علمتني الحياة
علمتني الحياة
علمتني الحياة، وكاشفتني أسرار الورى.. غرائب الدنيا وألاعيب الوجود..
تطفو على السطح في مستنقعات التماسيح، ومراتع الذئاب وملهى القرود..
علمتني الحياة كيف أسمو زاهيا في العلياء.. شامخا كالنسر على الروابي وفوق الجبال الشماء..
ناغتني في غفوتي وصحوتي؛ أن تمل يا ابن أمي ولا تطل النظر..
فما أبشع عمى القلوب، وما أقسى سوط اللسان ولهيب الندوب!
علمتني الحياة أن أكون بحارا يتقن فنون الحرب في غمرة الرياح الهوجاء..
في دنيا العباب والأعاصير والأنواء..
أغوص وأجلو مكنون الأعماق.. أكحل الطرف من مرأى الأسماك الزاهية، تتبختر كالطواويس بين أفنان المرجان..
أنا لست في نزهة.. وأنى لي وأنا في جنة يطوقها منطق الغاب وعالم الفناء.. ليس أمامي إلا أن أشد الشراع وأركب الأهوال.. لا أجبن إذا ما القارب تعثر وتلاشت الأشرعة أو كشر اليمُ مبتهجا بلذة الظفر..
علمتني الحياة أن كن ليثا في ميادين الأسود.. تفسح في الغاب وارصد عبث الوجود
أهجر موارد السوقة والغوغاء.. وعوالم البطش والأحقاد والأنانية والبغضاء..
فالقطة لا تتورع في التهام صغارها والتلذذ بعظمهم الهش ولحمهم الطري تحت شجي المواء.. والجحش لا يخجل من الصعود على ظهر أمه في عز الأضواء..
علمتني الحياة أن النفس إن ضاقت وأعياها طول الانتظار.. وأضناها اليأس يتراقص كلهيب النار، أن أشعل الشمع ـ يا ابن أمي ـ في الفلاة الداجية.. أن ترقب أن تتفجر الينابيع من جوف الصخور القاسية.. أن تبرأ الأرض من طول عقمها وتضع من كل لون بهيج توائم..
علمتني الحياة أن اسخر ملء جوانحك من الطواويس الجوفاء تستعرض حللها الممجوجة في زهو وخيلاء.. تردد ـ بلا حشمة ولا حياء ـ أنا ابن جلا، أنا ابن الأكرمين....
يا أمي الواعظة يا معلمتي أصول الانعتاق.. لقد شممت كريه الروائح إلى حدود الاختناق..
ذقته وما أمره من طعم!
اعتراني الخجل وما اهتزت شعرة في رؤوس الضباع وعيفة الكلاب.. زوديني المناعة الكافية لصد المغير إن احتل مني الفؤاد والجسد.. وحتى تستيقني ـ يا أعز الوجود ـ اسمعي عزف آهاتي وترجيع لساني.. أجل يا ملهمتي ومنظار فؤادي..
لقد تمسحت بأهدابك عاشقا مسكونا..
عازفا على أوتار القلوب نشيد الشذى..
على أنسجة عيون داهمها العور والقذى..
نزل في آذان الأفيال الورقية صواعق مزعجة.. أو كذباب الحمير يلهب الظهور بالعض فتركض في جنون.. هرعوا متحمسين إلى مواردهم التي فاقت جحور الذئاب والضباع نتانة..
أجمعوا أمرهم، سددوا بنادقهم إلى صدر القنديل كما تصوب إلى مجرم أو مناضل في ساحة الإعدام..
وأوحت إلي الحياة أن اسمع أيها الشحرور الجريح.. كيف للنغم السرمدي أن يخترقه الرصاص؟!
معزوفاتك إكسير في روح الوجود.. لحن يشدو به سلطان الوجود..
انثر جواهرك واسق الأرض العطشى.. لا تتجرع كأس الروع والانزعاج وصديد الأسى..
كن صلب العود لا ينال منك جور ولا يمسك لغوب..
ليس في الدنيا سامر ولا فيها أليف..
فالذباب الأزرق يستلذ المسرح في عرض المزابل وبطون الجيف..
ثمة ينتشي ويحكُ ذراعا بذراع في نشوة وخيلاء..
وحسبك أنا تسمو بنغمك السرمدي في دنيا الصفاء..
حصنه في البساتين، عند مجرى السواقي والرياض الفيحاء..
طب خاطرا واطمئن بالا يا ابن أمي، فثمة مقصد النحل وعيد الفراش والعنادل..
احذر أن تشح بندى لسانك فيجف الروض وتتعطل الأوتار وتغلي المراجل.. تفرج عن بعد يا أعز إخوتي وانحن بتواضع.. در الفارغات رؤوسهن تشمخ في أجواف المواخير المنتنة.. انظر بتشف للصكوك توشح صدور البوم والغربان..
افتح البصر كرتين فتعاين النهيق والنحيب يكرم على منصات الشرف..
وحينئذ اهرع إلى محرابك.. صل صلاة الغائب على أمراء اللغط والهراء والسفاهة.. أخلد إلى محرابك ولا تقصص رؤياك على أحد..
دعهم في المزابل يترنحون حتى تحتويهم الصاعقة من حيث لا يدرون..
"تراتيل من متحف الصقر العندليب"
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوتيار تمر
