.. ثم انحسر النهار. إنه نهار شتوي لا تكاد الشمس تحيي الأرض حتى تسأم من بياضها وترحل خلف الجبل العالي ، ولكنه كان كما شعرت نهارا امتدت أطرافه ، مضى في حضور المحاضرات والتدريس في الجامعة. غمرتني الفرحة والاعتداد بالنفس بعد أن سمح لي أستاذي بتدريس مادة خصائص مقاومة المواد لطلابه، وكم اعتراني الارتباك ولبسني من الخوف أيضا وأنا أستعد لأول مرة أمثل فيها أمام طلاب يعدون الهفوة الصغيرة جريمة نكراء، كان علي أن أواجههم بحدين شاحذين ، الأول حد اللغة والثاني حد المعلومات الهندسية. المهم أن النهار انتهى وأخذ معه أحداثه التي دخلت في مجال الذكريات وخزنها على شريط وهمي في العقل الباطن. عندما دخلت إلى المنزل كنت أحمل على كتفي حقيبة الكتب وفي يدي محتويات صندوق البريد المثبت على الجدار عند مدخل المنزل. وضعت كل ما أحمل على طاولة الدراسة في الصالة. لفت نظري رسالة شخصية بين رسائل الفواتير والدعايات المختلفة التي تأتي كل يوم، ما أكثرها وما أقل معنى جلّها. رأيت على تلك الرسالة طابعا عراقيا فاستغربت.. التقطتها ، إنها من فؤاد أحد الذين عرفتهم ممن أنهوا الدراسة وعادوا إلى البلاد. في الواقع لم يخطر لي ببال أنه سيكتب لي رسالة فكل الذين رحلوا من هذا المكان انقطعت أخبارهم وكأنهم انتقلوا إلى عالم آخر ليس فيه وسائل اتصال، أو أنهم اعتبروا وجودهم في هذا المكان مرحلة مؤقتة استظلوا بها ومضت لايسجلها التاريخ في ملف الذكريات. كانت تلك أول رسالة من فؤاد منذ أن غادر قبل ثلاثة أشهر. قمت بفض الرسالة وأخذت أقرأ محتواها. فؤاد يكتب لي عن حياته بعد عودته إلى بلاده.. كثير من الكلمات بالعامية والخط رديء. حاولت بصعوبة استنباط معانيها وفهم كل ما كتبه فيها. لاحظت كلمة القلب تتردد في الرسالة في كل سطر أو سطرين، وكان فيها أخبار جيدة عنه فقد تزوج فور عودته، وكما كتب في رسالته: (هي متواضعة، اتفقت معها أن نعيش الحياة بقلوبنا وعقولنا على بساطتها وأن نتشارك في كل ما فيها ونعقد اتفاقا بين القلوب). وكتب أيضا: (عينوني أستاذا في كلية العلوم بالجامعة وقدروني تقديرا جميلا، وأنا سعيد بالعودة وقلبي مليء بالغبطة والسرور).
أثناء القراءة أجبرتني رداءة الخط على أخذ استراحة وأنا مازلت جالسا على الأريكة وحذاء الثلج يغطي قدمي الباردتين. استطردت مخيلتي بعض الذكريات عن فؤاد في هذه المدينة الجبلية.. كان مبتعثا لتحصيل درجة الدكتوراه من أمريكا. عانى كثيرا في الحصول عليها حيث امتدت فترة الدراسة عددا من السنوات فاق السبع. صارع المرض وانتصر عليه طيلة فترة الدراسة. كان مصابا بمرض عضال في القلب أدخل بسببه المستشفى مرات وهو على حافة الموت. لم أكن على علم بأمر مرضه حتى مراحل متأخرة من معرفتي به حين أراني صورة شخصية أخذت له منذ تسع سنوات ظهر فيها مليئا بالحيوية والنشاط، متورد الوجه مكتنزا، وعلى رأسه شعر كثيف. في الحقيقة لم أشعر أنه مرة أظهر مرضه أو استخدمه في استقطاب الشفقة.
.. ثم رحت أتخيل شكله من ذاكرتي.. هو في الرابعة والثلاثين من عمره نحيل البنية ضعيف الهمة شعره أسود طويل وقليل، ذو لحية خفيفة سوداء غير مشذبة، متجعد الوجه غائر الوجنتين لا تخاله إلا مبتسما أو ضاحكا بجدية أو باستهزاء لا تدري، يحمل عكازا في يده اليمنى يتكئ عليه وهو يعرج بسبب حادث سيارة حصل له أثناء عودته من لاس فيغاس في أول سنة له في أمريكا. ثم رحت أتخيله وأتذكره عندما قابلته لأول مرة منذ خمس سنوات في مطعم مساكن الجامعة عندما كنت غرا بعد عدة أيام من وصولي إلى أمريكا. كان بصحبته بعض الطلاب العرب عندما دعوني لأشاركهم الجلسة. كان فؤاد أول الذين رحب بي وراح - خلافا لغيره - يثني على علاقات العرب مع بعضهم ويقول ( إحنا العرب كلنا إخوان وطيبون). فقال أحد الحاضرين وهو على الأغلب يمازحه: أنت (...) ولا يحق لك أن تتكلم عن هذا. ثم نظر إلي، فضحك فؤاد فاغرا فاه وقد ازدادت وجنتاه خسوفا وقال مقهقها: وأنت مخبول وعقلك نازل في رأسك بشكل معوج. تناثر الرذاذ وفتات الطعام من فمه أثناء الكلام والمضغ والضحك، أجابه أحدهم: يرسلونكم بعثات ويعرفون أنكم تستسلمون للغربة ولا تعودون وهكذا يتخلصون منكم. لم يكن ذلك الحديث ولا الذي تبعه في الأيام التالية مألوفا بالنسبة لي فلم أكن من الخائضين في متاهاتهم في التجريح والتربص لبعضهم بعضا. ثم لم يمض علي إلا ثلاثة أشهر حتى انتقلت من مساكن الجامعة إلى بيت خارج حدود الجامعة ولم أعد أتردد على ذلك المطعم لعدم الحاجة إليه. بقيت علاقتي بفؤاد علاقة سطحية كمثله من الآخرين سوى قلة منهم. تقدم إلي مرة وأخبرني أنه من متذوقي الشعر ويحب أن يرى بعض أشعاري. فرحت لهذا المقال وكنت في تلك الأيام أكتب شعرا وليس بالشعر الموزون وإنما خواطر إنسانية أصفها على شكل الشعر الموزون والمقفى، وهذا كان لي شعرا.. وأي شعر، أعبر فيه لنفسي عن اختلاجات الجوارح وعما يجول بخاطري من الانفعالات تجاه الحياة وأمورها ، الماضي والحاضر والمستقبل. ثم اكتشفت أنه يكتب الشعر ، هكذا ادعى ، ولكن كتاباته التي سماها شعرا كانت أسوأ مما أكتب، فأخطاؤه النحوية أكثر من أخطائي والكلمات العامية لا يخلو منها بيت أو قصيدة. لم يجد من يهتم بكتاباته ولم أجد من يهتم بكتاباتي كما رغبت، والجو في تلك المدينة الصغيرة البعيدة القابعة بين التلال في جبال (روكي) لا يساعد على ترويض الموجودين من العرب ليسمعوا الشعر أو يتذقوا الأدب في الغربة. كان كل منا يعلم أن ثقافة الآخر الأدبية ضحلة في بلاد الاغتراب، فلا الكتب العربية متوفرة ولا أدباء يتبنون قضايا أدبية، فقد كنا بالإضافة إلى الانشغال بالدراسة الجامعية في انعزال عن كل ما يسمى أدبا عربيا أو حتى لغة عربية إلا الحوار العادي بين العرب. كنا نتبادل القصائد بين وقت وآخر وكل واحد يدعي أنه معجب بكتابة الآخر. كأن تلك الفترة كانت مرحلة الولادة في حب التعبير بالكلمات لكلينا.
ومضت الأيام وكل منا له أصدقاؤه وحياته الخاصة في ذلك المجتمع الغريب. جاء في ظهيرة أحد الأيام وجلس أمامي في مطعم الجامعة الرئيسي. علت وجهه ابتسامة حقيقية حين أخبرني أن أستاذه حدد له موعد المناقشة والدفاع بعد شهر وأنه على يقين أن هذه المرة هي المرة الأخيرة. باركت له. ثم طلب مني شراء سيارته الحمراء القديمة منه وكان قد ابتاعها مني قبل سنتين. قلت: عندي سيارة. فألح علي وقال: سأقبل بستمائة دولار، فأنا بحاجة ماسة إلى نقود تحضيرا للسفر، وسأسلمك السيارة قبل سفري. اتفقنا.
جاء لزيارتي قبل سفره بيومين ومعه أوراق السيارة. وضع عكازه على الأرض إلى جانبه وجلس وعلى وجهه بسمة استهزاء، أهي من الحياة أم مني أم منه نفسه؟ لم أبالي. وضع توقيعه على ورقة الملكية في المكان المخصص للبائع وسلمني الأوراق ثم قال وهو يضحك: السيارة في الحجز. فوجئت واستغربت من الأمر وسألته عن السبب. قال أوفقه شرطي المرور في الليلة الفائتة ووجده مخمورا فقبض عليه وحجز رخصة القيادة والسيارة ثم أخلي سبيله بتعهد مالي دفعه أحدهم على أن يظهر أمام القاضي خلال أسبوع. ولما يفعل.. ثم سافر وذهبت أنا لفك السيارة من الحجز باعتباري أملكها.
رجعت بمخيلتي من تلك الرحلة في بحر الذكريات إلى المنزل والأريكة والرسالة، وعندما انتهيت من قراءة الرسالة علت البسمة وجهي من حضور تلك الذكريات. ثم وقع نظري على الغليون المثبت على قاعدته فوق أحد الرفوف ,إلى جانبه قاعدة فارغة، كنت أملك اثنين، أهديت الثاني إلى فؤاد في اليوم الأخير قبل سفره، أثقل علي وأحرجني عندما أبدى إعجابه به وطلبه مني ذكرى، هو لا يدخن فقلبه لا يحتمل نفسا واحدا من هذا الغليون، ومع هذا قدمته له فرفعه إلى فمه وأدخل مقدمه بين شفتيه لعله تمنى أن يحشوه بالتبغ ويشعله ليعبر عن فرحته بالعودة إلى بلاده. عدت مرة أخرى إلى مجلسي من تلك الذكريات، ذكريات فؤاد وقلبه والغليون، وأخذت شهيقا عميقا ثم نهضت ودخلت إلى غرفة النوم. خلعت ملابس النهار ولبست ملابس المساء ثم بدأت بتحضير الطعام. نظرت من النافذة فرأيت قطع الثلج تتهادى نحو الأرض البيضاء القاسية لتزيد من بياضها وتضفي عليها طراوة، ثم جاء لزيارتي في تلك الأمسية أحد الذين كانوا من أصدقاء فؤاد المقربين. استقبلته متعجبا من زيارته لي دون سبب واضح في هذه الأمسية المثلجة. قال: أتيت شخصياً لأنقل لك خبر وفاة الصديق فؤاد، حدث ذلك منذ ثلاثة أيام عندما توقف قلبه فجأة ومات، وقد علمنا بالأمر اليوم..
لقد توقف فؤاده وأسلم روحه لبارئها ما بين كتابة الرسالة لي ووقت قراءتي للرسالة. تأثرت حتى دمعت عيناي.