أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19

الموضوع: أوراق مجهولة !

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 81
    المواضيع : 17
    الردود : 81
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي أوراق مجهولة !

    ها هي الأيام تسير على وتيرة واحدة .. لاشيء جديد ينمو فى حياة عبد العليم فايز.
    وقفت عيناه على مجموعة من الصور، مجموعة أثارته لأقصى درجة وهو يتمتم:- كلاب، كلاب.
    منذ سنوات عديدة وعبد العليم فايز يكتفي بالفرجة على الدنيا يرى أن الحياة أصبحت أشد قسوة وعنف مما كان يتصور
    فى ليلة باردة وفى جوف بئر كان عبد العليم يحفر بيده وأسنانه ليصل للماء
    قال له كبيرهم هنا يوجد ماء عليك أن تصل إليه أبذل كل جهدك وإلا ستموت .
    وقف الكبير يضحك وعبد العليم مستمر فى الحفر ،حتى كلت يداه وتورمت قدماه .. لأكثر من عشرين ساعة وهو فى قلب البئر يحفر بلا هوادة
    نظر إلى أعلى وجد أن المسافة بينه وبين سطح الأرض تباعدت كثيرا وكثيرا..
    لا يجد ولم يفكر أن يجد وقتها أفكارا تساعده على العثور على المياه.
    ولكنه قال لكبيرهم : الماء مستحيل الوصول إليه هنا.. أرجوك أسمح لي أن أصعد
    لم ينبس الكبير وهو يشير له أن يكمل الحفر، ساعة أخرى تمضي وهو فى أسفل ولأسفل يمضى.
    وفجأة قرر الصعود ، شيء بداخله قال له: اصعد لا سبيل لما يريدون منك.
    راحت يداه تتشبثان بنتوءات البئر يحاول أن يصعد، ولكن تلك المادة التي كانوا يقذفونها فى البئر ليل نهار ،كونت حائطا أملسا تتزحلق يداه من عليه؛ جعلت الأمر من المستحيلات
    وكلما حاول الصعود كلما سقط جسده بعنف ليرتطم بقاع البئر..
    شيء يدعوه أن يكمل ويكمل..
    فوقه كان الكبير يتطلع إليه فى تشفٍ
    ويضحك ضحكات عالية تصل إلى أذنيّ عبد العال فى البئر كأنها رجيع رياح.
    وصدؤها يغزو عقله بعنف..
    وعندما صعد أخيرا بعد أن أدلوا له حبلا بعد مرور ستّ ساعات أخرى كان القلق والخوف حفرا طريقهما فى كيانه ..
    بالكوريك الذي كان معلقا على ظهره أثناء صعوده وبعد أن خرج للسطح ورأى ضحكة الكبير عريضة وواسعة..
    انهال بالكوريك على رأس الكبير عدة ضربات أنبج بعدها الدم؛ ليغرق ملابسه وملابس الكبير الذي لم يصدق ما يحدث والذي راحت ابتسامته تتآكل من وجهه؛ لتصبح شيء أشبه بالبلاهة
    ووسط ذهول الجميع دفعه عبد العليم بيده؛ ليسقط فى البئر وهو يقذف الكوريك إليه وهو يقول صارخا : احفر هنا ربما وجدت أنت مياه .
    سيطر العسكر على عبد العليم وأوثقوه بقيود حديدية ودفعوه أمامهم؛ ليستقر فى زنزانة تحت الأرض وقد منعت عنه المياه والطعام .
    ثلاثة أيام.
    وصدر حكم من قائد الكتيبة بإعدام عبد العليم فايز بعد أن نزف الكبير فى قاع البئر حتى مات وفشلت كل محاولاتهم فى إنقاذه
    وقتها كان الأسرى كلهم فى حالة فرح ، مئات ماتوا منهم وهم يبحثون عن الماء نقط من الماء، حفروا الأرض بأسنانهم ، لم تخرج الأرض لهم سوي دماء .
    دماء أخوانهم الذين ماتوا إثر ضربهم بالنار وتشربتها الأرض .
    وقتذاك جهز عبد العليم نفسه للموت ، وحضر نفسه للقاء خالق الكون .
    الصفراء كانت تبدو فى السماء والرمال الصفراء حوله تشي أن الجحيم نفسه سيكون هنا . وهنا ستكون مقبرته، شيء داخله كان يدعوه للاطمئنان شيء يدعوه أن يظل ثابتا.
    لقد شاهد الموت فى أيامه السابقة آلاف المرات .
    الصحراء واسعة، والرمال تحرق والرصاص يخترق الصدور.
    كثيرون يتساقطون وتدوسهم الدبابات.
    لا يريدون أسري يريدونها مجزرة، مجزرة حقيقية.
    تشققت شفتاه ، حلقه أصبح جافا بطعم التراب ، يبتلع ريقه بصعوبة .
    وقتها وجده يقف على باب زنزانته، ويُفتح البابُ ويُدفع به إلى الداخل .
    مثله أسير حرب، وكم يتشابهان؟!
    ظن أنه ينظر لنفسه فى مرآة ولكنه التوهم .
    بل ملابس الجيش الواحدة الممزقة والتراب الذي يغطي الوجوه، كله يظنه يشبه.
    مال عليه بعد لحظات من دخوله قائلا :- أخلع ملابسك .
    - ماذا ؟!
    - لا وقت الآن لماذا ؟ أخلع ملابسك .
    الصوت كان يعرفه ، ولكن الذاكرة تخونه .
    وجد هذا الشخص يميل عليه بسرعة ويجذب سترته التي لوثتها دماء كبيرهم ثم يشير له وهو يقذف إليه سترته هو أن يلبسها .
    والشاب يردف:- ستجد أوراقي فى السترة كلها ، وصورة حبيبتي هدى حافظ عليها بحياتك ، هات أوراقك .
    لم يفهم عبد العليم وقتها ما يجري ، ولكن عند الليل أقبل عساكر العدو بطغيانهم وجبروتهم الرهيب .
    أخرجوا ذلك الشخص على أنه هو ، هو عبد العليم قاتل كبيرهم .
    بلع عبد العليم آنذاك التراب الذي يملأ حلقه. أراد أن يصرخ فيهم ليس هو، بل أنا ولكن شيئا دعاه للصمت .
    فى الصباح تذكر أين سمع هذا الصوت وهو ينضم للأسرى ،على أنه فتحي ، ذلك الشاب الهادئ الجميل ذو الصوت العذب والذي كان دوما يستمع له فى المعسكر وهو يردد الأغاني الوطنية
    ذلك فتحي الذي مات بدل منه بالرصاص، والذي قال لنفسه كثيرا كم يشبهني هذا الشاب ، نعم لم يكن يتوهم فهو شبيه له وبدرجة كبيرة ، فتحي قذفوه فى البئر الذي كان قد حفره عبد العليم وألقوا فوقه الجير الحي ، والبعض من زملائه الذين تكتموا الأمر قالوا له آنذاك :إنه من أراد هذا . وكلنا سنموت فلا تقلق..أنك بطل.
    بسترة فتحي عاش عبد العال شهورا طويلة فى الأسر .
    ماتت البسمة على وجهه ، وماتت الحياة بداخله .
    ومات هو كشخص .
    ذاق ويلات العذاب بكميات غير طبيعية .
    وعندما عاد مرة أخري للجيش بعد عملية تسليم أسري متبادل كان يحمل اسم فتحي .
    نقلوه لوحدة أخري فلم يهتم، بل سعد بالأمر .
    فهنا يعيش كفتحي .
    عبد العليم الجندي الوحيد تقريبا فى اللواء الثالث مشاه الذي لم يأخذ إجازة لمدة يومين وعلى مدار أربع سنوات منذ عودته من الأسر إلى الجيش .
    ظل يحمل أوراق فتحي، وحياة فتحي، ودين فتحي، وصورة هدي حبيبة فتحي وخطيبته ما زالت فى محفظته .
    كثيرا ما دار بذهنه أن يقول لقائد وحدته أنه عبد العليم وليس بفتحي ، ولكنه لاذ بالصمت لسنوات حتى العبور والنصر ..
    وقتها كان يعبر وفى قلبه شيء واحد أن يعود بعظام فتحي ؛ليدفنها فى مقبرة مصرية وكلمة شهيد بخط أسود عريض تكتب عليها .
    ولكن برغم هذا لم يصل لما يريد وعندما صدر قرار وقف أطلاق النار كاد يجن ، وكان يقول لنفسه :لا لم أصل بعد ، لا
    ولكنه قرار الجيش ويجب أن ينفذ.
    الرئيس يخطب فى مجلس الشعب ،الراديو ينقل الخطبة .. الجنود ترقص فرحا ، وعبد العليم يصرخ فى جذع : لا ، لا لم أصل بعد .
    ظن زملاؤه أنها الفرحة تأكل عقله .
    وبعد أن غادر الجيش وتم تسريحه، وبعد أن ظل لسنوات يحلم بمقبرة تحمل اسم فتحي، الشهيد فتحي.
    استسلم للحياة، الرئيس يخطب يقول إنه سوف يسافر إسرائيل..
    هل سيسافر من أجل عظام فتحي .
    معاهدة للسلام !
    اللعنة !
    الحياة تمضى ، وتمضى .
    وهو يبحث فى الوجوه عن هدي ، يبحث ببطاقة فتحي التي يحملها فى جيبه .
    وعندما دارت به الحياة قرر أن يظل فتحي ، يعيش وينجب ويتزوج وهو يحمل دين فى جبينه ، دين حياة.
    طابا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد .
    طابا رجعت ولم ترجع عظام فتحي.
    ولم ترجع طابا رغم كثرة إذاعة الأغنية.
    وظل عبد العليم يبحث عن نفسه دون جدوى .
    البرد يضرب جسد عبد العليم ، ويداه مستمرتان فى تقليب الصفحات ،وعيناه تحدقان فى الصور التي أمامه ، والغضب يشتعل بكيانه.
    كانت صور الأسرى المصريين، التي نقلتها الجرائد والمجلات.
    يا لها من حياة !.
    قلب صفحة الجريدة والذكريات تتعلق به بخيوط عنكبوت.
    قرأ الصفحة المقابلة والعنوان الرئيسي " الاستفتاء على تعديلات الدستور يوم الاثنين المقبل "
    وجد نفسه يتمتم بصوت رهيب:- كلاب ، مجرد كلاب.
    وجد نفسه ما زال يمسك الكوريك ليحفر من جديد وكبيرهم ينظر إليه من أعلى ضاحكا وهو يهبط لأسفل وأسفل
    وبلا حدود .

  2. #2
    الصورة الرمزية علاء عيسى قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 1,651
    المواضيع : 95
    الردود : 1651
    المعدل اليومي : 0.25

    افتراضي

    " وجد نفسه ما زال يمسك الكوريك ليحفر من جديد وكبيرهم ينظر إليه من أعلى ضاحكا وهو يهبط لأسفل وأسفل
    وبلا حدود . "

    :NJ: :NJ: :NJ:
    :NJ: :NJ:
    :NJ:
    تحياتى
    وسعيد جداً
    أن أكون أول المعانقين لهذا الجمال
    هذا بعض منى http://alaaeisa.maktoobblog.com/

  3. #3
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,604
    المواضيع : 420
    الردود : 3604
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    تابعتها حتى النهاية مؤلمة حتى الصميم..............
    لله در قلمك كاتبنا العزيز
    ريمه الخاني
    فرسان الثقافة

  4. #4
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    القاص الجميل / محمد ابراهيم محروس
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حقاً لا أجد ما أقول أمام هذه الرائعة
    ملكت خيوط العمل بمهارة كبيرة
    استطعت تضفير أحداث الماضي مع الحاضر بسلاسة فائقة
    نجحت في تشويقنا لأن نعرف الحكاية ؛ فلم نعرف من هو الكبير (الأول) إلا بعد وقت لنجد أنفسنا فجأة وسط قضية الأسرى التي نجحت في ابرازها للوجود بهذا الشكل الرائع.. هؤلاء الأسرى الذين عذبوا واعدموا ودهسوا بالدبابات ..من لهم ، أربعون عام مضت بلا جدوى..
    القصة عميقة وبطلها ظل يبحث عن الأمل مرة في حرب أكتوبر ومرة في السلام ، ومرات في رجوع الأرض من يعود بعظام الأسير الشهيد ( من ياخذ بثأره)..ظل على أمله برغم كل شيء إلى أن أيقن هناك كلاباً يبيعون الوطن بثمن بخس ، هنا فقط أدرك أنه ـ وبرغم وجوده في وطنه ـ مازال أسيراً للكبير..كبير له نفس سمرته وربما نفس ملامح وجهه لكنه أعاده لنفس الحفرة ، ليحفر إلى الأبد ، ولكن بلا جدوى.
    حقاً تعجز كلماتي عن التعبير عن مدى اعجابي وتأثري بهذه القصة الفريدة التي نسجتها بحساسية شديدة ، وأنهيتها بنهاية رائعة قوية وبليغة للغاية .
    اعذرني إن جاء تعقيبي أقل كثيراً من فنك البديع .
    تقبل تقديري واحترامي .

    للتثبيت
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  5. #5
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدابراهيم محروس مشاهدة المشاركة
    ها هي الأيام تسير على وتيرة واحدة .. لاشيء جديد ينمو فى حياة عبد العليم فايز.
    وقفت عيناه على مجموعة من الصور، مجموعة أثارته لأقصى درجة وهو يتمتم:- كلاب، كلاب.
    منذ سنوات عديدة وعبد العليم فايز يكتفي بالفرجة على الدنيا يرى أن الحياة أصبحت أشد قسوة وعنف مما كان يتصور
    فى ليلة باردة وفى جوف بئر كان عبد العليم يحفر بيده وأسنانه ليصل للماء
    قال له كبيرهم هنا يوجد ماء عليك أن تصل إليه أبذل كل جهدك وإلا ستموت .
    وقف الكبير يضحك وعبد العليم مستمر فى الحفر ،حتى كلت يداه وتورمت قدماه .. لأكثر من عشرين ساعة وهو فى قلب البئر يحفر بلا هوادة
    نظر إلى أعلى وجد أن المسافة بينه وبين سطح الأرض تباعدت كثيرا وكثيرا..
    لا يجد ولم يفكر أن يجد وقتها أفكارا تساعده على العثور على المياه.
    ولكنه قال لكبيرهم : الماء مستحيل الوصول إليه هنا.. أرجوك أسمح لي أن أصعد
    لم ينبس الكبير وهو يشير له أن يكمل الحفر، ساعة أخرى تمضي وهو فى أسفل ولأسفل يمضى.
    وفجأة قرر الصعود ، شيء بداخله قال له: اصعد لا سبيل لما يريدون منك.
    راحت يداه تتشبثان بنتوءات البئر يحاول أن يصعد، ولكن تلك المادة التي كانوا يقذفونها فى البئر ليل نهار ،كونت حائطا أملسا تتزحلق يداه من عليه؛ جعلت الأمر من المستحيلات
    وكلما حاول الصعود كلما سقط جسده بعنف ليرتطم بقاع البئر..
    شيء يدعوه أن يكمل ويكمل..
    فوقه كان الكبير يتطلع إليه فى تشفٍ
    ويضحك ضحكات عالية تصل إلى أذنيّ عبد العال فى البئر كأنها رجيع رياح.
    وصدؤها يغزو عقله بعنف..
    وعندما صعد أخيرا بعد أن أدلوا له حبلا بعد مرور ستّ ساعات أخرى كان القلق والخوف حفرا طريقهما فى كيانه ..
    بالكوريك الذي كان معلقا على ظهره أثناء صعوده وبعد أن خرج للسطح ورأى ضحكة الكبير عريضة وواسعة..
    انهال بالكوريك على رأس الكبير عدة ضربات أنبج بعدها الدم؛ ليغرق ملابسه وملابس الكبير الذي لم يصدق ما يحدث والذي راحت ابتسامته تتآكل من وجهه؛ لتصبح شيء أشبه بالبلاهة
    ووسط ذهول الجميع دفعه عبد العليم بيده؛ ليسقط فى البئر وهو يقذف الكوريك إليه وهو يقول صارخا : احفر هنا ربما وجدت أنت مياه .
    سيطر العسكر على عبد العليم وأوثقوه بقيود حديدية ودفعوه أمامهم؛ ليستقر فى زنزانة تحت الأرض وقد منعت عنه المياه والطعام .
    ثلاثة أيام.
    وصدر حكم من قائد الكتيبة بإعدام عبد العليم فايز بعد أن نزف الكبير فى قاع البئر حتى مات وفشلت كل محاولاتهم فى إنقاذه
    وقتها كان الأسرى كلهم فى حالة فرح ، مئات ماتوا منهم وهم يبحثون عن الماء نقط من الماء، حفروا الأرض بأسنانهم ، لم تخرج الأرض لهم سوي دماء .
    دماء أخوانهم الذين ماتوا إثر ضربهم بالنار وتشربتها الأرض .
    وقتذاك جهز عبد العليم نفسه للموت ، وحضر نفسه للقاء خالق الكون .
    الصفراء كانت تبدو فى السماء والرمال الصفراء حوله تشي أن الجحيم نفسه سيكون هنا . وهنا ستكون مقبرته، شيء داخله كان يدعوه للاطمئنان شيء يدعوه أن يظل ثابتا.
    لقد شاهد الموت فى أيامه السابقة آلاف المرات .
    الصحراء واسعة، والرمال تحرق والرصاص يخترق الصدور.
    كثيرون يتساقطون وتدوسهم الدبابات.
    لا يريدون أسري يريدونها مجزرة، مجزرة حقيقية.
    تشققت شفتاه ، حلقه أصبح جافا بطعم التراب ، يبتلع ريقه بصعوبة .
    وقتها وجده يقف على باب زنزانته، ويُفتح البابُ ويُدفع به إلى الداخل .
    مثله أسير حرب، وكم يتشابهان؟!
    ظن أنه ينظر لنفسه فى مرآة ولكنه التوهم .
    بل ملابس الجيش الواحدة الممزقة والتراب الذي يغطي الوجوه، كله يظنه يشبه.
    مال عليه بعد لحظات من دخوله قائلا :- أخلع ملابسك .
    - ماذا ؟!
    - لا وقت الآن لماذا ؟ أخلع ملابسك .
    الصوت كان يعرفه ، ولكن الذاكرة تخونه .
    وجد هذا الشخص يميل عليه بسرعة ويجذب سترته التي لوثتها دماء كبيرهم ثم يشير له وهو يقذف إليه سترته هو أن يلبسها .
    والشاب يردف:- ستجد أوراقي فى السترة كلها ، وصورة حبيبتي هدى حافظ عليها بحياتك ، هات أوراقك .
    لم يفهم عبد العليم وقتها ما يجري ، ولكن عند الليل أقبل عساكر العدو بطغيانهم وجبروتهم الرهيب .
    أخرجوا ذلك الشخص على أنه هو ، هو عبد العليم قاتل كبيرهم .
    بلع عبد العليم آنذاك التراب الذي يملأ حلقه. أراد أن يصرخ فيهم ليس هو، بل أنا ولكن شيئا دعاه للصمت .
    فى الصباح تذكر أين سمع هذا الصوت وهو ينضم للأسرى ،على أنه فتحي ، ذلك الشاب الهادئ الجميل ذو الصوت العذب والذي كان دوما يستمع له فى المعسكر وهو يردد الأغاني الوطنية
    ذلك فتحي الذي مات بدل منه بالرصاص، والذي قال لنفسه كثيرا كم يشبهني هذا الشاب ، نعم لم يكن يتوهم فهو شبيه له وبدرجة كبيرة ، فتحي قذفوه فى البئر الذي كان قد حفره عبد العليم وألقوا فوقه الجير الحي ، والبعض من زملائه الذين تكتموا الأمر قالوا له آنذاك :إنه من أراد هذا . وكلنا سنموت فلا تقلق..أنك بطل.
    بسترة فتحي عاش عبد العال شهورا طويلة فى الأسر .
    ماتت البسمة على وجهه ، وماتت الحياة بداخله .
    ومات هو كشخص .
    ذاق ويلات العذاب بكميات غير طبيعية .
    وعندما عاد مرة أخري للجيش بعد عملية تسليم أسري متبادل كان يحمل اسم فتحي .
    نقلوه لوحدة أخري فلم يهتم، بل سعد بالأمر .
    فهنا يعيش كفتحي .
    عبد العليم الجندي الوحيد تقريبا فى اللواء الثالث مشاه الذي لم يأخذ إجازة لمدة يومين وعلى مدار أربع سنوات منذ عودته من الأسر إلى الجيش .
    ظل يحمل أوراق فتحي، وحياة فتحي، ودين فتحي، وصورة هدي حبيبة فتحي وخطيبته ما زالت فى محفظته .
    كثيرا ما دار بذهنه أن يقول لقائد وحدته أنه عبد العليم وليس بفتحي ، ولكنه لاذ بالصمت لسنوات حتى العبور والنصر ..
    وقتها كان يعبر وفى قلبه شيء واحد أن يعود بعظام فتحي ؛ليدفنها فى مقبرة مصرية وكلمة شهيد بخط أسود عريض تكتب عليها .
    ولكن برغم هذا لم يصل لما يريد وعندما صدر قرار وقف أطلاق النار كاد يجن ، وكان يقول لنفسه :لا لم أصل بعد ، لا
    ولكنه قرار الجيش ويجب أن ينفذ.
    الرئيس يخطب فى مجلس الشعب ،الراديو ينقل الخطبة .. الجنود ترقص فرحا ، وعبد العليم يصرخ فى جذع : لا ، لا لم أصل بعد .
    ظن زملاؤه أنها الفرحة تأكل عقله .
    وبعد أن غادر الجيش وتم تسريحه، وبعد أن ظل لسنوات يحلم بمقبرة تحمل اسم فتحي، الشهيد فتحي.
    استسلم للحياة، الرئيس يخطب يقول إنه سوف يسافر إسرائيل..
    هل سيسافر من أجل عظام فتحي .
    معاهدة للسلام !
    اللعنة !
    الحياة تمضى ، وتمضى .
    وهو يبحث فى الوجوه عن هدي ، يبحث ببطاقة فتحي التي يحملها فى جيبه .
    وعندما دارت به الحياة قرر أن يظل فتحي ، يعيش وينجب ويتزوج وهو يحمل دين فى جبينه ، دين حياة.
    طابا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد .
    طابا رجعت ولم ترجع عظام فتحي.
    ولم ترجع طابا رغم كثرة إذاعة الأغنية.
    وظل عبد العليم يبحث عن نفسه دون جدوى .
    البرد يضرب جسد عبد العليم ، ويداه مستمرتان فى تقليب الصفحات ،وعيناه تحدقان فى الصور التي أمامه ، والغضب يشتعل بكيانه.
    كانت صور الأسرى المصريين، التي نقلتها الجرائد والمجلات.
    يا لها من حياة !.
    قلب صفحة الجريدة والذكريات تتعلق به بخيوط عنكبوت.
    قرأ الصفحة المقابلة والعنوان الرئيسي " الاستفتاء على تعديلات الدستور يوم الاثنين المقبل "
    وجد نفسه يتمتم بصوت رهيب:- كلاب ، مجرد كلاب.
    وجد نفسه ما زال يمسك الكوريك ليحفر من جديد وكبيرهم ينظر إليه من أعلى ضاحكا وهو يهبط لأسفل وأسفل
    وبلا حدود .

    أديبنا الصادق : محمد إبراهيم

    أحييك من أعماق قلبي لهذه القصة التي تعود بنا إلى نبع القص الصافي الصادق الذي يتسم بغناه الذاتي وألقه الطبيعي. وبراعة القص وصدق التجربة.

    وأشكر أستاذنا القدير : حسام القاضي على تثبيتها هنا بعد أن ثبتت في قلوبنا
    وهاك يا أخي الفاضل بعض الملحوظات اللغوية اليسيرة :
    أصبحت أشد قسوة وعنف ، الصواب : وعنفا

    أبذل الصواب: ابذل

    وكلما حاول الصعود كلما سقط جسده ، الصواب : وكلما حاول الصعود سقط جسده، بعدم تكرار كلما.



    ،كونت حائطا أملسا : الصواب : أملس لأنها ممنوعة من الصرف.


    لتصبح شيء ، الصواب: شيئا

    مات بدل منه الصواب: بدلا منه.



    وأرجو أن تتقبل أجمل الشكر لما أتحفتنا به من الصدق والبراعة.



    أخوك: مصطفى
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل

  6. #6
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 81
    المواضيع : 17
    الردود : 81
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة علاء عيسى مشاهدة المشاركة
    " وجد نفسه ما زال يمسك الكوريك ليحفر من جديد وكبيرهم ينظر إليه من أعلى ضاحكا وهو يهبط لأسفل وأسفل
    وبلا حدود . "

    :NJ: :NJ: :NJ:
    :NJ: :NJ:
    :NJ:
    تحياتى
    وسعيد جداً
    أن أكون أول المعانقين لهذا الجمال
    أشكرا أخى الفاضل علاء عيسى على مرورك
    وسعيد بمرورك وكلماتك
    خالص تحياتى
    ومودتى أخى العزيزنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 81
    المواضيع : 17
    الردود : 81
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمة الخاني مشاهدة المشاركة
    تابعتها حتى النهاية مؤلمة حتى الصميم..............
    لله در قلمك كاتبنا العزيز
    ريمه الخاني
    شكرا أختى الفاضلة
    مرورك وكلماتك أسعدتنى للغاية
    خالص تحياتى وشكرى لشخصك الكريم وخالص
    التحايا نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 81
    المواضيع : 17
    الردود : 81
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسام القاضي مشاهدة المشاركة
    القاص الجميل / محمد ابراهيم محروس
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حقاً لا أجد ما أقول أمام هذه الرائعة
    ملكت خيوط العمل بمهارة كبيرة
    استطعت تضفير أحداث الماضي مع الحاضر بسلاسة فائقة
    نجحت في تشويقنا لأن نعرف الحكاية ؛ فلم نعرف من هو الكبير (الأول) إلا بعد وقت لنجد أنفسنا فجأة وسط قضية الأسرى التي نجحت في ابرازها للوجود بهذا الشكل الرائع.. هؤلاء الأسرى الذين عذبوا واعدموا ودهسوا بالدبابات ..من لهم ، أربعون عام مضت بلا جدوى..
    القصة عميقة وبطلها ظل يبحث عن الأمل مرة في حرب أكتوبر ومرة في السلام ، ومرات في رجوع الأرض من يعود بعظام الأسير الشهيد ( من ياخذ بثأره)..ظل على أمله برغم كل شيء إلى أن أيقن هناك كلاباً يبيعون الوطن بثمن بخس ، هنا فقط أدرك أنه ـ وبرغم وجوده في وطنه ـ مازال أسيراً للكبير..كبير له نفس سمرته وربما نفس ملامح وجهه لكنه أعاده لنفس الحفرة ، ليحفر إلى الأبد ، ولكن بلا جدوى.
    حقاً تعجز كلماتي عن التعبير عن مدى اعجابي وتأثري بهذه القصة الفريدة التي نسجتها بحساسية شديدة ، وأنهيتها بنهاية رائعة قوية وبليغة للغاية .
    اعذرني إن جاء تعقيبي أقل كثيراً من فنك البديع .
    تقبل تقديري واحترامي .
    للتثبيت
    أخى العزيز الفاضل
    حسام القاضى
    دوما يسعدنى وجودك فى أعمالى لأقصى درجة
    ودوما أنت قارىء ذو بصيرة حادة
    ونظرة جميلة
    شكرا أخى العزيز
    كلماتك أعتز بها جدا
    شكرا لك ولا أجد لدى ما أوصف به مدى سعادتى بتعليقك على العمل وتثبته خالص محبتى
    وشكرى لشخصك الكريم نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 81
    المواضيع : 17
    الردود : 81
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. مصطفى عراقي مشاهدة المشاركة
    أديبنا الصادق : محمد إبراهيم
    أحييك من أعماق قلبي لهذه القصة التي تعود بنا إلى نبع القص الصافي الصادق الذي يتسم بغناه الذاتي وألقه الطبيعي. وبراعة القص وصدق التجربة.
    وأشكر أستاذنا القدير : حسام القاضي على تثبيتها هنا بعد أن ثبتت في قلوبنا
    وهاك يا أخي الفاضل بعض الملحوظات اللغوية اليسيرة :
    أصبحت أشد قسوة وعنف ، الصواب : وعنفا
    أبذل الصواب: ابذل
    وكلما حاول الصعود كلما سقط جسده ، الصواب : وكلما حاول الصعود سقط جسده، بعدم تكرار كلما.
    ،كونت حائطا أملسا : الصواب : أملس لأنها ممنوعة من الصرف.
    لتصبح شيء ، الصواب: شيئا
    مات بدل منه الصواب: بدلا منه.
    وأرجو أن تتقبل أجمل الشكر لما أتحفتنا به من الصدق والبراعة.
    أخوك: مصطفى
    شكرا أخى الفاضل د.مصطفى العراقى
    لكلماتك الرقيقة ولمرورك العذب
    وشكرا لك على الملحوظات اللغوية
    شكرا لك لقد تعلمت منها فعلا
    فخالص شكرى وتقديرى لشخصكم الكريم
    وخالص التحايا

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. مهاتفة من امرأة مجهولة
    بواسطة يحيى السماوى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 31-07-2010, 10:14 PM
  2. مقالة مجهولة للعقاد عن السينما
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 26-03-2006, 10:18 PM
  3. رسالة الى مجهولة العنوان / شكرا لحبك
    بواسطة جمال النجار في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-11-2004, 01:16 PM
  4. منظمة مجهولة تعلن إعدام أميركي في العراق
    بواسطة اسكندرية في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 14-05-2004, 12:06 PM