برّأ القضاء الهولندي والدنماركي مرتكبي جرائم الكراهية الدينية ضد الإسلام من أي تهمة، بعد رفض النظر في القضايا المرفوعة من حيث المبدأ، وكانت القاعدة الأساسية التي كانت منطلق هذا الموقف وشعاره، هو حرية الرأي والتعبير، وحق كل إنسان في أن يعبر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته دون وصاية من الآخرين، وهذا الموقف "القضائي" الغربي -بكل تأكيد- يمثل صورة نموذجية للنفاق الثقافي والسياسي، الذي يكيل بأكثر من مكيال، ويزن الأمور حسب منطق القوة، وليس منطق الحق والعدل، ولتنشيط الذاكرة نستعيد موقفاً غربياً شهيراً في واقعة معروفة بقضية (ديفيد ايرفنج) المؤرخ البريطاني الشهير، الذي أثار الجدل طويلاً بفعل أبحاثه التاريخية التي ينتقد فيها التصوير اليهودي لمسألة غرف الغاز التي قيل إن "هتلر" شيّدها لليهود، وأحرقهم فيها أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي التي عُرفت "بالهولوكوست"، والمدهش أن هذه "الحكاية" التاريخية أصبحت أقدس مقدسات التاريخ الأوروبي القديم والمعاصر، بحيث يستطيع الباحث أن يكذب بوجود التوراة ذاتها أو الإنجيل أو أي شيء آخر، فهذا يدخل في باب حرية الرأي والاجتهاد والبحث التاريخي، أما أن ينكر حكاية أفران الغاز فهو حينئذ يكون مجرماً وعدواً للإنسانية، ويتوجب إدخاله السجن جزاء اجتهاده الفاسد، وفي أحسن الحالات يمكن تغريمه بغرامة مالية باهظة تقصم ظهره، وتفرض عليه الخراب المادي والاجتماعي، أما إذا كان قد حصل على شهادة علمية، الدكتوراه مثلاً، فلا بد أن تُنزع عنه؛ لأنه لا يستحق أن يكون أكاديمياً، ولا بدّ من طرده من الجامعة، وهذا الذي نقوله قد حدث بالفعل مع باحثين وصحافيين وكتاب ألمان وفرنسيين وبريطانيين وغيرهم، ولكن (ايرفنج) كان أخطرهم على النفوذ اليهودي على الإطلاق، وذلك لأنه مؤرخ مشهود له بالكفاءة، وكتبه لها قبول واسع لدى القرّاء ورواج كبير، كما أنه نجح في امتلاك الكثير من الوثائق والأوراق الخاصة بهذه المرحلة، مما جعل حججه فيها قوية للغاية، وهذا هو الخطير، وذلك أن حكاية "الهولوكوست" تمثل الدجاجة الذي تبيض ذهباً كل يوم للمنظمات اليهودية، وقد حصلوا من ورائها على مليارات الدولارات من دول أوروبية كتعويضات، وما زالوا يحلبون البقرة، وعندما شنوا حملة من العداء البشع ضد (ايرفنج)، وشتموه علانية في الصحف وفي كتب منشورة، رفع دعوى قضائية في بريطانيا، وأذكر أنني كنت أتابع الصحافة الصهيونية في هذه الأثناء، وكان بها من القلق من هذه المحاكمة شيء لا يصدقه العقل، لقد كانت أشبه بمعركة حياة أو موت، وقد جنّدت المنظمات اليهودية كل إمكانياتها الإعلامية والمالية لدعم خصوم الرجل في هذه القضية، وتمّ رصد مبلغ ستة ملايين جنيه استرليني كتكلفة أولية للمحاكمة "حوالي عشرة ملايين دولار"، شارك فيها فنانون ومخرجون يهود، وكانوا يغدقون على المحامين وحتى على الشهود، لدرجة أن أحد الشهود تقاضى "أتعاب" تصل إلى مائة وتسعة آلاف جنيه استرليني "قرابة مائة وسبعين ألف دولار"، والمدهش أن هذا كله لم يلفت نظر الضمير الغربي وصحافته، وقد صدر الحكم في القضية بإدانة (ايرفنج)، وحُكم عليه في النمسا بالسجن ثلاث سنوات، وأقسم بجلال الله وعظمته أن مثل هذا الحكم لو صدر في بلد عربي على رجل جحد القرآن الكريم علانية لقامت الدنيا ولم تقعد؛ دفاعاً عن حقه في الاجتهاد وحريته الشخصية، ولقام علمانيون من بيننا باتهام الحكم بأنه عار على بلادنا ودليل تخلف، وأن الظلاميين قد اخترقوا القضاء.. إلى آخر الكلام الشهير الذي قيل علانية عقب صدور حكم شهير ضد الباحث المصري نصر أبو زيد على سبيل المثال، وعقب الحكم اشتعلت آلة الدعاية الصهيونية المسيطرة على مقاليد الصحافة في معظم بلدان أوروبا، لكي تشن حملة من السباب والكراهية والشماتة بالمؤرخ البريطاني المسكين، وأعلن خصوم الرجل في صراحة يُحسدون عليها أن هذا الحكم كان القصد منه "ترويع كل من تسوّل له نفسه أن ينكر محارق اليهود على يد النازي"، ومن المهم أن نذكر أن الرجل لم ينف تماماً أن اليهود تعرّضوا إلى اضطهاد على يد النازية، بل يقرر أنهم تعرضوا مثل غيرهم من ضحايا الحرب للاضطهاد، وأما حكاية غرف الغاز التي كانوا يُحرقون فيها فهي محض خرافة، ولا يوجد أي دليل واحد ولا شاهد واحد على وجود هذه الغرف، وتحدّاهم أن يأتوا بالدليل، بل أكد على أن الغرف الحالية قد بُنيت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم تكن موجودة أصلاً أيام هتلر، والأمر الذي ملأ صدري غيظاً أن كاتباً عربياً تحرّرياً وليبرالياً نشر في صحيفة عربية كبرى يطالبنا بأن ندين (ايرفنج)، وألاّ نتعاطف معه، وأنه لا بد من أن نسلم ونصدق بالرواية اليهودية عن المحارق؛ لأن هذا من شأنه أن يمنحنا الاحترام في الأوساط الدولية، وكانت هذه الأقلام هي ذاتها التي انتقدت الغضب الإسلامي من الرسوم المسيئة؛ على أساس أنها تعطي انطباعاً سلبياً عن موقف المسلمين من حرية التعبير، وهكذا نصل إلى أحد مداخل العولمة على العقل العربي، ألا وهي "تهويد الضمير العربي" كشرط لحجز مقعد في المسيرة!