تمثال الملكة
ملكته صارت ملك يديه , بتاجها , بأساورها , بعقود الذهب المتلألئة على صدرها , سطعت في فضائه فأغمض عينيه حذر الموت من شدة الفرح , وحين فتح عينيه لم يجدها , هربت , تبخرت , أخذت الذهب ,وتركت له تاجا من الخرز الرخيص , وحلتها البيضاء الموشاة بخيوط الأحلام.
نظر حوله , لم يجد لها أثرا , ضاعت , نعم ضاعت ملكته التي أفنى كل ما جمع من المال طوال حياته ليصوغ لها حليا تليق بمقامها , هربت من بين يديه كطيف , كشعاع نور , كومضة برق , أضاءت ما حوله برهة, ثم تركته يتخبط في ظلام مبين .
أقسم على الانتقام , لكنها حين غادرته أخذت معها قلبه , وما تركت له سوى حقد مدمر في صدره , أين يبحث عنها؟ كيف يبحث ؟ لماذا هربت؟ من أعانها على الهرب ؟ هل يبحث عاقل عن نور تبدد؟
معرض الفن التشكيلي الذي تتخذه المدينة عيدا لها يدنو , يوما بعد يوم يقفز فوق أوراق الروزنامة, لابد من الاستعداد له , لابد من تقديم عمل بعمق جراحه , عمل يرضي شعوره بالتفوق على كل من عرفهم ومن تعرف اليهم , ذلك الشعور ما يزال حبيس نفسه , لم يعترف به أحد , لا بد أن يقدم للمعرض فنا متميزا , عملا يسحب اعترافهم بتميزه وذكائه رغما عنهم .
حمل أدواته وراح يبحث , جاب شوارع مدينته , مشط بيوتها , طاف بالقرى المجاورة, لم يعثر على ما يثلج فؤاده , رحل بعيدا الى حيث تسقط الشمس خلف خط الماء , وقف يتأمل : قرص النار ينطفئ في أفق البحر ويترك الأرض نهبا للظلام , أعجبه المشهد , ترك الماء والرمل , وحبا فوق سفوح الجبال بحثا عن ضالته .
هناك رآها , صفق فرحا ورقص , طاف بها , دار حولها متأملا تفاصيلها, مستكشفا قدرته , كتلة من الصخر الأصم تشكل جزءا من جبل , تحيطها شجيرات حراجية يكسوها زهر أصفر فاقع , يرسل عبقا حادا واخزا , تحمله الريح إلى مسافات كالخيال , تتخللها أشواك أقسى من أحقاده , على قدميها تنبت الدفلى , تجود بزهرها الوردي والأبيض , تنضح مرارة تبعد عنها أسراب النحل والفراشات والأحلام , من حولها صخور تعلوها صخور تعلو صخورا , توقف مشدوها معقود اللسان : هذا فوق ما كنت أبحث عنه , هذه بغيتي.
رفاقهم يصنعون تماثيلهم من الجص أو الرخام , بعضهم يستخدم الخشب وهش الحجارة , أما هو فقد جعل هذه الربوة مادته , أنزل حقيبته عن ظهره , فرد عدته ليبدأ العمل , هذا الرأس العنيد لا بد أن يذعن لأدواته , وهذا الخصر الترابي المترهل سيستأصله من شأفته , دنا ليخترق سياج الزهر .. وخزته الأشواك الحادة , حاول إزالتها , استعصت , سأل بعض الحطابين من سكان القرية , أجابوه بأن للجبل قانون يحميه , وأعراف لا يمكن تخطيها , عاد لنفسه , أيعجز عن ترويض ربوة وهو الجبار؟ دنا مرة أخرى , اجتث بعضا من أعواد الدفلى , جندلها على التراب , مجردا الربوة من زينتها , ظل يعمل حتى سال العرق غزيرا من كل جسده , وراح يكف على الأرض لينعجن مع ترابها , شعر بالظمأ , قصد أقرب نبع , اغترف غرفة ملء كفيه ماء قراحا ,و رفعها إلى فمه ... مرارة الدفلى الممتزجة بعرق كفيه انتقلت مع الماء إلى حلقه , مج ما شرب وعاد إلى مقره يقتله الظمأ.
مرة أخرى رجع إليها , الدفلى سياج مر يصعب لمسه , ترك منبت الدفلى ودار حول الصخرة من جديد , اعتلاها عابرا إحدى الثغرات الضعيفة , ووقف على قمتها , شامخا فاتح الصدر كالصقر , راح يتأملها من عليائه بفخر: والآن؟ أما وقفت فوقك ؟ أما صرت تحتي ؟ ما الذي يمنعك من أزميلي ؟
راح ينقر الصخر بهدوء وصنعة, هذا الرأس العنيد لا بد أن أجعله نسخة من ذاك الذي ضاع , ليتناسب مع التاج الذي أحتفظ به لمليكتي , قاومي ما شئت أن تقاومي فصبري طويل , وأشواكك هناك في الأسفل , لا تستطيع الدفاع عنك , استسلمي , لا بد أن تستسلمي , لأصنع منك عملا فنيا لم تعرف له بلادي مثيلا من قبل .
الضربات الأولى صدتها صلادة الصخرة , بدل مكانه , أعمل ازميله فوقع على جيب ترابي رخو , نزح ترابه فرحا وانتقل خطوة أخرى , وضع ازميله على جزء أقل قسوة , راح ينحت فيه وينحت , حتى تشكل لديه ما يشبه الوجه , ضربة قوية سددها إلى المنتصف , إلى حيث يفترض أن يكون الأنف , وهو مغرم بتحطيم الأنوف , ضربته هشمت الصخر الهش فتناثر شظايا , انزلقت على السفح واستقرت بين الأشواك .
الفنان لا يعرف اليأس , رأسه العنيد المعبأ بوهج الشمس يدعوه للمثابرة ,خيال ملكته الهاربة يرغمه على الصبر, المعرض الموعود ينتظر ليعلن مولد أمجاده , رسم للملكة رأسا جديدا , بدأه بشعر طويل معقود للخلف كذيل الفرس , ثم راح يجهد لرسم عينين خفراوين تشيحان غنجا , كان يضرب , وتردد الوديان صدى وقع الحديد فيخالها ترقص معه, تخيل خصرا دقيقا لدنا يتثنى تحت هبات النسيم كأماليد الدفلى , واستدرك ,لا , ليست ملكتي دفلى , ملكتي قصب سكر , وسأل نفسه , هل أكسر أنفها الآن ؟ أم أنتظر حتى النهاية ؟ فلأجرب الآن , ربما تحطم هذا النموذج كسابقه فتضيع جهودي سدى .
أطال التفكير ثم استقر رأيه , سأتركها هكذا , تفرح بشموخها حتى النهاية , ثم أحطم كبرياءها بتؤدة , مستخدما ذكائي , بحيث أجعلها هي نفسها لا تدرك ما جرى لها , سأستعمل الرقة واللطف في غايتي , وهذه غايتي .
كان يحدث نفسه بصوت عال ويضحك , ثم يضحك , سمعته الملكة , كان قد رسم لها عينين خاليتين من الكحل وأذنين بلا أقراط , وعنقا عاريا من الجواهر , اشتعلت غضبا , وراحت أطرافها ترتجف ,أتنتقم بي من خيباتك الماضيات ؟ هكذا اذا؟
انكسر النتوء الذي كان يقف فوقه , فانهار معه وجه الملكة , وانهارت معه أحلامه باجتياح معرض سنوي , كان يطمح للبروز فيه كأهم فنان أنجبته تلك الأرض القفراء , هوى جسده فوق الأشواك الحادة , فراحت تنهش لحمه وتتلمظ بدمائه , وتكومت فوقه حجارة أنقضت ظهره ,هرع الرفاق لنجدته , حملوه إلى المشفى غائبا عن الوعي , ليرقد هناك , على سرير أبيض , مثخنا بالجراح .
كانت المدينة ترقص مبتهجة بمعرضها , الذي خلا من صورة الملكة , ومن اسم نحاتها , بينما كانت الربوة تستقبل الشمس بوجهها الضاحك , وقد ملأت أمطار نيسان تجاويفها , وغطت ركام الجزء المنهار منها , فسقت بذوراكامنة , لتنبت نباتات حراجية جديدة , ذات أشواك حادة.