البداية في الجنة والنار؛ وجودهما يطمئنني جدا ويرعب الخوف داخلي.
وقد علمت أنه ليس من نعيم فوق الجنة أطمح فيه: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".
وليس من هول أبشع من النار أخاف منه: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا" .
ويريحني أكثر وأكثر وأكثر وأكثر وأكثر أنني لست في حاجة للناس أو لمساعدة من أحد لأنجو من العذاب المقيم ولأرتاح الراحة الأبدية في دار الخلد.. فالله وحده هو الذي يجتبى ويصطفى ويهدى ويوفق: "أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ" .
وما عليَّ إلا أن أسير على الطريق حتى النهاية كما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأثر الذي أحبه كثيرا: "لن يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة".
هذا يريحني جدا ؛ فلست خائفا من أحد من الناس، ولست حريصا على نيل رضا وإعجاب بشر.
ويا ويلي وحزني وسواد ليلى لو كانت حياتي بطولها وعرضها وحلوها ومرها وسلامها وحربها وغناها وفقرها، للخوف من بطش هذا.. أو الطمع فيما عند ذاك.. أو مداهنة هؤلاء.. أو تملق وطلب رضا أولئك.
يعتريني أحيانا الخوف لكن سرعان ما أشعر بلمسة أمان لن أجدها.. أبدا ً، حتى لو التمستها عند أقوم وأحكم وأعدل أهل الأرض.
فمن الحكيم الذي يهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم سوى الله سبحانه وتعالى؟
ومن العادل الذي لا يظلم الناس شيئا ً، الخبير بدخائل النفوس وخباياها وأسرارها غيره جل شأنه؟
ومن الذي يغفر لي إلا واسع المغفرة جل وعلا: "الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"؟
"وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ".
لكنى للمرة الأولى في حياتي أشعر بخوف شديد من نوع مختلف.. عندما حدد لي طبيبي موعد إجراء العملية في الجهاز الهضمي بالمنظار عندما أصبح لا مفر من إجرائها.
تركت أمي (تناكف) في الطبيب على طريقتها -
طمني يا دكتور هل ستنجح العملية؟
هل سيعود هشام كما كان؟
أخبرني يا دكتور، هل أجريت هذه العملية قبل ذلك ونجحت؟! (وهو جراح مشهور وأستاذ كبير بكلية الطب ومركز جراحة الجهاز الهضمي) وصديق عزيز .
فيضحك لها ويقول: (والله أنت زى العسل )!
لم أخف من شيء ساعتها خوفي من البشر!!
خوفي من أن أضطر إلى الخوف منهم والطمع فيما عندهم!
أخاف من خذلانهم وأنا في أشد الحاجة لوقوفهم بجانبي.
وجاءني الرد في نفس الجلسة وأمي تسأل الطبيب عن تكاليف العملية!
فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامته الملائكية وقال لها: هشام أخويا وحبيبي.. وقد خفضت من ثمن العملية أربعة آلاف جنيه!
لست في حاجة لذكر اسم هذا الطبيب الإنسان الكريم الحنون، فهو ليس في حاجة لدعاية، لكنى أثق أنه أحد جند الله لطمأنتي وإرعاب الخوف بداخلي.
وبالمناسبة فهو من قرائى وكان له برنامج طبي على قناة الرحمة الفضائية.
وليلتها زارتني أختي الكبيرة وتكفلت بكل مصاريف العملية، وتلك عادتها معي في الأوقات الحرجة والمواقف العصيبة.
لا أذكر أنني شعرت بطمأنينة قبل ذلك مثل تلك التي شعرت بها والناس أفواجا تعودني في مرضى بعد إجراء العملية.
ساعتها فهمت فلسفة الإسلام في جعل المؤمنين في تعاطفهم وتوادهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وفهمت لماذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني".
عرفت ساعتها السبب الذي كان من أجله النبي صلى الله عليه وسلم يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله ويقول: كيف تجدك؟
وأيضا فهمت جيدا أسباب القلق والاكتئاب والانتحار والخوف الذي يسود المجتمعات غير المسلمة.
فهناك الإنسان لا يرجو ما عند الله، بل يرجو ما عند الإنسان.
وهناك الإنسان لا يهتم إلا بنفسه ومصلحته ودنياه وماله وشهوته.
وهناك الإنسان يحبس نفسه ببيته ويعتزل العالم خوفا ً من الوحوش المفترسة والذئاب الجائعة في الشارع.
وهناك إذا مرض الإنسان فلا صديق يقف بجانبه.. ولا جار يؤنسه ولا صديق يزوره ولا قريب يرعاه.
وهناك الإنسان لا يخاف من الله.. بل يخاف من الإنسان.
قالها الشاعر التركي برهان الدين باش سراج، بليغة جدا جداً:
كل شيء يخاف من شيء
الذي يخيف النار هو الماء
والصفر يخاف من وضعه على اليسار
والبللور يخاف من الاصطدام بالحجر
هذا يخاف من ذاك
وذاك يخاف من هذا
أما الذي يخيف الإنسان فهو الإنسان