الحجاب .. رؤية نقدية
النقد مسألة تخضع للموضوعية والتناول المنطقى بغرض الوصول إلى رأى وحكم سليم بمعزل عن الهوى والعاطفة والمصالح، أما القفزات المفاجئة من زاوية لأخرى دون تأمل وتشريح وتفكيك للاشكاليات ونظر فى اللوحة بكل تفاصيلها وأبعادها ، فهى ما تؤدى حتماً إلى الارتطام بأسوار اللاموضوعية واللاعقلانية.
قد يتناول البعض الحجاب ويبدى رأيه فيه بنية طيبة، وقد يكون مقصدهم نفى تهمة التخلف عن المرأة المسلمة فى محاولة لإلحاقها بموكب الحضارة والعصرنة ، وبعض النوايا الطيبة بدون رؤى نقدية مفاهيمية متكاملة قد تخلق الكوارث، مع يقيننا بوجود أصحاب نوايا ومقاصد خبيثة.
وعلى إثر الفوضى الدينية والفكرية والأخلاقية والسياسية التى عمت شوارع المحروسة وشاشاتها طوال الفترة الماضية يسعى البعض لطرح علاجات يظنها ناجعة وهى فى حقيقتها ضارة، وفى حين يحتاج الأمر لمبضع جراح ماهر محترف لاستئصال الأورام الخبيثة والأفكار الهدامة والممارسات الشاذة بدون ايذاء للأعضاء والأنسجة السليمة، يتقدم بعضهم بساطور جزار يدهس ويبتر ويفرم كل ما أمامه وكل ما تصل إليه يده.
الحجاب لوحة تحتاج لقراءة حكيمة ومنصفة ، ولابد من الوقوف أمامها فى زاوية الرؤية السليمة، لا النظر من زاوية ضيقة تظهر جانب دون آخر، ولابد من التوسط أمام اللوحة ومواجهتها، لا إعطائها ظهورنا والتعامل معها بمواقف وقناعات مسبقة، ولابد من توفر انارة كافية لرؤية اللوحة من جميع الجهات بوضوح كامل ، والنظر للمرأة المحجبة من زوايا حادة أو فى مناخ مظلم سوداوى بدون انارات وشمولية الرؤى النقدية المتكاملة ، سيذهب حتماً بالبعض الى أحكام تعميمية جائرة .
أمام لوحة الزى الهندى أو اليابانى نقف من زاوية رؤية سليمة ، ونكتشف أنهن ساهمن فى ترقى شعوبهن دون أن تتخلى احداهن عن خصوصيتها فى الملبس ، وكذلك الحجاب عندما نعمق رؤيتنا له وننظر الى ملايين المحجبات فى المصانع والمستشفيات والمدارس والجامعات والشركات والحقول ، بل فى الفن والثقافة والابداع ، فكيف نعمم على تلك الجموع وصف التخلف ، وهن صانعات ابداع متجدد ومنتج ؟
على مستوى القدوة فالبحث هنا ليس عن مظهر إنما عن قيمة وسلوك أخلاقى وتأثير فى الحياة سواء اجتماعى أو ثقافى أو سياسى أو علمى ، وصاحبة السلوك السيئ لا يُتهم حجابها أو سفورها انما شخصيتها ، والانسان يسقط فى الاختبار الحضارى المرتبط بالدين ، فلا يفيد أى ادعاء أو أى مظهر اذا كانت قيمة الدين وجوهره الذى يمس قضية الاستخلاف والاسهام فى البنيان والعمران والتنمية ونشر الخير وبذل المعروف غائبة ومضيعة فى تيه السقوط والابتذال ، واذا غابت القيمة غاب الجلال والاحترام والتقدير، وصار وجود هذا الانسان باهتاً بلا قيمة تذكر فى الحياة حتى ولو اختفى وراء مظاهر التدين.
البعد الجمالى ذو أهمية فائقة، فلا ينبغى أن يكون الحجاب خصماً من جمال المرأة أو زينتها، بل أداة لاستكمال عناصر جمال اللوحة، وحتى يتم التوازن لابد من توفره لينسجم مع الكون الذى خلقه الله جميلاً، وفى ميدان الموضة والابهار، فللحجاب اليوم خطوط موضة خاصة به تنافس أحدث الموضات، ويتنافس أشهر مصممى الأزياء فى قلب معاقل الموضة فى ابتكار أجمل التصميمات للمرأة المحجبة، والاقبال يتزايد على بيوت الأزياء العالمية من نساء عربيات وأوربيات على هذا الشكل من الموضة الراقية التى تحفظ للمرأة كرامتها ووقارها وجمالها.
التدين ليس بالإدعاء إنما هو إبداع حضارى متكامل لا يرتبط بالمظهر بقدر ارتباطه بنسق متكامل من القيم الايمانية والتعبدية والأخلاقية والسلوكية والجمالية والمعرفية والذوقية والفكرية ، والحجاب قيمة مرتبطة بالانسان وقناعاته واختياراته فى الحياة ، وليس بانتمائه السياسى أو الفكرى وقد شاهدنا محجبة ترقص فى الشارع بعد التصويت على الاستفتاء ، وحولها محجبات يصفقن ويغنين ويشجعنها ، وكثيرات محجبات ضد خيارات الإخوان.
حجاب أول مذيعة تظهرعلى التلفزيون عده " الاسلاميون " انجازاً ورفض بعض القيادات " الاسلامية " الظهور مع المذيعات غير المحجبات فى الاستديو الا من وراء حجاب، وسلوكهم مع المرشحات على قوائمهم الانتخابية ، ونساء مصر غير المحجبات لم يستحققن هذه النظرة المتدنية كأن كل غير محجبة فهى غير شريفة أو سيئة السلوك ومعاملتها باستعلاء كخصمة وعدوة.
فى المقابل النظرة الى المحجبة على أنها عضوة فى تنظيم أو متطرفة ، كل ذلك أتى على خلفية تحويل القضية الى صراع سياسى والنظر الى اللوحة من الفريقين من زوايا ضيقة وبدون انارة كافية لكل معالم وتفاصيل اللوحة.
نحن اليوم فى حاجة للنقد الموضوعى المنصف ، وللرؤى النقدية الواعية المتعمقة الحريصة ، للخروج الى ميادين العمل والانتاج بنموذج الانسان المتكامل ، الذى يعرف معنى الدين ويطبقه بشموله فى نفسه وأسرته ومجتمعه.
وفى حاجة لتربية الأجيال على الجلال والجمال والتنوع واحترام اختيارات الآخر؛ وعلى القوة والخبرة والكفاءة والعطاء وبذل الخير والابداع فى الحياة ، وعلى الذوق الراقى بدون تطرف ولا مغالاة من جانب، أو ابتذال وهبوط من جانب آخر.
نحن فى حاجة إلى النظر إلى مصر العظيمة كلوحة جميلة متكاملة، بتنوعها الرائع، بنسائها الراقيات محجبات وغير محجبات، وبشوارعها وبميادينها جميعاً.. ولنتجاوز طرح ميدان مقابل ميدان.