أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: صفحة من دفتر المأسأة ( قصة صحفية )

  1. #1
    الصورة الرمزية أحمد جمعة قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    الدولة : غزة أرض العزة
    المشاركات : 42
    المواضيع : 10
    الردود : 42
    المعدل اليومي : 0.01

    صفحة من دفتر المأسأة ( قصة صحفية )

    من دفتر أحزان الحياة في غزة .. لا أدري لماذا شعرت بوجوب تقديم هذا العمل إليكم . كنا في جلسة لإحدى المؤسسات الأهلية في مدينة رفح مع مجموعة من الأطفال الذين لفحتهم الحرب بنيران حقدها فأفرخت فيهم الخوف والقلق ، ومن بين سطور حكاياهم التقطت هذه الحكاية .
    صفحة من دفتر المأساة
    " وقوع البلاء أفضل من انتظاره "
    ربما تكون هذه العبارة القديمة مدخلا لرواية اجتماعية مثيرة ، أو ربما تكون لفظا يتناثر على ألسنة الناس هنا وهناك ، ولكن المؤكد أن الطفل (عبد العزيز) ورغم سنوات عمره التي لم تتجاوز التسعة أعوام ، قد عايش الحدث الذي يستحق في وصفه هذه العبارة المأثورة . فحين تغدو حياتك رهينة للوقت القاتل في صمت موحش خلا من غير صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تلقى حممها على غير هدى في قلب تجمعات المدنيين ، وحين يفترسك الانتظار الطويل ملتحفا برداء من خوف وآخر من عيون مترقبة يترقرق منها الدمع تكاد دقات قلبها تعلن عن نفسها في صوت يحمل في طيّاته صورتي الألم والأمل معا .. وقتها فقط تكون في غزة .. ومن بحر حكايا الحرب التي ضربت في أعماق سكانها حتى النخاع وصلتني هذه الحكاية من فم الطفولة الصغير ، وببراءة الألفاظ التي تخرج من سويداء قلبه تحرك القلم يتّتبع الجرح النازف
    غزة – أحمد جمعة

    لم يكن صباح السابع والعشرين من ديسمبر للعام 2008 كأي صباح يمر على( عبد العزيز ) ، كانت الابتسامة تغمر وجهه الصغير وهو في طريق عودته إلى المنزل مارا بمركز الشرطة الرئيسي في محافظة رفح عندما حدث الذي لم يكن بخلده ، حيث كان قدره أن يشهد الضربة الجوية لمحافظة رفح في اليوم الأول للحرب حين قصفت الطائرات الإسرائيلية المقر الرئيسي لمجمع الشرطة الفلسطينية وهو يبعد عنها عشرات الأمتار فقط مما أدى إلى إصابته بصدمة نفسية دفعته بعدها إلى الانطواء وفقدان الشهية وأعراض الخوف المستمر ، حيث يرسم لنا الصورة بنبراته الطفولية قائلا ( كنت عائدا من المدرسة مع أصحابي وعندما اقتربنا من مركز الشرطة شاهدت الطائرة وهي تقصف المكان فارتميت على الأرض وأنا أبكي ورأيت المكان يمتلئ بسيارات الإسعاف والمطافي ووجدت أصحابي يبكون ويصرخون بصوت عال ، ورأيت الدم يملأ المكان ، ولكن أكثر شيء أخافني منظر رجل وجهه كله مغطى بالدماء يجري وهو يصرخ من الألم ) .
    كانت هذه هي البداية بالنسبة له ، فالمشهد لم يغب عن ذاكرته الصغيرة ، أصبح يرتجف دوما كعصفور مبتل في ليلة ممطرة ، كثيرا ما يستيقظ في الليل يصرخ ويهذي حالما بالطائرات التي تقصف الناس وتقتلهم بلا رحمة . حيث انطبع المشهد المأساوي في ذاكرته وأبى أن يزول . وبدأت معه أعراض الصدمة الناجمة من بعد الحرب حتى أصبح يخاف من أي صوت مرتفع ولو كان صوت أواني المطبخ !!
    التقينا والدته التي سالت دموعها على وجنتيها وهي تستقبلنا وتقول ( حسبنا الله ونعم الوكيل في اليهود ، الله ينتقم منهم . عبد العزيز كان مروّح من المدرسة مع أصحابه ، بس نصيبه اللي رماه جنب القصف . ومن يومها لا بنام ولا بيخلّي حدا ينام . حتى مستواه في المدرسة تضرر كثير وما عاد يهتم بدروسه مثل الأول . وحاولت معاه كثير لكن مش متجاوب معي أبدا ) .
    هكذا تقتل البراءة في فلسطين ، وبمثل هذه الأحلام الممتزجة بالدم والقصف والدمار تصطبغ أيامهم ، ويصبحون ويمسون على الذكرى الأليمة للمشاهد التي رأوها بأعينهم . فلا مكان هنا للعب أو المرح ، ولا حتى لممارسة طقوس مرحلة الطفولة بكل سماتها .
    اقتربنا أكثر من عالم ( عبد العزيز ) وسألناه عن أحلامه الصغيرة لتجيب عيناه قبل لسانه ( أنا بحلم بشيء واحد فقط ، إني أمشي بالشارع وما أكون خايف ، أعيش بأمان ، ما بدي أسمع صوت الطيارات مرة تانية بحياتي أبدا ) .
    لم تكفني إجابته تلك ، طلبت منه أمنيته عندما يكبر ، وبماذا يحلم أن يصبح في المستقبل ، حيث أجابني بصوت منخفض كالهمس ( أنا نفسي أطلع مهندس ، وأبني للناس عمارات وبيوت بدل اللي دمرها اليهود وقصفوها ) .
    لا أدري لم أصررت على التأمل بتمعن في ملامح وجهه الملائكي . كبرعم زهرة مبللة بندى الصباح ، توجهت إليه أطلب منه رسالة يوجهها إلى عالم الأطفال من حوله من يعيشون طفولتهم ولا يعرفون بأن أطفالا مثلهم يحرمون من ممارسة حياتهم الطبيعية . فكان جوابه ( رسالتي للأطفال اللي عم يعيشوا حياتهم وطفولتهم ، ويلعبوا ويفرحوا إنوا فيه أطفال في غزة ما بيناموا الليل وهمّا خايفين كثير ، ما بيعرفوا غير صوت القصف والطيارات وما بيشوفوا غير مناظر الدم والدمار . أتمنى منهم يساعدونا نعيش حياتنا مثلهم ) .
    قصة ( عبد العزيز ) لم تعد قصة نادرة الحدوث في غزة ، بل أصبحت رقما يضاف إلى مجموع قصص مأساة الحرب الإسرائيلية على غزة بكل عنفها ودمويتها ، ولكن أكثر ما شدّني إليها عيناه اللتان تحملان حزنا دفينا أخاله لو وّزع على سكان الأرض لكفاهم ، رأيت فيهما ما ألم أره من قبل ، رأيت الألم الذي امتزج بالخوف في لوحة سوداوية لا مثيل لها ، رأيت الدمع الذي يترقرق من العين الصغيرة في صمت ولكن ليس كأي صمت ، بل صمت يخرق جدار الكلام وتنحني أمامه العبارات المنمقة والمزركشة .
    علمت من ( عبد العزيز ) أنه يحب الرسم كثيرا ، وكان دائما ما يخربش بأصابعه الصغيرة على الأوراق الملونة ويلصقها في جدران غرفته التي يتقاسم سكناها مع إخوته الثلاثة في منزل متواضع على أطراف مدينة رفح ، أو ما بات يعرف حاليا باسم ( منطقة الشريط الحدودي أو مربع الأنفاق ) .
    سألته عن شعوره بافتقاد الأمان ومدى تأثيره عليه فكان جوابه لي ( أنا من يوم الحرب وأنا ما بشعر بالأمان حتى في غرفتي وبين اخواتي . لما اشتدت الحرب أخذنا أبويا على دار جدي بس أنا ما نسيت الموقف اللي شفته أول يوم ، ما نسيت وما راح أنسى كيف الناس صارت تجري وهية خايفة . ومنظر الدم اللي كان مغرّق الشارع . حتى لما رجعنا المدرسة بعد ما خلّصت الحرب المدرسين أعطونا ورق وألوان نرسم ونلون عليها ، لقيت نفسي عم بارسم المنظر اللي شفته والناس اللي عم بتموت وترتمي في الشوارع وسيارات الإسعاف اللي بتاخد الجرحى عالمستشفى . أنا خايف كثير من اليهود وخايف يقصفونا مرة تانية ) .
    أتاحت لي الظروف أن يجمعني اللقاء بـ ( عبد العزيز ) أثناء يوم ترفيهي للأطفال نظمته إحدى المؤسسات الأهلية في محافظة رفح ، حاولت وقتها إدماجه في اللعب مع أقرانه الأطفال ، لكن المحاولة كانت صعبة جدا ، وحتى بعد اشتراكه معهم واندماجه في الأنشطة الترفيهية المقدمة لهم ، كان الهاجس الصعب يحوم حوله ، أكاد ألمح في عينيه ألف سؤال وسؤال ، كان همّي الأول وقتها أن أعمل قدر جهدي على إخراجه من هذه الذكرى ومحاولة استيعابه للعودة ثانية إلى طفولته التي كانت من أبرز ضحايا هذه الحرب البائسة .
    في نهاية اليوم الترفيهي وقبل وداعنا للأطفال تأملت فيه برهة ، وسرحت في هذا العالم الذي يدّعي التمدن والحضارة وهو يغضّ الطرف عن مأساة أطفال أنضجتهم المأساة قبل أوانهم فغادروا ريحان الطفولة قبل موعدها حاملين معهم خيوطا من ذكريات لا يتمنون تكرارها أبدا ..

  2. #2
    الصورة الرمزية أحمد عيسى قاص وشاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : هـنــــاكــــ ....
    المشاركات : 1,961
    المواضيع : 177
    الردود : 1961
    المعدل اليومي : 0.31

    افتراضي

    نعم أخي أحمد ...

    هكذا تتكرر المأساة والعالم الحر الذي يعين شرطة لانقاذ الحيوانات البائسة من خطر التشرد ويقيم لها الملاجئ يتفرج علينا ويتقن فن صفعنا ..
    هكذا كتب لنا أن نكون فلسطينيون وأن نتعلم الصبر الى آخر رمق ..

    سعدت جداً برؤية اسمك ها هنا يا صديقي ..
    دمت بكل الود ..
    أموتُ أقاومْ

  3. #3
    الصورة الرمزية أحمد جمعة قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    الدولة : غزة أرض العزة
    المشاركات : 42
    المواضيع : 10
    الردود : 42
    المعدل اليومي : 0.01
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد عيسى مشاهدة المشاركة
    نعم أخي أحمد ...

    هكذا تتكرر المأساة والعالم الحر الذي يعين شرطة لانقاذ الحيوانات البائسة من خطر التشرد ويقيم لها الملاجئ يتفرج علينا ويتقن فن صفعنا ..
    هكذا كتب لنا أن نكون فلسطينيون وأن نتعلم الصبر الى آخر رمق ..

    سعدت جداً برؤية اسمك ها هنا يا صديقي ..
    دمت بكل الود ..

    صديقي ( أحمد عيسى )
    ربما يكون الليل بطوله وظلمته الحالكة السواد مدخلا لليأس للكثير من النفوس الضعيفة في هذا الزمان ، ولكن غزة تعلمت منذ زمن طويل كيف تنسج النصر من خيوط الليل ، وكيف ترقب الصبح في صبر لا يعرف اليأس أو الملل ..
    شرفت - عزيزي - بمرورك وكلماتك العطرة ..
    تحياتي

المواضيع المتشابهه

  1. أي منا الإرهابي : أنا ، أم بوش ؟ ( أقصوصة صحفية )
    بواسطة محمد محمد البقاش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 25-11-2012, 01:15 PM
  2. بوش دخل الحمام فهل سيخرج ؟ ( أقصوصة صحفية )
    بواسطة محمد محمد البقاش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 13-06-2007, 09:02 AM
  3. الديموقراطية فوبيا ( أقصوصة صحفية )
    بواسطة محمد محمد البقاش في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-04-2007, 05:08 AM
  4. عقدة الشهيد ( أقصوصة صحفية ممدرية )
    بواسطة محمد محمد البقاش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 17-03-2007, 03:39 PM
  5. الدرهم إرهابي بيئي ( أقصوصة صحفية )
    بواسطة محمد محمد البقاش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 20-01-2007, 12:09 AM