ونزولاً عند رغبة استاذي سمير العمري ولأجل كل الزوار واهل الواحة الأحباء
بحثت لكم عن بعض التعريف بكتب أدبية وهنا أولها ناقلة هذا التعريف بالكتاب
من موقع فهارس.
مفهوم الشعر في كتاب "طبقات فحول الشعراء.
د. عمر عبد الواحد
يعد كتاب (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي) مصدراً نقدياً مهماً يفيد في دراسة بدايات النقد الأدبي عند العرب، والتأسيس لقضاياه.
وكان مؤلفه: أبو عبدالله محمد بن سلام الجمحي (139هـ - 231هـ) راوية، لغوياً، أديباً، محدَثاً من أسرة تشتغل برواية اللغة والأدب فضلاً على رواية الحديث النبوي الشريف، ولذلك استمد عنوان كتابه الطبقات وهيكل بناءه من مجال علوم الحديث ومعرفة أحوال الرجال، كما عني في كتابه بقضية توثيق المرويات الشعرية، فناقش في مقدمة كتابه قضية الانتحال في الشعر القديم واقترح حلولاً لها. وتحولت تراجمه - في متن الكتاب- إلى دراسة تطبيقية يمحّص فيها ما يروى لكل شاعر، ويشير إلى الصحيح والمنحول من شعره ويعلل ذلك.
وقد قسم ابن سلام كتابه قسمين كبيرين الأول: لفحول الشعراء في الجاهلية، والثاني لفحول شعراء الإسلام مدرجاً في طبقاتهما الشعراء المخضرمين ثم خصص طبقة لشعراء القرى العربية (المدينة ومكة والطائف والبحرين). ومع أنه تحدث عن شعراء المدينة في الطبقة السابقة إلا أنه أفرد طبقة أخرى لشعراء يهودها قائلاً: "وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد" وخصص كذلك طبقة لشعراء المراثي لم يشغله فيها الحديث عن دوافعه كفن إنساني، وإنما شغل فيها بتفصيل أخبار العرب ووقائعها مما يتفق مع ما أعلنه بقوله في مفتتح كتابه "ذكرنا العرب وأشعارها والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب وكذلك فرسانها وساداتها، وأيامها، فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم، ولا يستغني عن علمه ناظر في أمر العرب، فبدأنا بالشعر".
مما يوحي بأن دوافعه للتأليف لم تكن نقدية خالصة بل كانت تشوبها أغراض التاريخ للمجتمع العربي، فقد أعلى ابن سلام من دور الشاعر في المجتمع العربي وعده من طائفة الأبطال، والفرسان، والسادات، والأشراف التي تتشارك في صنع الأحداث التاريخية"الأيام". وكان ابن سلام كذلك مشغولاً بالهموم الثقافية التي سادت عصره كجمع اللغة وتدوين التراث، ولذلك تبنى مقولة "الشعر ديوان العرب"، وربط بين الشعر والحرب والصراع وتوحّد في حسه النقدي الأصيل والجميل.
وسنحاول في هذه الدراسة الموجزة استكشاف مفهوم الشعر في كتاب الطبقات لابن سلام بتحليل المقولات النقدية الواردة فيه.
قدم ابن سلام الجمحي 231هـ في كتابه طبقات حول الشعراء ما يشير على إدراكه لخصوصية الشعر، ويعبر عن تصور لطبيعته، تتمثل عناصره فيما يأتي:
أ-القريحة (مصدر الشعر) :
ورد في لسان العرب (قريحة الإنسان: طبيعته التي جبل عليها، لأنها أول خلقته.. وقيل قريحة كل شيء أوله)(1) وقد استعملها ابن سلام في السياقات التالية:
1-(لم يكن أوس بن مغراء إلى النابغة الجعدي في قريحة الشعر، وكان النابغة فوقه.. وغلب الناس أوسا)ص126ج1
وعلق محقق الكتاب: (القريحة: خالص الطبيعة التي جبل عليها، وجوهرها الصافي غير المشوب، يعني استنباط الشعر بجودة الطبع) هامش ص126ج1.
2-يقول ابن سلام عن خداش بن زهير (هو أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبي الناس إلا تقدمه لبيد)ص144ج1.
3-وقال أيضاً: (الكميت بن معروف، وهو شاعر، وجده الكميت بن ثعلبة شاعر، وكميت بن زيد الآخر شاعر. والكميت بن معروف الأوسط أشعرهم قريحة، والكميت بن زيد أكثرهم شعراً)ص195ج1.
ولعل ابن سلام يستعمل اصطلاح (القريحة) بمعنى مشابه لاصطلاح (الطبيعة) أو (عرق الصناعة) لدى بشر بن المعتمر 210هـ(2) أو (الطبع) و (الغريزة) لدى الجاحظ(3) ، أو (الغريزة) و (الطبع) لدى ابن قتيبة(4)، أو (الطبع) لدى القاضي الجرجاني(5)، أو (الطبع) و (الآلة) لدى ابن سنان الخفاجي(6)، أو (الملكة) عند
ابن خلدون(7).وكل هذه الاصطلاحات تشير -على نحو من الأنحاء- إلى الموهبة اللازمة للإبداع الفني والاستعداد الفطري له. وهو ما يمكن أن يفهم أيضاً من قول ابن سلام (وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم به، كسائر أصناف العلم والصناعات)ص5ج1، فمهما يكن ضبط كلمة صناعة -عند المحقق هامش ص5ج1- بفتح الصاد أو بكسرها، نستطيع استنتاج أن للشعر صناعة يصح أن تقرن بالعلم. ويمكن أن توضح دلالاتها عبارة ابن خلدون الآتية - على الرغم من الفرق الزمني الهائل بينهما - (الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري)(8).
ثم ينتصر للموقف الشعري الدال على اختيار الطبع(9)، من ذلك ما يذكره من إعجاب الأصمعي بشعر النابغة الجعدي، الذي يدل اختلافه على جودة طبع صاحبه ص124-125ج1.
وجعل من حجج المقدمين للنابغة (كأن شعره كلام ليس فيه تكلف) ص56 ج1 كما قال عن الأعشى (وكان أبو الخطاب الأخفش مستهتراً به يقدمه. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره) ص166ج1-ويشرح المحقق عبارة أبي عمرو بقوله: (يقول أنه يصطاد الجيد والرديء لا يبالي) هامش الصفحة السابقة. أي أنه مختلف الشعر مثل النابغة الجعدي، وفي هذا دليل على استسلامه لقوة طبعه عند قول الشعر، ولذلك كان يقدمه الأخفش. كما يروي ابن سلام حكم الأخطل بتفضيل جرير على الفرزدق، لغزارة طبعه، وتدفقه، وسهولة الشعر عليه (جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر) ص451ج1.
ب-الشعر والكذب: لعل من الدلالات المهمة للكذب في الشعر دلالة فنية، تربط بينه وبين التصوير، نجدها واضحة في ربط بعض الفلاسفة المسلمين أثناء شرحهم لكتاب فن الشعر لأرسطو بين التخييل والكذب(10). كما تتمثل أيضاً في قول عبدالقاهر الجرجاني 471هـ: (ومن قال -(خير الشعر) أكذبه- ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدعي الحقيقة فيما اصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدأ في اختراع الصور ويعيد، ويصادف مضطرباً كيف شاء واسعاً، ومدداً من المعاني متتابعاً)(11).
وكذلك هناك دلالة أخلاقية للكذب في الشعر، استناداً على وصف القرآن الكريم للشعراء بقوله تعالى: (وأنهم يقولون مالا يفعلون) س الشعراء ي 226، وقد استشهدها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران حين قال: (والشعراء مطلق لهم ذلك لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل)(12).ونحن نجد هذه الدلالة الأخلاقية -في الغالب- لدى من تغلب عليهم الثقافة العربية على سبيل المثال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين(13)، وابن رشيق القيرواني ت463هـ، في كتابه العمدة -حيث يذكر أن من فضائل الشعر أن (الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه)(14).
ونجد في كتاب طبقات فحول الشعراء نصوصاً، تشير: إلى ذلك الارتباط بين الشعر والكذب، هي:
1- يروي ابن سلام عن عمرو بن معاذ المعمري: (في التوراة: أبو ذؤيب مؤلف زورا. وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف زورا. فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه، وقال: قد بلغني ذلك) ص132ج1.وبعد أن استبعد السريانية من السياق، إذ العبارة -على هذا الشكل الأخير- عربية خالصة، تشير إلى من يؤلف الزور، وكأن في الشعر أمرين: التأليف والزور. والزور -في لغة العرب- (الكذب والباطل، وكلام مزور: مموه بكذب، وقيل: محسن، وقيل: هو المثقف قبل أن يتكلم به.. التزوير تزيين الكذب.. التزوير: التشبيه، والتزويق والتحسين. وزورت الشيء حسنته وقومته. وقال الأصمعي:التزوير تهيئة الكلام وتقديره)(15).
وعلى ذلك فالشعر لدى ابن سلام يرتبط بالكذب، بدلالته الأخلاقية والفنية على السواء، فكما تشير كلمة الزور إلى الباطل والكذب، تشير إلى التحسين.
2- يذكر ابن سلام عن كعب بن مالك (وكان أحد الثلاثة اللذين تخلفوا عن تبوك.. ويروي أن قومه قالوا في ذلك: لو اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض ما يعتذر به إلى الناس، عذرك قال: إني لأصنعهم لساناً وأقدرهم على ذلك، ولكن والله لا أعتذر إليه بكذب. وإن عذرني فيطلعه الله عليه) ص222-223ج1
فيذكر ابن سلام أن قوم هذا الشاعر أشاروا عليه أن يعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض ما يعتذر به إلى الناس على عادة الشعراء؛ كالنابغة. فأجاب كعب بما يتضمن ارتباط الشعر: بصناعة اللسان، ومقدرة خاصة بالشعر، وهما يرتبطان بالكذب. وهو لا يروج هذه المرة فقط لكون المتلقي نبياً يوحى إليه. ولكن ابن رشيق يرى أن الكذب في الشعر يغتفر، ويورد خبر كعب بن زهير واعتذاره بقصيدته (بانت سعاد) بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ *** قرآن فيه مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم *** أذنب ولو كثرت في الأقاويل