(حسن البنا) نموذج من النماذج النادرة التي عرفها تاريخ الإسلام الطويل منذ أرسل الله سبحانه برسالته الخالدة محمداً صلى اله عليه وسلم , فهو واحد من عقد هؤلاء الدعاة الإبرار والمصلحين الربانيين الذين عرفتهم الأمة الإسلامية ؛ فصححوا مسيرتها , وغيروا أعرافها , وطبعوها بطابع الحق , وأعادوها إلى الصراط المستقيم .
هؤلاء الذين يظهرون فجأة فيملؤون الدنيا علماً وعملاً ,ثم يختفون فجأة بعد ان يكونوا قد أحدثوا دوياً عالمياً في آذان الدهر وأسماع الناس , فهم يبرزون فوق الأحداث , ولا يخضعون لمقررات الوراثة , ولا يستمدون مقدرتهم من بيئة أو أسرة , وإنما هم صبغة الله ومظهر إرادته البالغة ؛ ذكاءً غاية في الذكاء , وعزيمة آية في الصدق , وحسن سمت وبراعة أداء , وبلاغة بيان , وكأنما قد جمع لهم علم الأولين وخبرة الشيوخ ؛ وهم ما يزالون بعد في مقتبل العمر , وفي مطالع الشباب .
نعم .. رباني بكُلّيته وروحه وجسده وقلبه وقالبه، تجد فيه ما لم تجده في قبيله أو أهل جيله، من إيمان راسخ رسوخ الجبال، ثابت ثبات الحق، لا يزعزعه مال أو جاه أو سلطان، ولا ينغصه غرور العلم ولا شرود الفكر، ولا يكدره ضلال العقل ولا فساد النقل، يمتاز بصفات قلما توجد إلا في ولي من أولياء الله الذين اصطنعهم الله على عينه، لأن الله قد أعده لإصلاح الفساد الذي صنعه الناس، وإحياء الموات الذي أحدثته العلل، إنه الإمام "حسن البنا".
رجل من طراز فريد، إمام ملهم موهوب، وأستاذ قدوة محبوب، ومجدد للإسلام في القرن العشرين
وقد اعتبره الكثيرون من العلماء، مجدد القرون السبعة الماضية، وقيل إنه رجل بأمة، وأمة في رجل، ورسالة في بشر، ونهضة في إنسان. ولهذا، فقد حمل من الصفات ما يؤهله لذلك، ومن العزمات ما يرشحه لحمل الأمانة، فهو رجل ذو طبيعة ربانية، ونفس ملائكية، وأخلاق نبوية، وعقيدة عملية، وطهارة إيمانية، وهداية قرآنية، كما أنه كان زاهداً كزهد الصحابة الميامين، وقدوة كقدوة الأنبياء والصالحين، وداعية ذا بلاغة وبيان ودين.
وإذا تحدثت عن عزيمته الحديدية، وتضحياته الأسطورية، وجنديته وحنكته التنظيمية، بلغت بالمثل المدى، وفعلت ما لا يفعل الخبراء
وإذا تحدثت عن علمه وفقهه، وجدته كبحر لا تدرك شواطئه، ذا طبيعة اجتهادية، وحجة منطقية، ونظرة واقعية.
كما أنه كان قيادة اجتماعية. ومشاعر إنسانية، يحس بالفقير ويتألم لألمه، ويعيب أصحاب القلوب الغلف والأحاسيس الميتة، ويخوض غمار المكرمات فيتجشم وعور الحوادث.
مثل هذا الرجل لا يعرفه إلا أصحاب البصائر النيِّرة، والعقول الفذة، وعلماء الشريعة الأثبات، وأبطال الجهاد والكفاح في الأمم الناهضة، ورواد الفكر والباحثون عن الحقائق الغائبة، والنهضات الغاربة.
كتب عن الشيخ البنا الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون كلمات حقيقية، ولكنها ملتاعة وواقعية، وحزينة تحمل الحسرات والآهات على الكنوز الضائعة من الرجال في الأمم اللاهية التي لا تقدر كنوزها ولا عباقرتها من الرجال الأفذاذ، فقال في حسن البنا: بعد أن خبر غوره، وسبر أعماقه، وأحسّ عبقريته، وأبصر همته: "هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده، إنه رجل لا ضريب له في هذا العصر، لقد مر في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر، كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحوّل مجرى الحوادث شهيداً كما مات عمر وعلي والحسين، كان لابد أن يموت باكراً، فقد كان غريباً عن طبيعة المجتمع.. يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد.
ولقد كان النهج الذي اقتبسه "البنا" من القرآن، وعززه بالعلم، ونشره بالبيان وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة، بحيث زلزل أقدام المستعمرين، وأقض مضاجع الطغاة، وخيَّب آمال المستغلين".
وهذه بعض اللمحات عن الرجل، وكم يتساءل الإنسان عن إهمال ذكر هؤلاء الرجال وأضرابهم، وكتم مآثرهم، وطمس جهادهم، وقد يكون ذلك لأن قوى الشر هي التي مازالت تصارع الرجل وفكره، وتطارد أتباعه والمصلحين الذين يسيرون على دربه، وهي السد المنيع أمام إظهار رسالته، ولكن حتى متى والهوى لا يكتم طويلاً، والحق لا يغمط إلى آخر الدهر،
فيا أيها العملاق، سلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.
المراجع الإمام حسن البنا مجدد القرن .. نجم الدعاة .. الرجل القرآني ..