(5)
الطفل الآخر
هم بؤساء إرتدّوا عن دين الطفولة وعقيدة البراءة، يوم أن حملوا ملامح المتسولين الضعفاء..
لم استطع يوما ان اتجاهل أكفهم الصغيرة الملطخة بالتراب والفقر بدلا من السكاكر والحلوى الممتدة نحوي سائلة اياي القليل من المال أو الطعام، فإن لم تُجدِ أكفهم نفعا في استعطافي فهناك العيون الفارغة من النظرات الملأى بالدموع والتوسل ودعوات رقيقة ضاعت بينها أغاني الطفولة وقصص ما قبل النوم...
كانت هذه نظرتي لهم، أما أنت ايها الشرقي فلطالما قلت أن هذا كله عنوان لدراما الخداع والإحتيال الذي يمارسه علينا أحد الرجال أو ربما النساء مستعملين هؤلاء الأطفال طعما لنا ولأموالنا..
ولكن أليس هؤلاء الصغار ضحايا مثلنا تماما..
ألم تدمر أحلامهم وتمزق دفاترهم وتكسر أقلامهم على مرأى منهم..
ألم تبعثر أشلاء ألعابهم وتسرق حلواهم من أفواههم..
بأي ذنب قتلت أعمارهم الوردية.. ولأي جريمة وئدت ابتساماتهم الندية..
من الذي إختار مصيرهم الأسود, الفقر أم كسل أب وعجز أم..
أم القهر والموت المحدق بهم دائما وأبدا..
هذا ما كنت افكر فيه وانا متقوقعة على نفسي في سيارة الاجرة وأنا في طريقي الى المطار للعودة الى الوطن بعد التحرر من ذلك المنفى..
( وطبعا كان هناك سببين لتقوقعي، الاول هو البرد الذي بدأ يصب لعنته على تلك البلاد، والثاني حقائبي التي ضاق بها صندوق السيارة الخلفي لينحشر ما بقي منها بجانبي، ولعل هذا أيضا كان سبب نظرات الحقد التي زخني بها السائق كوابل من الرصاص)..
وهنا إستحضر هؤلاء الأطفال عبد العزيز في ذاكرتي.. ذلك الطفل الآخر الذي إختار مصيرا آخر رغما عن الفقر والجوع..
أليس هو من خلع عنه الطفولة يوم أن تزين بملامح الرجال..
ألم يحسم الموقف باكرا حين إرتأى أن تكون يده هي العليا دائما فيجني المال بعرق جبينه ولا يكون أبدا من أصحاب الأيادي السفلية..
أذكر تماما أحداث ذلك اليوم الذي قضيته وإياك أيها الشرقي تجوالا في تلك المدينة القابعة منذ زمن ونصف على أعتاب شاطئ بحر..
أذكر وقوفي بتكاسل وإرهاق أمام ذلك المخبز الصغير بأنتظار أن تحضر لي بعض المعجنات والكعك..
هناك رأيته وهناك راقبته يقفز بين المارة يدعوهم لشراء السمك الطازج من عند معلمه الصياد العجوز الذي لمس اهتمامي واعجابي بذلك الطفل، فإذ به يتقدم نحوي ويروي لي قصة عبد العزيز وكيف بدأ العمل عنده..
هكذا إذا.. قصة كالاف القصص.. نفس الألم.. نفس القاتل.. مختلفة هي الضحية..
فذات يوم أحرقت الورقة الأخيرة من حظه في الحياة.. أعدمتها قذيفة حقد القت بها طائرة الغدر الحربية على قصر الحب خاصتهم..
كانوا جميعا هناك يعاقرون الحب والوفاء صبابة ممزوجة بكرامة الفقراء..
سقط شموخ الأب مضرجا بالدماء، تليه ام هي رمز الطهر والحنان..
كانوا أوفياء حتى في الموت.. الاب والام والابناء.. جميعهم غادروا بطرفة عين.. بلهفة قلب.. بزئير غضب..
ذهبوا الى حيث لا عودة.. تركوه خلفهم.. لقد تعودوا على تمرده وكبريائه فتركوا له خيار البقاء..
ذهل.. تسائل.. أهو الحظ العاثر فرقه عنهم.. أم حكمة القدر تبقه في عالم ضائع أخرست فيه أصوات الرجولة والنخوة.. لمن تركوه.. للخوف يهز أركان وجوده..
أم للألم يقهقره الى حيث المجهول.. فينطوي رفاتا في صندوق الماضي..
لم يذرف دمعة واحدة.. فقد بخل بداية بالدموع على ذاته التي ستكمل المسير على شواطئ القهر وحيدة ترقبه نظرات الشماتة أو الشفقة اللعينة.. أفيبكي على من فازوا بالجنان وحضن حور العين؟؟ لا وقت لديه ليضيعه..
الحياة غادرة يجب أن يحمل السلاح يواجه به هموم الحاضر وأشباح المستقبل.. بدأ مشواره بتولية وجهه شطر البحر، يناجيه ويشكي له فرقة الاحباب، ويتزود بزبده زاد لدربه الطويل..
هناك ومن بين أحضان البحر العاتية خرج اليه ذلك الصياد كمارد علمته الحياة أسرارها أو ربما هو من كشف نقاط ضعفها، فهزمها شر هزيمة، فبات يبدو كمن لا يهرم ولا يقهر ولا يجور عليه الزمان..
انس له ولوجوده.. شعر بدفئ روحه وجبروت قبضته، أبهرته قطرات العرق تتراقص على جبهته العريضة.. حضنه بعينيه السوداوين الغامضتين كالبحر الذي اتى من اعماقه..
ما درى أكان صفعة القدر الجديدة له.. أم رحمة الرب لطفولته، ارسله له ليحميه ويكفله من يدي الموت..
احتضن الصياد الاسمر يديه المرتعشتين ذهولا ومضى يقود خطواتها فوق الرمال على ايقاع تلك اللحظة.. ليعلمه فن حفر الخطوات، لتكون بصمات خالدة في وجه مصيبته التي يدفنها مع كل خطوة أو حبوة كسيرة الجناح..
قال له بصوته الجهور وكأنه يعانق زرقة السماء: أخلع عنك ثوب الحداد وارتد نيسان لثاما طوال ايام السنة.. وجدل شرايينك بسنابل حزيران.. كحل مقلتيك بالصبر، امش منتصبا كالنخيل، وعانق الغمام بصدرك..
كن كبلادك لا تئن فيك الجراح مهما تزايدت ضربات الخناجر في ظهرك..
علم كل الدنيا عشق الله وحمده.. لا تنحن الا في صلاتك.. اترك الصمت الموشح بالرهبة والغموض بعيدا يقامر دقائق الليل الطوال.. ومزق أشلاء الخوف من المجهول فلطالما داس محرابك بابتسامته المزيفة، ولطالما تراقص فوق جراحك، أزل ستر الغباء عن مسرح الحياة واستبدله بشعلة ذكاء وفطنة، فما الحياة بمرعى أطفال أغنياء بل هي الى ميدان الحرب أقرب وصفا..
لا أعلم كيف فهم عبد العزيز يومها كل هذه الوصايا.. كيف تراه أتقن قهر الحياة.. كيف تراه أعاد الإبتسامة الى محياه؟؟ عظيم هو ذاك الصغير..
عدت فتداركت وجوده أمامي فقد حجبته دموعي عن عيني للحظات..
ابتسمت له من بعيد فأتاني مسرعا وكأني أعطيته شرعية الوقوف بين يدي بتلك الابتسامة..
كم هي عذبة ضحكته التي تزين وجهه الأسمر.. كم جميلة هي عيناه وملهمة..
كان كسنبلة يتمايل بوجه القدر ولا ينكسر.. شاحب هو ومتعب ولكنه صامد بكل قوة..
كم أحببته..
قال لي ضاحكا: "تشتري سمك يا حلوي؟"
سألته مداعبة ان كنت جميلة حقا، فأجاب: "كل الشاميات حلوات"، لابد أنه سمع هذا من رب عمله أيضا والا فمن أين لصغير أن يفرق بين جمال "الشاميات" عن غيرهن، اليست كل النساء جميلات وكل الجميلات طيف أمه؟؟
قبلته قبلة صغيرة وسريعة على خده.. تمنيت أن أضمه الى صدري لأغدق عليه من فائض أمومتي لعلي أنسيه للحظة سنوات عمره العجاف..
قلت له أني لا أحمل المال الأن "فقد بذرته بيوم كامل في التسوق" ووعدته أن أعود في الغد.. شعرت بالإستياء يتسلل الى ابتسامته ويمحها عن شفتيه..
وتلك النظرة التي زرعها خنجرا في قلبي.. لم أتحمل ذلك.. أمسكت يده وطلبت أن يرافقني اليك ايها الشرقي، وما أن رآك وعلم وجهتي ومطلبي حتى قفز سعادة وأخذ يحدثك عن أنواع السمك التي يبيعونها وكيف تميز بين السمك الطازج وغيره.. كان فخورا بنفسه أمامك وكأنه يضع عمله ندا لوسامتك فقد كان واضحا اعجابه بك..
ضحكت يومها ملىء قلبي.. ملىء روحي.. وأمومتي.. وانسانيتي..
قبلته مرة أخرى وكأنها قبلات استرقها من القدر.. ثم همست في أذنه: لن أنساك أبدا يا صغيري..
علمني ذلك الطفل أن الرجولة ليست حكرا على الرجال، أنما هي ثوب نلبسه بشرف وقوة فيغدو على قياسنا مع الزمن، أو يمزق عند كل منعطف تتعثر فيه القيم والإنسانية..
يتبع...