العناوين الرئيسية للطبعة العربية من جريدة ( أحبار اليوم ) :
- رئيس الوزراء الاسرائيلى يدعو لعقد قمة عبرية طارئة مساء اليوم لمواجهة التهديدات اللبنانية ..
- الطائرات اللبنانية تخترق المجال الجوى الاسرائيلى و تتوغل فيه حتى شمال ( سيناء ) و تعود سالمة ..
- الميلشيات الفلسطينية تحبط محاولة انزال جوى اسرائيلى على الأراضى الفلسطينية ..
- الرئيس الأمريكى يندد بالتفجير النووى الايرانى التجريبى الناجح و يطالب مجلس الأمن بتشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ سنوات على ( ايران ) ..
-استعدادات مكثفة تقوم بها أمانة المجلس الوطنى للتحضير للمؤتمر السنوى للمجلس الذى يحين موعده فى غضون الأيام القادمة ..
- الغموض يلف حادث انطلاق صافرات الانذار فى قصر مولانا فرعون ( مصر المحروسة ) ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
جرت عينا ( أمين ) بسرعة خاطفة على العناوين السابقة على الصفحة الرئيسية للجريدة سالفة الذكر و المستقرة بين يدى الكهل الأشيب الجالس على المنضدة المجاورة فى ذلك المقهى القديم الكائن فى ( كرموز ) أحد الأحياء القديمة بالعاصمة ( الأسكندرية ) ..
و فى اللحظة التالية لقراءتها ، كانت تلك العناوين قد تبخّرت تماما من ذهن ( أمين ) و كأنه لم يقرأها من أساسه ، و شردت عيناه فى الزحام الشديد الذى يموج به ذلك الشارع الضيق الذى يقع المقهى على ناصيته .. ومع هذا الزحام المكون من عشرات الباعة الخضر و الفاكهة و البقول ، و المئات - بدون مبالغة - من الرجال و النساء و الأطفال و الشيوخ تزاحموا حول حوانيت و عربات الباعة و راحوا يستعرضون ضروب " الشطارة " و " النصاحة " محاولين الحصول على أكبر قدر من الثمارالطازجة السليمة بأقل قدر من المال ، و فى المقابل راح الباعة يتفننون فى " تدبيس " الزبائن فى الثمار الفاسدة للخلاص منها بأى ثمن حتى لا تصيبهم الخسارة ..
منظومة كاملة من الأصوات و الروائح تسرى فى المكان كله اعتادتها حواس ( أمين ) و لم تعد تشعر بها الا فى حال توقفها أو تغيّرها عند حدوث أمر ما كخناقة حامية مثلا ..
و مرت الدقائق طويلة ثقيلة ، و رغما عنه وجد الشاب نفسه يصغى الى المحادثة الدائرة بين كهلين جالسين الى المنضدة المجاورة ..
- همّا الجماعة اللبنانيين دول مش مكفيهم اللى حصل لهم ف الحرب اللى فاتت ، فبيحرجموا على حرب تانية ..؟..
- و هو كان ايه يعنى اللى حصل لهم ..؟..
- بلدهم خربت ..
- بنوها كلها من تانى ، و بقت أحسن م الأول ..
- و الناس اللى ماتت ..
- أعمارهم كده .. اتدخل ف حكمة ربنا بقى ..
- انت شايف يعنى انهم ماخسروش حاجة ..؟..
- خسروا طبعا .. بس قدّام المكاسب اللى حققوها يعتبروا ماخسروش حاجة ..
- ازاى بقى يا فالح ..؟..
- نقولّك .. قرقرقرقرقر ( صوت قرقرة مياة الشيشة ) .. ووووووف ( نفث الدخان ) ..
صلى ع النبى .. عليه الصلاة و السلام .. بقى يا سيدى اللبنانيين خرجوا م الحرب دى منتصرين .. مرمغوا كرامة الاسرائيليين ف التراب ، و خلّوهم يفكروا بعد كده بدل المرة ألف قبل ما يعملوا أى حاجة ضد ( لبنان ) ..
- بقى هوا دا المكسب اللى يستحق تدمير ( لبنان ) ..؟..
- صبرك عليّا .. الأهم من ده ان ( لبنان ) خرج م الأزمة دى موحد .. صحيح مر بفترة تخبط و صدام بين الطوائف المختلفة لكن .. ( قرقرقرقرقر ... ثم ... وووووووووووف ) .. لكن بعد كده الطوائف دى اتحدت و كوّنت حكومة اتحادية منتخبة اتعاملت مع الأزمة الخارجية و الأزمات الداخلية ببراعة ..
- أيوه يا ( عبده ) بس ..
- استنى لمّا نكملّك .. الأهم من ده و ده ان انهم فهموا كويس ان ماحدّش هايحميهم.. لا ( أمريكا ) و لا ( فرنسا ) و لا الأمم المتحدة و لا جامعة الدول العربية ها ..
- ( مقاطعا بدهشة ) : جامعة الدول الايه ..؟..
- العربية .. دى حاجة كده كانت زمان زى جامعة الدول العبرية دلوقت ، و كانت بتجمع نفس دول جامعة الدول العبرية لكن من غير ( اسرائيل ).. و ماتت و انتهت بعد مالقوا انها مابتعملش حاجة .. لا بتحل و لا بتربط ..
- غريبة أوى .. آنى بنذاكر التاريخ للواد ( سمير ) ابنى الصغير لمّا حفظنا المنهج كله ، و ماوردتش عليا جامعة الدول العربية دى قبل كده ..
- ( يضحك مستهزئا ) : تاريخ ..؟.. تاريخ ايه يابو تاريخ انت ..؟.. هوّ انت فاكر ان اللى ولادنا بيدرسوه ف المدارس ده تاريخ ..؟.. أيووووووه .. يا عمنّا التاريخ الحقيقى خلاص اتنسى ، و ماعادش حد يفتكر منه حاجة .. اللى بتقراه ف الكتب ده التاريخ المتفصل .. فففففففففف ( يزفر فى مرارة ) .. بقولّك ايه .. خلينا ف موضوعنا .. كنّا بنقول ايه ..؟..
- كنت بتقول ان اللبنانيين فهموا كويس ان ماحدّش هايحميهم ..
- ( قرقرقرقرقرقر ... ثم ... ووووووووووف ) .. ماحدّش هايحميهم غير سلاحهم همّا .. و لو ماكنش ( حزب الله ) مسلح نفسه كويس كان زمان الجيش الاسرائيلى معسكر ف ( بيروت ) لغاية دلوقت ..
- ......................................
- و لمّا استوعبوا الموضوع ده كويس عملوا جيش قوى ، و بقى عندهم طيران جامد و دفاع جوى .. و فيه كلام كده متنطور انهم عندهم سلاح نووى ..
- ( مشدوها ) : سلاح نووى ..؟..
- أمال يا بنى .. ( قرقرقرقرقرقرقر .. ثم .. ووووووووف ) .. هوّ فيه حد خاب خيبتنا ..؟..
و فوق المكاسب دى كلها .. صور ( حسن نصر الله ) أمين عام ( حزب الله ) بقيت متعلقة ف كل حتة .. و التشيّع انتشر فى دول سنيّة كتيرة .. يا راجل ده نص الناس اللى ف حارتنا بقوا شيعة من كتر أهاليهم زمان ما حبّوا ( حسن نصر الله ) بعد ما انتصر على ( اسرائيل ) ..
- يا سيدى .. شيعة و لا سنة .. أهم كلّهم مسلمين ..
- ازاى تقول كده يا ( حلمى )..؟.. طب دا الشيعة دول بيسبوا الصحابة و ..
و عند ذلك كان انتباه ( أمين ) قد انسحب من حديث الكهلين و انصب على رجل أربعينى نامى اللحية رث الثياب قليلا ، يشق الزحام مقتربا بخطى متثاقلة ..
- صباح الخير يا باشمهندس ..
- ( يصافحهه بحرارة ) : صباح الفل يا عم ( جميل ) .. اتفضل ..
- ( يجلس ) : يزيد فضلك ..
- تشرب ايه ..؟..
- شاى تقيل و معسل ..
- ( ينادى بصوت مرتفع ) : اتنين شاى تقيل و واحد معسل يا ( حسن ) ..
- ( القهوجى ) : و عندك اتنين شاى تقيل و واحد معسل للباشمهندس ( أمين ) ..
فتح ( جميل ) حقيبة بلاستيكية كانت بحوزته و أخرج منها علبة كشرى و أكياس صغيرة تحوى الشطة و الدقة و الذى منه ..
- اتفضل يا باشمهندس ..
- بالهنا و الشفا يا عم ( جميل ) .. سبقتك ..
يقبل النادل ليضع صينية الشاى و " يحمّى " الشيشة ثم ينصرف فى حين راح ( جميل ) يلتهم الكشرى بنهم أمام عينى ( أمين ) الذى راح يرتشف الشاى ببطء ثم سأل فجأة و كأنما نفذ صبره :
- عملتلى ايه يا عم ( جميل ) ف الموضوع بتاعى ..؟..
- ( بفم مملؤ مكرونة و ارزا و عدسا و بصلا و صلصة ) : ممممممم ... نقولولك ..
و وضع العلبة الفارغة الملوثة ببقايا الكشرى على المنضدة ليتناول كوب الشاى و يبدأ فى ارتشافه بصوت مسموع ..
- أنى كان نفسنا نخدموك ف الموضوع اللى كلمتنى فيه يا باشمهندس بس للأسف مانافعش ..
- ( مصدوما ) : مانافعش ..؟..
- ( قرقرقرقرقر ... ثم ... ووووووف ) .. الحكاية متقفلة أوى .. و الشركات الاسرائيلية ماعدتش محتاجة مهندسين مصريين ..
- ازاى بس يا معلّم ( جميل ) ..؟.. دا أنا سمعت ان ( اسرائيل ) بتنشئ مشروعات لاستخراج البترول و المعادن بمليارات الشيكلات .. و أكيد محتاجين مهندسين بترول و تعدين ..
- ( مبتسما بسخرية ) : انت خريج أنهى جامعة يا باشمهندس ..؟..
- جامعة ( اسكندرية ) .. و كنت التالت على دفعتى ..
- ( تتحول الابتسامة الى قهقهة ) .. هاهاهاهاهاااه كح كح كح .. كح كح .. ماتآخذنيش يا .. كح كح .. يا باشمهندس ..
- بتضحك على ايه ..؟..
- ( يلتقط أنفاسه ثم يتجرّع كوبا من الماء ) : أصلك يا باشمهندس بتقولّى أنا خريج جامعة ( اسكندرية ) و التالت على دفعتى ، و كأنك يعنى خرّيج جامعة ( باكنام ) ..
- قصدك ( باكنجهام ) ..
- أيوه هى اللى بتقول عليها دى .. يا محترم الشهادة اللى حضرتك فرحان بيها قوى دى و أى شهادة من أى جامعة ف ( مصر ) غير معترف بيها سواء ف ( اسرائيل ) أو حتى ف ( اوغندة ) .. دول لما بيعوزوا مهندسين بيطلبوا مهندسين من ( أمريكا ) أو من ( انجلترا ) أو ( فرنسا ) أو ( دبى ) .. مش من ( مصر ) ..
- ( بجزع ) : يعنى ايه ..؟.. مش هاينفع أسافر أشتغل ف ( اسرائيل ) ..؟..
- ( قرقرقرقرقرقر .. ثم .. ووووووووف ) .. كان بودى يا باشا ..
- يادى المصيبة .. دى ( اسرائيل ) كانت أملى الوحيد .. أقول لأهلى ايه ف البلد ..؟.. دول كانوا معتمدين عليّا انى أساعدهم بعد ما صرفوا اللى وراهم و اللى قدّامهم على تعليمى ..
- ( قرقرقرقرقرقر ... ثم ... ووووووووف ) ................
- أعمل أنا ايه دلوقتى ..؟.. دبّرنى يا معلم ( جميل ) .. شوفلى أى حاجة اعمل معروف ..
- ( قرقرقرقرقرقر ... ثم ... ووووووووف ) .. بأمانة يا باشمهندس .. انت صعبت عليّا .. و أنى عندى ليك شغلانة ف ( اسرائيل ) كويسة أوى ، و هاتاكل من وراها لقمة عيش حلوة ..
- لايمنى عليها اعمل معروف ..
- ( قرقرقرقرقرقر ... ثم ... ووووووووف ) .. زبّال ..
- ( مصعوقا ) : بتقول ايه ..؟..
- ايه ماسمعتنيش ..؟.. باقول زبّال .. زبّاااااااااااال ..
- معقول اللى بتقوله ده يا معلّم ..؟.. زبّال ..؟.. يعنى أنا ضيعت سنين عمرى ف الدراسة و أهلى طفحوا الكوتة علشان أتعلم و أبقى حاجة محترمة و ف الآخر ألم زبالة ..؟..
- و مالها الزبالة بس يا باشمهندس ..؟.. مش مخلّفاتنا برضه ..؟..
- زبّال يا معلّم ..؟؟؟؟ ..
- طب انت عارف ..؟.. بأمانة .. اللى بياخده الزبّال ف ( اسرائيل ) أحسن م اللى بياخده المهندس هنا ميت مرة .. دا غير التأمينات و المعونات .. و فوق ده بيبقى بنى آدم بحق و حقيقى ..
- زبّال يا معلّم ..؟؟؟؟..
- بأمانة .. أنى مشغل دكاترة و صيادلة و مهندسين زبّالين وكنّاسين ف ( اسرائيل ) ، و عايشين و مبسوطين 24 قيراط ..
- زبّال يا معلّم ..؟؟؟؟..
- ( يرمى لىّ النارجيلة و ينهض غاضبا ) : جرى ايه يا باشمهندس ..؟.. انت اللى عليك اسمه ( زبّال يا معلّم ) ..؟.. مش عاجباك الشغلانة انت حر .. فيه مليون واحد ف بلدك يتمنّوها ..
- ( يهب ملسوعا و يتشبت بذراعه ) : خلاص خلاص .. زبال زبال ..اللى تشوفه يا معلم ..
- ( تنفرج أساريره و يعود ليجلس و يمسك باللىّ ) : كده انت حبيبى .. نتكلّمو بقى ف التفاصيل ..
ارتفع فى هذه اللحظة صوت المذيع فى التلفاز القديم الموضوع على رف خشبى متهالك معلق بركن المقهى :
- و اليكم الآن تصريح المتحدث الرسمى باسم القصر الملكى بخصوص حادث انطلاق صافرات الانذار فى القصر الملكى فجر اليوم ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
" بلغتنا الشائعات المؤسفة التى انتشرت فى المملكة و التى تفسر انطلاق صافرات الانذار فى القصر الملكى فجر اليوم بتعرض جلالة مولانا فرعون المملكة المصرية المحروسة للخطر .. و رغم سرية الأمر الا أننا – و بناء على توجيهات جلالة مولانا – قررنا القاء هذا البيان لتفسير الواقعة للمواطنين رعيا مولانا درءا للشائعات المغرضة و لطمئنة قلوب الرعايا ..
انطلاق صافرات الانذار جاء كجزء من تجربة تماثلية لاختبار اجراءات الأمن و الحماية داخل القصر.. و قد نجحت التجربة نجاحا باهرا .. و أحب أن أطمئنكم على صحة و سلامة مولانا و عائلته ، و أنهم جميعا بخير حال سعداء لم يمسسهم سوء .. "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
- هل تصدق شيئا ..؟..
تسائل الدكتور ( طاهر عبد الحميد ) رئيس الحكومة و هو يرفع " الريموت كنترول " ليغلق التلفاز ، فأسرع اللواء ( عزيز العسكرى ) مستشار الأمن الداخلى يجيب :
- و لا حرف واحد ..
ظل الدكتور ( طاهر ) صامتا و ان أطل التساؤل واضحا من عينيه ، فتابع اللواء ( عزيز ) :
- التجارب الأمنية التماثلية يتم اجرائها بصفة دورية .. صحيح أن انطلاق صافرات الانذار جزء من التجربة و يحدث فى كل مرة ، و لكن على نطاق محدود لا يتجاوز القصر الملكى و الجزيرة المقام عليها ..
تراجع الدكتور ( طاهر ) فى مقعده قائلا فى حيرة :
- اذن ما الذى حدث هذه المرة ..؟..
- هناك احتمالين لا غير .. ( و رفع أصابعه ليعد عليها ) .. الأول أن تكون الصافرات قد انطلقت عن طريق الخطأ .. أى خطأ ..
- و الثانى ..؟
- أن يكون جلالة الملك أو أحد أفراد أسرته قد تعرض للخطر ..
- خطر ..؟.. من أى نوع ..؟
- لا أدرى .. القصر الملكى بالجزيرة المقام عليها تقع بالكامل تحت سيطرة رجال المارينز ، و معلوماتى عن القصر و تحصيناته لا تتجاوز معلوماتك ..
- ( بابتسامة ماكرة ) : هل يعقل أن يصدر هذا الكلام من مستشار الأمن الداخلى ذاته ..؟؟
- ( فى غيظ ) : مستشار الأمن الداخلى ..؟؟.. لا تضحكنى .. ( و اعتدل فى جلسته و قد احمر وجهه ) .. أنا تقريبا محال الى الاستيداع .. " ع الرف " كما يقولون .. قبل سنوات كنت المملوك الأول فى حقيبة جلالته المستشارية .. كنت ذراعه التى يبطش بها بمعارضيه .. صمام الأمان الذى يحمى عرشه ..
لم يعلق الدكتور ( طاهر ) ، و بدا على وجهه الاستمتاع الشديد فى حين تابع اللواء ( عزيز ) بغضب متزايد :
- ولكن منذ أن وطأ المارينز المملكة و قضوا على قوات المعارضة ، و الأمور خرجت تماما من بين يدىّ .. و الملك و اسرته صارا فى جيب ذلك الأراجوز الأمريكى ( جيلر ) ..
ندت ضحكة خافتة من الدكتور ( طاهر ) فقال ( عزيز ) مغتاظا :
- اضحك .. اضحك .. معك كل الحق ..
ارتفع فى هذه اللحظة رنين هاتفه المحمول ، فرفعه و تطلع الى الرقم على شاشته ليرتفع حاجباه فى دهشة متمتما :
- معقول ..؟؟؟ ..
تساءل الدكتور ( طاهر ) بفضول :
- من ..؟؟.. من ..؟؟..
لم يجب اللواء ( عزيز ) و أسرع يضع مسماع " الهاند فريى " فى أذنه و ضغط زر الايجاب ..
- جود مورننج ميجور ( جيلر ) .. ييس .. يييس .. تحت أمرك .. ( و استمع للحظات ثم ) .. ( ربيع عبد الدايم ) ..؟؟.. ييس .. ( عزبة أولاد علام ) ..؟؟ .. أوكاى .. أوكاى .. توداى سيكون تحت قدميك ميجور ( جيلر ) .. اينى سيرفس .. أوكاى .. آى ويل بى ان تاتش .. جود باى ..
و أنهى الاتصال و ابتسامة ظافرة تعلو شفتيه ، فسأله الدكتور ( طاهر ) بفضول :
- ما الأمر ..؟.. من هو ( ربيع عبد الدايم ) هذا ..؟..
نهض اللواء ( عزيز ) قائلا :
- اعذرنى يا سيادة الرئيس .. لا أستطيع اخبارك ..
- ( يرفع حاجبيه ) : هكذا ..؟؟؟..
- انها أسرار العمل .. سامحنى .. بعد اذنك ..
- ( ينهض مصافحا ) : تفضل ..
و راقبه الدكتور ( طاهر ) عبر زجاج نافذة مكتبه المطلة على البحر و هو يغادر مقر الحكومة – مكتبة ( الاسكندرية ) سابقا – فى موكبه ، ثم عاد ليستقر على مقعده خلف مكتبه و فتح حاسوبه الشخصى و هو يغمغم لنفسه :
- و أنا لست " طيشة " فى هذه البلد ، و لن أكون أبدا آخر من يعلم ..
و ضغط زر " الانتركوم " مخاطبا مدير مكتبه :
- لا أحد يدخل علىّ طيلة الساعة القادمة يا ( محمود ) ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ظلام .. ظلام دامس ..
لا طول .. لا عرض .. لا أعلى .. لا أسفل .. لا أرض .. لا سماء .. لا يمين .. لا يسار ..
الظلام هو السيد هاهنا ..
كم مكثت فى هذا الظلام ..؟.. بالواقع لا تدرى .. احساسك بالزمن مفقود تماما .. لربما كنت هنا منذ دقائق ، و لربما أنت باق منذ سنوات ..
الوقت يمر .. يمر ..
من بعيد ( تعبير غير دقيق لأنه وسط هذا الظلام الدامس لا معنى لقريب أو بعيد ) تنبثق ثغرة من الضوء .. ثغرة فى حجم رأس الدبوس لا أكثر ..
ببطء شديد تتسع الثغرة لتتحول الى بقعة ..
أصوات بعيدة – و لكنّها مألوفة – تطرق اذنيك ..
بقعة الضوء تتضخم أكثر و أكثر ..
حقا لا تستطيع تمييز حرفا مما ينصب داخل أذنيك من أصوات ..
أطراف مملكة الظلام تنكمش و تنكمش ..
" لله " .. " مولاى " .. " دادى " .. " السلامة " ..
النور الباهر يملأ عينيك .. و داخله ترى أطيافا متحركة .. أطيافا لا تميز منها سوى حدودها الخارجية .. لا تفاصيل .. لا ملامح ..
الأطياف تلتف حولك .. تحيط بك ..
هذا الوجه .. هذه الملامح .. أنت تعرفها .. نعم ..
- ( كمال ) ..؟؟..
كذا تكلمت أنت بصوت واهن ..
- حمدا لله على سلامتك يا " دادى " ..
أصابعه تربت على يدك ..
تلك المرأة تقترب منك .. تسمعها تتكلم بحنان :
- حمدا لله على سلامتك يا حبيبى ..
تجلس على طرف الفراش بجوارك .. تحرك يدها على صدرك برفق .. غريب هذا .. تذكرها جيدا بالطبع .. انها زوجتك التى رافقتك لما لا يقل عن أربعين عاما .. نفس الوجه .. نفس التجاعيد .. نفس العينين الجامدتين .. الثغر القاسى .. برغم كلماتها الرقيقة ، و برغم التشوش الذى يملأ ذهنك الا أنك تميّز - و بسهولة - الافتعال الذى يفوح من كلامها و أفعالها .. هذه " الولية " تتظاهربالحنان و الشفقة دون أن تشعر بهما حقا ..
تدير عينيك فى الوجوه المحيطة و التى لم تعد غريبة الى هذا الحد ..
هذا الوجه .. ( أبو العزم ) .. مملوكك الأول و ساعدك الأيمن .. وهذا الوجه السمين ذو اللغد الضخم .. انه ( أنيس ) طبيبك الخاص ..
و هذا الوجه القوى صاحب الشعر الأشقر .. مجرد مرآه يبعث شيئا من الراحة و الأمان فى أوصالك .. انه ( جيلر ) .. حارسك الخاص ..
" حمدا لله على سلامتك .. "
تسمعها عشرات المرات من جميع الموجودين ..
يقولها ( أنيس ) و هو يتقدم منك ليفحصك ..
- بم تشعر الآن يا مولاى ..؟
بم تشعر ..؟؟.. ماذا دهاه ..؟؟.. بل ماذا دهاهم جميعا ..؟؟.. انك بخير حال ..
- ابتعد ..
كذا قلت بحدة بينما يدك تدفعه فى صدره ..
يتراجع و هو يحدق فيك بمزيج من الدهشة و الألم .. الجميع ينظرون اليك بدهشة عارمة ..
تعتدل فى رقدتك و تواجه نظراتهم المندهشة بنظرات حادة ..
لم يحدّقون فيك بهذه الطريقة المستفزة ..؟..
تفتح فمك لتتكلّم ..
- أنا جائع ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
- ماذا دهاه يا دكتور ..؟..
تساءل سمو الأمير ( المحروس : كمال ).. أجاب الدكتور ( أنيس ) و هو يجفف عرقه :
- لاشئ ..
- ( بحدة ) : لا شئ ..؟..
- ( يرتجف هلعا ) : صدقنى سمو الأمير .. مولانا الملك سليم تماما من الناحية العضوية .. و هذا كلام أحاسب عليه .. أما موضوع أنه لا يذكر حرفا من التجربة التى تعرّض لها فلهذا احتمالات مختلفة ..
تساءلت الملكة فى اهتمام :
- احتمالات مثل ماذا ..؟..
فتح الطبيب فمه ليجيب ، و لكن ارتفع فى هذه اللحظة صوت الملك جهوريا من جناحه :
- الطعاااااااااام ايها السفلة .. أنا جاااااااااااائع ..
سرت على اثر الصيحة موجة من الحركة و التوتر فى المكان و تحرك الخدم يمنة و يسرة ، و قال الأمير ( كمال ) للملكة :
- " بليز " " مامى " .. لا تدعيه بمفرده ..
و بينما غادرت الملكة التفت ( كمال ) الى الطبيب و قد أعاد قناع الشراسة الى وجهه قائلا :
- أكمل يا دكتور .. ما هى الاحتمالات التى كنت تتحدث عنها ..؟..
- هناك مثلا احتمال أن يكون نسيانا مؤقتا بفعل الصدمة العصبية .. و هناك احتمالا آخرا هو أن .. أن ..
- أن ماذا ..؟..
- أعطنى الأمان أولا سموّ الأمير ..
- ( بصبر نافذ ) : أعطيتك ..
- ( بسرعة ) : أن يكون الأمر كله مجرد وهم ..
- ( بشراسة ) : وهم ..؟؟؟؟..
- ( يتراجع خائفا ) : أأ ... أقصد حلم سموك .. أن يكون مجرد حلم ..
- ( مفكرا ) : مممممممم....
- هل لى أن أقترح شيئا يا مولاى الأمير ..؟..
- ( بشرود ) : اقترح ..
- ( بسرعة ) : الدكتور ( اسماعيل عبدون ) ..
- أذكر هذا الاسم " طشاش " ... من هو ..؟..
- انه الطبيب النفسى الذى عالج مولانا الملك من حالة التبول اللاارادى التى أصابته عقب محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها العام الماضى ..
- نعم .. نعم .. هل تقترح أن يرى " دادى " ..؟..
- نعم يا مولاى .. هذا الرجل كفاءة نادرة فى مجال الطب النفسى .. و هو الوحيد فى مملكتنا القادر على الوقوف على حالة مولانا ..
- ( تفكير عميق ) : .........................
- ( خشوع عميق ) : .......................
- حسنا .. اذهب أنت الآن .. و كن بالجوار لمتابعة حالة " دادى " ...
- ( ينحنى مغادرا المكان بظهره ) : تحت أمرك يا مولاى .. التحيات المباركات ..
و غادر القاعة فى حين التفت الأمير ( كمال ) الى رئيس الديوان الملكى الواقف صامتا من البداية و قال له :
- أين نجد هذا الطبيب النفسى يا دكتور ..؟..
أسرع الدكتور ( أبو العزم ) يجيب :
- فى معتقل الواحات سموّك ..
- ( فى دهشة ) : الواحات ...؟؟؟...
- نعم سموّك .. كانت هذه فكرة عبدكم المتواضع حتى لا يذيع خبر أن مولانا يبول فى ثيابه .. و اذا أمرت سموّك سيكون تحت قدميك فى خلال ساعة واحدة ..
- ( يلوح بكفه ) : حسنا .. أحضره ..
- ( ينحنى ) : أمر مولاى الأمير ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
من شريط الأخبار فى قناة ( الجزيرة ) :
الاعلان رسميا عن وقف موسم الحج لهذا العام درءا احتياطا لمنع حدوث أى تجمعات لعناصر ارهابية - - مقتل سبعة جنود أمريكيين بعبوة ناسفة فى العاصمة السودانية ( الخرطوم ) - - الأمن الداخلى يضرب حصارا محكما حول ( عزبة أولاد علام ) أحد المناطق العشوائية المتاخمة للعاصمة المصرية ( الاسكندرية ) و يعتقل العشرات من سكانها - .. الخ ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
فى قبو مستشارية الأمن الداخلى ..
- أين زوجك يا ( احسان ) ...؟؟..
- و الله العظيم مانعرفو يا باشا ..
نهض مستشار الأمن الداخلى من خلف المكتب الخشبى العتيق الموضوع فى تلك القاعة الرطبة بقبو المبنى و اقترب من تلك المرأة الباكية المتشحة بالسواد و قال لها برفق :
- زوجك خرج من السجن منذ ستة أشهر ..أمن المعقول يا بنيتى ألا تعرفين مكانه حتى الآن ..؟..
- ( منهارة ) : و الله العظيم مانعرفو .. دا حتى لما كنّا بنزوره ف السجن - قبل ما يطلّقنى - ماكانش بيرضى يقابلنى ..
- ألم يتصل بك حتى ..؟؟..
- لا و ( المرسى أبو العبّاس ) ..
جذبها بغتة من شعرها المنكوش ( بعد أن سقط عنه الايشارب ) بقوة جعلتها تتأوه ، و صاح بشراسة مفاجئة :
- اسمعينى جيدا يا امرأة .. لا وقت لدىّ للعبث .. زوجك فيما يبدو ارتكب " عملة زى وشه " ... و سأعرف منك أين يختبئ .. و لو كان فى سابع أرض ..
- ( تصرخ ) : و ربنا المعبود مانعرف يا سعادة الباشا ..
و فى اللحظة التالية أطفأ سيجاره فى وجنتها أسفل عينها اليسرى مباشرة فصرخت صرخة شنيعة ارتج لها المكان ، و ألقاها المستشار أرضا ، و رفع كفه الى رجاله الّذين تحركوا نحوها قائلا :
- لا ..
و نظر اليها فى شراسة مستطردا :
- أحضروا أولادها ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
نهاية الحلقة الثالثة