جبار وضعيف
دلف إلى غرفة المعالجة بخشونة وحركة رعناء وسط مقاومة الممرضة التي حاولت جاهدة منعه من الدخول .
وقال بصوت جاف تعلوه أثار الحشرجة: صباح الخير يا دكتور
نظرت إلى الوافد الجديد كان ابن الخمسين طويل القامة عريض المنكبين
أسمر البشرة, خشن الكفين, بدين الجثة, بادي الصرامة, ذو شوارب عريضة,و مفتولة, يضع على رأسه كوفية وعقالاً, وبدون أي مقدمات قال:
أريد أن أخلع ضرسي... لأنه يؤلمني خلصني منه.
لم أشأ في بداية الأمر أن أصدم هذا العتو البشري بلطمه تعلمتها من صفحات العلم والمعرفة
فأجبته بثقة وببرود بالغين : الآن العلم يتجه إلى زراعة الأضراس, والناس تضع ذلك المبلغ من أجل أن تزرع ضرساً ثابتاً, وأنت لديك ضرس أعتقد أنني أحتاج إلى ساعة من الزمن حتى أخلعه , وبسرعة تريد أن تخلعه وترميه كما تقول...دعني أفحصه وإن وجدت هناك طريقة لمعالجته وترميمه بحشوه عالجناه وإن لم تكن ...؟ نخلعه وفي النهاية هدفنا إزالة الألم.
تفضل يا سيدي اجلس على كرسي العيادة لأفحصك وأخبرك النتيجة
أجابني بحشرجة أغلظ ولغة فظة:أرجوك لا تجادلني أريد أن أخلعه
استعذت بالله في قراري وقرعت الجرس وطلبت من الممرضة أن تعد لنا فنجانين من القهوة وقلت: تفضل اجلس على الكرسي قريباً من طاولة المكتب لنتجاذب أطراف الحديث محاولة مني لمجاراة تفكيره وإقناعه
بما أريد من خدمة طبية نافعة أرضي بها ضميري أمام الله.
جلس بعنفوان شديد وأشرع سيجارته وبدأ يدخن بدون أي استئذان ضارباً بعرض الحائط وجوده في عيادة أو سواها
قال دكتور: أنا أستطيع تحمل خلع الضرس بدون مخدر لأن الصبر للرجال, واستطرد يروي لي عن آخر مراجله التي قام بها منذ فترة وجيزة.
بابتسامة مقتضبة وإجابة مختصرة : فيك المنظور --- ماهو اسم ولدك الكبير
قال: أبو حسين وبعد عشر دقائق من النقاش المحلى بالصبر والخبرة استطعت إقناع أبا حسين بوجهة نظري....
بعدها عالجت له الضرس خلال عدة زيارات غادر في آخرها ممتناً واعدا إياي بالسمعة الطيبة والعمل الجيد.
ومضى عام من العمر--- حتى ذلك اليوم من أيام كانون الباردة, حيث كنت واقفاً خلف نافذة مكتبي أرقب تساقط حبات المطر, وهي تمتزج ببرودة الطقس؛ فتصبح وكأنها طلقات بََرَد يرميها قنا ص ماهر لتصيب جباه المارة ,فتجعلهم يحنون هاماتهم هيبة وخشوعاً من قدرة خالق هذا الكون.
وإذ بباب العيادة يطرق بهدوء ... أجبت : تفضل , وإذ بالوافد الصارم الذي زارني منذ عام هو الطارق ,قلت له: أهلاً بك يا عم , ونظرت إليه ملياً لم تكن صفات الرجل هي نفسها التي زارني بها منذ عام ,كان شاحب الوجه جاحظ العينين تتساقط على جبينه قطرات المطر الناتجة عن ذوبان حبات البرد العالقة به ...وبدا متهدل الأطراف منحني الظهر يلفع رأسه بشاشية بيضاء .
كانت النظرة الأولى لهذا الشخص تثير فيك العطف والإشفاق أعدت الكرة وقلت له: تفضل, أجابني: بصوت واهن صباح الخير يا دكتور
صباح النور كيف حالك ...؟ طمئني عن معالجتي التي قدمتها لك منذ عام
قال : جزآك الله عني كل خير--- لكن الذي دفعني إليك استشارة أخرى ليست سنية ---أجبته : إن كانت ضمن معرفتي فلن أقصر .
كانت العبارات تخرج من فم هذا الرجل بهدوء معبرة عن ضعفه وسقمه وورعه ,ثم قال مستطرداً إن الذي دفعني إلى استشارتك ماوجدته فيك من إنسانية عندما قصدتك العام الماضي , ولكن حصل معي عارض غير مجرى حياتي وجعلني لا أعرف مشرقي من مغربي
التهبت لوزتاي وبلعومي وأصبت بسعال شديد مما أتعبني جداً فراجعت طبيباً أخصائياً فأثار الشك حول وجود ذلك المرض يالطيف...!!
(وذلك المرض هو مصطلح يعبر في حقيقته عن الورم الخبيث)
وطلب مني خزعة ليتأكد من طبيعة هذا المرض في بلعومي
ومذ سمعت هذا الكلام يئست الحياة وجفاني النوم طيلة ثلاثة أيام
تمعنت في قسمات هذا الرجل ملياً فمن الصرامة والجبروت إلى انهيار كامل في قوته وعزيمته---
ما أضعف الإنسان وما أقواه وما بين الاثنتين العقل الذي يجب أن يصقل بالورع والعلم
تساءلت في نفسي عن غرابة وأطوار تلك النفس البشرية عن ماهية تركيبها وغرورها وضعفها لأجد أمامي تساؤلات كثيرة وقفت عندها حائراً عاجزاً.
ذكرت ذلك الشخص المريض بقوله تعالى (وإذا مرضت فهو يشفين)
وأرضيت خاطره ببعض الكلمات الطيبة التي تهدئ من روعه وخوفه
وغاب الرجل مودعاً بالشكر والامتنان ...
ولم تمض أيام قليلة حتى عاودني ذلك الصارم كما كان بادي الخشونة فظ العبارات وقال شكراً دكتور فإن الخزعة سليمة ,وقهقه مدمدماَ --- وصفق الباب مودعاً
وكأنه يكافئني على نصيحتي بخلع قفل الباب متناسياً التجربة التي مر بها منذ أيام ---
فويح لك أيها الإنسان