في ليلة مترفة بأوجاعها المتلاحقة تنهدت ونزلت بصمت حاملة معها حقيبتها الصغيرة. عند توقف السيارة أمام ناصية الشارع المؤدي للمنزل, خطت خطوات متعثرة وتاهت خطواتها هل تقصد المنزل أم لا؟
اتكأت على الجدار تئن من ظلمة الليل وظلمة النفس, تنظر إلى الطريق وفي داخلها طريق سرمدي مظلم, الساعة تشير إلى العاشرة في شارعٍ تتحرش به الوحشة القاتلة, والمحلات بدأت تقفل أبوابها, وحفيف ورق الأشجار امتزج بصوت مزامير السيارات.. تتقدم قليلاً تراقب وجوه المارة في الشارع, تشاهد رجلاً وزوجته يبتسمون, تحسدهم على فرحتهم, وتتساءل كيف يبتسم الآخرون؟
في لحظات فقدت فيها طعم الابتسام!, وغضات الألم تتدافع نحو حنجرتها المكلومة, وتكتم صرخات وشهقات مؤلمة تغلي في النفس, وأخيراً تلفظ بركانها الثائر في مقلتيها المتحجرتين.
في الطريق همّت أن تلقي بنفسها تحت عجلات إحدى السيارات المارة, ثم تراجعت عن رأيها, وخطواتها المتثاقلة لم تستطع مواصلة المسير لترتمي جالسة على سياج إسمنتي لسور حديقة قريبة من منزلها تتسلل إليه أشعة الضوءالخافتة من مصباح علق في مقدمته ليلقي بظلاله عليها ويتوهج ببريق الدموع. الأفكار تتسابق والذكريات تتساءل: كيف تدور عقارب الساعة في الاتجاه المعاكس بهذه السرعة؟, قبل ساعة كانت من أسعد البشر وتجلس في كنف ضوءالشموع في إحدى المطاعم تتهامس معه وتهديه أرق مشاعرها وترسم أحلامها بصمت وتسرح في نظرات عينيه, لتفاجأ في السيارة باختناق الكلمات على شفتيه وعينيه اللتان لا يقدر على رفعهما حين قال لها: لقد عقدت قراني وسوف أتزوج بعد شهرين, لذلك سوف انهي علاقتنا هذه الليلة!
ألجمتها الصاعقة وجعلتها تدور في فلك اللامعقول, إلى أن نطقت كلمة حائرة على شفتيها و" أنا " عندها نظر إليها نظرة ـ ويالها من نظرة ـ قاسية! وما أبلغ لغة العيون عندما تحكي مالا تستطيع آلاف الكلمات أن تصفه وتشرحه!
قالت لها النظرة: أنتِ لا شيء, لا وجود لكِ في قاموس حياته, أنت دمية لا أكثر!
وتتعاظم هذه الكلمات بداخلها وتتساءل.. لماذا يباغتها القدر في أحلامها؟ لماذا كل صديقاتها تزوجن وسعيدات في حياتهن سواها؟
هل مكتوب عليها الحزن والمهانة والذل والانكسار؟ وكيف هو الانكسار على امرأة في ريعان شبابها وجمالها؟!
وما أصعب السقوط في بحر لجيّ المعالم وما أصعب الخروج منه دون أن تصاب بالبلل, تتذكر أول مرة رأته فيها, كيف كان حفياً بها وكمن يقبل الأرض تحت رجليها, وعندما قال لها: أحبك.
ألم يكن صادقاً معها ؟! وهو من نسجت حوله خيوط الأمل ورأته المخلص في حبه لها ممن عرفتهم من الشبان الذين ألقت بها الصدف في شباك تذاكرهم :أحمد, وفهد, وهاهو خالد.. كلهم يغرقون في بحر الرحيل لتبقى وحيدة مخلدة معها جيوشًا من الذكريات المريرة للحظات انكسار أنثى, وإهدار شموخها. تهب رياح على المكان وتضيء السماء ببرق وصوت الرعد يزمجر في الأرجاء؛ كأنه أتى ليشاركها غضبها في هذه الليلة.. وتنظر لخلفها في الحديقة إلى تلك الزهرات النائمة وقد بدت تبللها قطرات المطر..
ثم تتذكر عندما مدّ لها زهرة, وقالت: هذه الزهور تموت في كل الفصول وتنتظر بشوق فصل الربيع لتنمو فيه وتزدهر وتفوح عطراً ..عمرها قصير ولكن عطرها أبقى ولا يزول.
عندها بادرها قائلاً: كيف سيكون لليالينا عبير وأريج إن لم نسكب من عطر هذه الزهور بعض القطرات!
اشتد البرق في المكان وبدأ ينهمر المطر عندها وقفت والألم يحمل خطاها متجهة للمنزل وشعاع ضوء ينبعث من الخلف يتبع خطواتها. تخطو بخطوات أكثر سرعة وثبات. تصل إلى المنزل والضوء لازال يتبعها. وعند عتبة الدار تنظر للخلف؛ لترى شعاع الضوء قوياً يخطف البصر!
.................................................. .................................................. ...........................