استوقفتني أثناء حضوري أحد المؤتمرات الإسلامية الأسبوع الماضي، ظاهرةٌ أبانت لي من جديد عدم فهم الأمة العربية لأهمية احترام الأعراف القانونية غير المكتوبة.
ولعله من المسلم به عند أهل الاختصاص، أن الأعراف هي الأصل الأول لجميع القوانين الداخلية والدولية. ولهذا، فإن احترام الآخرين لهذه الأعراف - التي تعد ذاتها قانوناً وإن لم تكن مكتوبة - يعبر عن مستوى رقي وعلو المجتمعات التي تحترم أعراف الآخرين. إذ إن هذه الأعراف في الأصل تعبر عن رغبة المجتمعات التي اعتقدت بإلزاميتها، واحترامها يعني تقدير رغبات أصحابها.
وبلغ الحرص البريطاني على مراعاة واحترام أعراف المجتمعات الأخرى عموماً والإسلامية خصوصاً درجة غير مسبوقة. فعلى سبيل المثال، اعتادت ملكة بريطانيا ارتداء زي ساتر وقفازين حين لقاء خادم الحرمين الشريفين، كما فعلت ذلك أيضاً الأميرة الراحلة ديانا في زيارتها للملكة العربية السعودية. وهذا غير مستغرب لمن عرف حرص التاريخ البريطاني على المحافظة على الأعراف العريقة داخلياً ودولياً.
في هذا المؤتمر الإسلامي - الذي خالفتُ فيه عادتي في العزوف عن حضور المؤتمرات الدولية - كان مقرراً أن يكون فيه تمثيل المنظمة العربية الأم على مستوى أمينها العام. ولكن الأمين العام للجامعة العربية اعتذر عن عدم الحضور لأسباب قد تكون مفهومة، وأوفد مندوباً ينوب عنه. ولعله فات معالي الأمين أثناء اختياره البديل، أهمية اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب بحسب ما تقتضيه أعراف المؤتمرات الإسلامية، فوقع اختيار معاليه على امرأة غير متحجبة في مؤتمر «إسلامي» يترأسه وزيرا أوقاف أكبر دولتين مسلمتين هما السعودية ومصر، وعدد كبير من علماء المسلمين الأجلاء، إضافة إلى الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الذي أقيم هذا المؤتمر تحت رعايته.
وبالطبع فقد جلست مندوبة المنظمة العربية الأم، حاسرة الرأس في المنصة نفسها التي يجلس عليها المشايخ والعلماء، الأمر الذي أثار غضب العلماء الحاضرين ودارت حوارات سرية وأخرى علنية حول سبب «استفزاز» الجامعة، بهذا التصرف الذي قد لا تجرؤ منظمة غربية غير إسلامية على القيام بمثله.
وفي تقديري إن هذا التصرف من الجامعة العربية لا ينم عن خطوة استفزازية بقدر ما ينم عن جهلٍ أو عدم اكتراثٍ بأعراف المؤتمرات الإسلامية، التي كان يجب ألا تخفى على المنظمة الإقليمية العريقة، ولكنه أمر غير مستغرب لمن عرف الأساس الذي أقيمت عليه الجامعة في التعامل مع شعوبها.
ففي الوقت الذي نجد فيه أن ميثاق الأمم المتحدة – الذي أعد بفكر غربي - يفتتح بلفظة «نحن شعوب الأمم المتحدة..» تقديراً واحتراماً لدور الشعوب في سبب قيام المنظمات الدولية، نلاحظ أن ميثاق الجامعة يستفتح بعبارة «نحن ملوك ورؤساء الدول...».
فاختلاف المنهج إذاً، هو نتيجة اختلاف فكر وعقيدة سياسية. ففلسفة الفكر السياسي الغربي تقوم على احترام الشعوب وأعرافها وتقاليدها العريقة. ولعل هذا أحد أبرز ما يفرق بين عقلية العالم الغربي وعقلية العالم العربي من الناحية السياسية القانونية.
بيد أن احترام الأعراف العريقة ليس حكراً على الدول المتقدمة فحسب. فكثير من دول العالم الثالث لا تزال تراعي الأعراف الديبلوماسية والاجتماعية. من ذلك أن الهند تراعي في اختيار سفيرها للمملكة العربية السعودية أن يكون مسلماً، وهي خطوة جديرة بالاحترام.
وأعجبني نبل الرئيس اللبناني إميل لحود أثناء استقباله للمحجبات اللبنانيات اللاتي يأتين للسلام عليه، فيكتفي بوضع يده على صدره من دون أن يمد يده إليهن لئلا يوقعهن في حرج، في حين يمد يده لبقية النساء الأخريات اللواتي لا يرين حرجاً في مصافحته.
لكن، وللحق فإن التصرف المريب الذي قامت به الجامعة العربية في هذا الموقف، وإن أغضب كثيراً من علماء الدين المسلمين، إلا إنه لم يكن الأسوأ بين مواقف الجامعة التاريخية. فتناقضات مواقف الجامعة تشفع لها في وصف هذا التصرف بأنه من اللمم.
فالمنظمة الدولية التي تعيش في معزل عن محاولات التمزيق الخارجية لشعوبها في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال، قد لا يُستغرب عليها ألا تكترث بأعراف شعوبها!
و «الجامعة» التي تجد أن أنصع صفحات الإجماع في تاريخها، لا يكون إلا موجهاً ضد أحد أعضائها، كما حصل في قمة بغداد عام 1979، التي أجمعت فيها الدول العربية على تجميد عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس، أو كما حدث أيضاً في قمة القاهرة عام 1990 في موقف الجامعة المماثل ضد حكومة بغداد، قد لا ترى حرجاً في خرق إجماع علماء الدين!
والمنظمة الإقليمية التي قدمت لبقية المنظمات العالمية مثالاً غير مسبوق، حين شهدت أروقتها مهاترات بين زعماء قادتها، قد لا تكترث كثيراً بلغط دائر بين عدد من «الدراويش» بسبب ارتداء حجاب من عدمه!
و «الجامعة» التي طغت خلافاتها العربية – العربية على جداول أعمالها منذ إنشائها وحتى اليوم، فجمدت اجتماعات قممها للأعوام 1966، 1968، 1970، 1971، 1972، 1975، 1977، 1983، 1984، 1986، وأوقفت اجتماعاتها لمدة خمسة أعوام متتالية منذ قمة القاهرة الطارئة في أعقاب الغزو العراقي للكويت عام 1990 وحتى قمة القاهرة عام 1996، قد ترى أهميةً أقل لهذا المؤتمر الإسلامي برمته، عقد أم لم يعقد!
والجامعة العربية التي أصدرت «شهادة وفاة» لـ «عملية السلام» في مؤتمر علني، ثم ما لبثت أن نفخت فيها الروح مرةً أخرى، قد لا تمانع في أن تبعث مندوباً آخر يكون رجلاً متحجباً على الطريقة الإسلامية للمؤتمر المقبل!
ولعل ما حدث في هذا المؤتمر، يذكرني بموقف طريف رواه لي «خبير أميركي» عمل مستشاراً لدولةٍ خليجيةٍ صغيرة. ففي عام 1988، وأثناء زيارة هذا المستشار الأولى للدولة الخليجية التي تستضيف الآن أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، وقبل أن يلتقي ثاني أكبر شخصية في تلك البلاد، تلقَّى هذا «الخبير» دورة قصيرة من مكتب ذلك المسؤول تعرَّفَ فيها على العادات والأعراف العربية العريقة في كيفية «هز» فنجان القهوة حين الفراغ منه، وبعض طرق الاحترام العربية الأخرى التي قد تخفى على الغربيين. من ذلك ألا يضع قدماً على قدم في اتجاه مضيفه العربي، لأن ذلك يعد من سوء الأدب في العادات العربية العريقة. ولكن مفاجأة صاحبي كانت عظيمة حين استقبله المسؤول الخليجي الكبير القدر، الذي ما فتئ يهز قدمه اليسرى المرفوعة فوق قدمه اليمنى التي كانت باتجاه الخبير الأميركي!
محمود المبارك
حقوقي دولي
نقلاً عن جريدة الحياة اللندنية
27/11/06//