قراءة في لوح ذاكرة
كان الفصل شتاء، الظلام يرخي جناحيه على المكان ،والصمت يسيطر على الحياة ، صوت الرعد يتسلل بين الفينة والأخرى معلنا تمرده .
جلستْ على حافة السرير تلتحف الأحزان ،فيزداد إحساسها بالبرد، أخذت تتصفح ذاكرتها ،كانت صفحة واحدة ممتدة ، كتب عليها ألم..!
تنهدت طويلا ، تساءلت والشجون تستغرقها : ما طعم السعادة ؟ تتيه في دروب الأحزان ، حق لها أن تشق حجاب السؤال .... نعم فلقد ولدت يتيمة ، ومن ثدي أمها الكلمى مصمصت مزيجا من الدموع و الشجن ، كانت راضية بحياتها البسيطة في كنف أم طالما نومتها على إيقاع حكايات الإقدام والكرم التي كان بطلها الأب الفقيد . استغرقت الحكاية خيال الصغيرة طويلا ،رسمت له صورة في مخيالها الخصيب ، قبلتها وعانقتها مرات عديدة .
لكن وفي أحد الأيام أفاقت الصغيرة على صوت الزغاريد ،سرعان ما اتجهت نحوها لتجد أمها محاطة بنساء العائلة ، معهن رجل غريب في ردائه القشيب ، وقفت خلف ستار الإدراك لاتدري ماذا يحدث ،نامت تلك الليلة في حضن أمها وقد اختلطت بالدموع الدموع وصوت الأم المتهدج يتتعتع :"سـامـ حيـ ني صـ غيرتي كـْ كـْ كُل شيء كان رغـ ما عني "
بعد أسبوع عاد الرجل الغريب لينتزع منها أمها ويذرها وحيدة تتقاذفها أمواج البؤس والألم ما بين بيت عم وخال.
واتفق أن عاشت الصغيرة في بلدة بعيدا عن أمها ، تشتغل وتكد مقابل لقمة عيش وكلمة رضى. تترقب زيارة أمها كلما حال الحول ، لتقضي معها سويعات ثم ما تلبث أن تعود الى زوجها وأبنائها الجدد.
وذات مساء ، تلقفت أذنها الحساسة خبرا لا كباقي الأخبار ، إنهم سيزوجونها ،لم يستشرها في هذا الأمرأحد ، ولم تعرف شيئا عن هذا الزوج ،فقط استشعرت رغبتهم في التخلص منها وإبعادها عنهم .....
رغم ذلك سعدت لهذاالخبر فعلى الأقل سيكون لها بيت وحياة خاصة ، لكن صدمتها كانت كبيرة لما علمت أن الزوج أرمل مسن يكبرها بعشرات السنين .
انتقلت الى بيتها الجديد وعاشت مع زوجها على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها ،تسهر على راحته وتعتني بأبنائه الأيتام ،حتى اذا صدر منها مايصدر من كل أم نحو أبنائها من عتاب أو عقاب ،ألبسوها قناع القسوة ، فتتحول الضحية من جديد في دربها الطويل إلى جلاد في أعين الجميع.
وسط هذه الدوامة نسيت كيف تكون أنثى ،فبعد اغتصاب الطفولة ،هاهي زهرة الشباب تذبل شيئا فشيئا ،فمهما تغيرت ألوان الحياة وأشكالها ، يبقى أحيانا لها الطعم ذاته ، طعم الألم.
اليوم وعلى أبواب السبعين ،تجلس على حافة السرير تداعب سبحتها و تتصفح ذاكرتها من جديد وكلها رضا بقضاء الله وقدره ،فما بعد العسر الا يسر،كيف لا وقد وهبها الله من هذا الزوج بنات كن لها نعم الرفيق ،وعلمنها كيف تعزف لحن الحياة وكيف تهزم قطعان الألم.
تمت بتاريخ : 24/12/2014