كان وقع الخبر قاسيا قسوة الحياة حين اتصل أحدهم بي من مصر ، ليصعقني بخبر وفاة (يارا) ابنة السنوات الخمس ، وابنة أحد أحب أصدقائي إلى قلبي ، إثر حادث مروع ، وقال لي أرجوك أخبر الدكتور محمد بأن ابنته ماتت بطريقتك وبهدوء ، وما درى محدثي على الطرف الثاني أنني أحتاج إلى من يخبرني بهدوء ، وكان الموقف من أصعب المواقف التي مررت بها في حياتي، ولم أستطع ليلتها النوم ، وكان لابد أن ألجأ إلى القلم راثيا عصفورتي الحبيبة (يارا) التي أحبتني كثيرا كما أحببتها:
كان يوما لن تسقطه الذكريات في بئر النسيان، حين رحلت الروح الطاهرة إلى بارئها.. وكان الوداع لائقا بهذا الطهر..
(يارا): يا نورا منبعثا من قنديل النقاء، مازال وجهك الملائكي الجميل يرافقني بابتسامته الطفولية البريئة، وستبقين رغم جفاف الغياب عصفورتي الجميلة ..
كنت أيتها الرائعة روعة الزهر تكرهين أنصاف القلوب، وكنت أمنحك قلبا كاملا؛ لأنك منحتني الحياة ببراءتها وطهرها.. كم أتوق إلى كلماتك العذبة ، وأنت تنكسرين أمام كل عاصفة غضب من والدك الحبيب ، وتلجئين إليّ كشراع يدرك الأمان على شاطئ من حب لتقولي: ( بحبك يا عمو سلطان أكثر من بابا ؛ لأنك مش بتزعقلي ، وبتفسحني كمان) .. أتذكر هذه الكلمات فأسهو في كل أنغامك الحزينة التي وقفت على شاطئ من رحيل..
الشوق إليك يا عصفورتي المهاجرة يورثني الجنون ، ويبللني كمطر مجنون يشاركني أحاديثي والتفاتاتي ، وأظنه يغتابني عند كل ركن كنت فيه معي، ويسعى بالنميمة بيني وبين الأشياء التي تحيط بي فتحاصرني ، فلا أجد فيها متسعا لالتقاط وجهي حين يقفز الحب في داخلي ، ويناديك كل حين بلهفة الشوق ، وهأنذا أناجي طيفك ، وأنسج من الخيال أحلاما أدثرك فيها، وأنت تمارسين شقاوة الأطفال..
يارا : يا اسما جميلا نطقه لساني ، ويا سمفونية حزينة عزفها قلبي ، لقد بات حالنا في غيابك موشوما بلعنة الذاكرة ، فرائحة حضورك تطغى ، وأكاد أسمع صوتك وأنت تجاهدين اللسان بنطق حرف الراء ؛ فأنهض لاستقبالك في كل حين..
- ما اسمك يا حبيبة؟؟
- اسمي ( ياغا) .. وقد كنت هكذا تنطقين اسمك الحبيب ، وكنت أحاول تعليمك النطق ، فلا تملين ، ولا تكرهين ذلك ، عندها كنت معلما ، ويبدو أنني كنت تلميذا في مدرسة الطهر التي اجتاحتني بفقدك، وبعد أن كنت حاضري الجميل ، أصبحت إشارة لماض شجي وأمنيات مغادرة، وكان مسرحها حيزا خفيا بين الروح والروح..
أتذكر الحبيب والدك الذي كان يسترك بين الجفن والجفن ، ويتذوق لطفك الحاني ، ويلحفك بحنانه .. بخوفه كطفل عنيد تتلاطم مشاعره ويعيش معك الطفولة في أبهى صورها . وأراه الآن وقد امتلأت حياته بالأسئلة الحائرة التي تغتال أيامه ، وأشاركه المشاعر فلتلك الأسئلة وخز السهام ، وطعن الذكريات ، ودموع الحرقة ، وكأنني به كان يحس بما سيحمل له المستقبل في حقائبه عندما كان يقول لي : ( يارا مش بنت عيشة يا سلطان) ..
يارا : يا غصة في الحلق ، يا عصفورة نقية .آه لو تعلمين حالي عندما جاءني الخبر . لقد مزقني وأذهلني .. لقد رحلت العصفورة ، فتهشمت أحلام كنت عليها أتكئ ، وصحوت على معانقة الموت ، وبت أراك في كل طفل يمر بي ؛ فلقد جمّعت في داخلي ( عبث أبي نواس ، وزهد أبي العتاهية ، وفلسفة المعري وإقبال )، بل عشت البداوة حين أصبحت أنسج أهاتي من نبضي ، وأشعل فتيل الشوق ، وأطوق المكان بحداء حزين..
اعذريني يا حبيبة على حروف تنكفئ في داخلي ، وعلى ليال من سهاد تستهلكني ، وكنت أود أن أكتب لك حروفا من نور ، فتداعت جراحات الذكرى الأليمة في جوانحي ، فالذكرى تبتلع الحروف من بين أصابعي .. كنت أود أن أرسم الفرح في عينيك ، فتفجر الحزن براكين في أوردتي ... كنت أود أن أغني للسلام الساكن في قلبك ، فلزمتني طقوس الأحزان التي تعشعش ولا تجد طريقها إلى المغادرة.
أتذكر كلمات والدك حين كان يبني أحلام مستقبلك ، وقد كان يود لو يبني بيتا من طابقين تكونين وعريسك القادم في أحدهما ، وما درى أن المستقبل يحمل في حقائبه أحزانا لا تنسى ، وعندما أتذكر كلامه أتوارى بين الحرف والحرف ، وأضع على صفحتي البيضاء إشارة استفهام كبيرة، ، وأرسم السؤال من حروف الصبر.. فكم صبرا يجب علينا أن نجتاز حتى نكشف حكمة الخالق العظيم في قضية الفقد؟؟!!
أجدني كلما تقلبت يطعنني فقدانك ، فأنام على سرير من قتاد وشوك، فقد أحببتك في كل لحظة ، وكأنني كنت أشعر بفقدك كل لحظة.. دعيني يا عصفورتي المهاجرة أجمع أجزائي المتناثرة ؛ فقد سحت على الأجفان عبرات السنين الخمس ، وامتلأت الرئة بالشجون، ويبدو أنني بحاجة إلى حزن يوازي حبي لك، وهاهي ذي شفاه القلم تعبث بجسد الكلمات لعلها تشعل نورا يضيء درب الحروف المهاجرة إلى عالمك النوراني الجميل، لعلني أقبس السنا من لهيب احتراق النفس .. أستشعر قدومك فأنظر إلى الساعة المعلقة على الجدار ، وأراها وقد توقفت عقاربها عن الدوران ، وكأنها تريد إيقاف الزمن عند حد الدهشة.. هكذا هي أيامي في لحظات الفقد ؛ جدار صامت ، وساعة متوقفة العقارب ، وبرودة تتداخل كلها لأنغمس فيها ؛ فالجدار يعلن موته ، والساعة توقفت نبضاتها، والليل يشدني إليه ، وأنظر إلى نفسي في هذا العالم ؛ فأراني مسافرا أحمل تذكرة الشوق لأستقل الوحدة ... الانتظار عند كل البشر محطة يذهبون عنها، وعندي إقامة جبرية طويلة..
صدق الله العظيم حين قال : { و لنبلونكم* بشي*ء من* الخوف* والجوع* و نقص* من* الأموال* والأنفس* والثمرات* و بشر الصابرين*}..
اللهم ألهم والدها ووالدتها الصبر والسلوان ،وعوضهم عنها الجنة ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا : إنا لله وإنا إليه لراجعون..
يكفينا فقط أن نوقن أنك في منازل الأبرار، فمن ذا الذي يصل هذه المرتبة؟؟!!
ثم ألا يحشر المرء مع من أحب ؟؟ بلى والله ، وإنني لأرجو أن يحشرني الله تعالى معك ، فقد أحببتك وأحببتني ، فوداعا يا عصفورتي المهاجرة..[/color][/frame]
[/size][/size]