق عقاب الله تعالى..
بمعنى أن التوكيد هنا لا يعني المخاطَب، بل هو توكيدٌ للخبر نفسه..
وهنا يقفز في ذهن الإنسان ذلك التساؤل عن عدم إيمان بعض الناس، مع ما يظهر منهم من إعجاب لدين الإسلام ومدحاً له !
لكن هذا السؤال في الحقيقة ينطلق من عقولنا الصغيرة المحدودة، بينما الله تعالى العليم الخبير يعلم الحقائق والضمائر والسرائر، لذا فإنه تعالى يوجهنا إلى الدعوة والتبليغ دون الخوض في ذلك التساؤل، فالهداية غير مختصة بنا نحن بني البشر.. والله تعالى أعلم..
............................
(1) بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبدالعال الصعيدي، القاهرة، 1420 هـ، ج1، ص36 ( الهامش ).
(2) جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي، القاهرة، 1425 هـ، ص54.
(3) علم المعاني في الموروث البلاغي، حسن طبل، ط2، مصر، 1425 هـ، ص25.
(4) علم المعاني، عبدالعزيز عتيق، بيروت، 1974، ص65 ـ 66.
(5) وقيل : إن هذه الآية خبر معناه النهي، أي لا ترتابوا. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق : سامي بن محمد سلامة، ط2،ار طيبة للنشر والتوزيع، 1999، ج1، ص162.
(6) جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي، ص55.
(7) جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي، ص55 ـ 56.
(8) علم المعاني في الموروث البلاغي، حسن طبل، ص58.
(9) البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) فضل حسن عباس، ط3، 1992، ص134.
(10) صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا، ط3، دار ابن كثير ـ بيروت، 1407 هـ، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، ج1، ص457.
(11) في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، 1412 هـ، ج1، ص314.