دعوة للغناء
بقلم: سمير خضر خليفة
تخبطَ كثيراً عندما علقت إحدى أطرافه في شبكة العنكبوت, فكل حركةٍ قام بها للتخلِّصِ من خيوطِ الشبكة كانت تزيد ألمهُ .
نظرَ العنكبوت لصيدهِ بازدراء، وقال: يا لك من صرصارٍ حقيرٍ، بئسَ الصّيد أنت, حنَّطَ صيدهُ، وشرعَ بنصب شركٍ آخر بخيوط أكثر متانة, فالصيد القادم لا بدَّ أن يكون أكبر، ليرضى نهمه ويعيد له المكانة التي خسرها أمام أسياده .
الحرابُ التي حيكت على أسنًّتها الشباك، جعلت من جسده دريئةً بألف ثقب، فأطرافه وأجنحته الهَّشة لم تصمد أمام وخزاتها, خبرته الضّحلة بأساليبهم في نصب الشِّباك، وحركاته العفوية هزت الخيوط فأغارت بأطرافه في وحل المصيدة .
ازدياد الوخز يُعلّي من صوت الألم، فيطربُ ذو الشاربين الكبيرين وارث الفخِّ والفريسة . والذي أخفى قيمة الصيد عن خادمه العنكبوت .
من باب الدفاع عن النفس، وإصراره على تحدي جبروتهم, حوّل صراخه إلى أنات مكبوتة معبراً عن رفضه لأساليبهم بعد أن خارت قواه، وشُلت حركته، لكن ركونه للصمت، وأناته أغضبت ذو الشاربين الكبيرين، فأخذ يهزُّ الشبكة كلما تسلل إليه الملل، أو أحس بنقص في معدل فحولته.
طال الصراع، ولم ترضخ الضحية لجبروت الجلاد، فاستبدل أسلوب الألم بأسلوب الإذلال. حرَّر فريسته من الشباك، مبقياً على أمتن خيطٍ فيها، ملفوفا حول رقبته، ثم زجَّ به في إحدى علب الكبريت المرصوفة على طول السرداب .
رائحة العفن والرطوبة ليست غريبة عن حواسه. لكنها الآن تختلف عن ما ألفه في المكان الذي ترعرع فيه، فهنا لها رائحة الموت.
أضرب عن الطعام، فأدخلوه مالحاً من أنفه. تقيأه فأعادوه إلى جوفه ثانية، مهدِّدين أنه سيعاد إدخاله من مكان آخر في المرة القادمة. تلك الملوحة التي أُدخلت قسراً لجوفه، ألهبت أحشاءه وزادت من عطشه. طلب الماء ليطفئ نيرانها المشتعلة، فأمطروه بولاً على رأسه. داهمته الكوابيس، ورصد العيون في ظلمته الدائمة, هجره النوم، فانعدم لديه الإحساس بالوقت كما الألم .
علبة الكبريت ضيقة على الأسرار. لا بد من صمت المكان، أو عويلا في علبة أخرى، ليتمكن من التسلل لإحدى الزوايا متفقداً قروح جسده, ومفرغاً ما حشروا في جوفه من الفضلات بعيداً عن شماتة العيون .
زمن طويل مر قبل أن يلامس النور عينيه، عندما نزعوا العصابة السوداء عنهما. لم يكن هناك إلا بضع خيالات تتحرك أمامه، تبين ماهيتها بعد مضي عدة دقائق. وقع نظره على المنضدة القريبة منه، فسرت في جسده قشعريرة باردة لمنظر الأصفاد، والسكاكين المرصوفة فوقها .
كان الجزار بردائه الملوث بالدم يوزع أوامره وتعليماته, فأدرك حينها أنه في المسلخ . ارتفع صوت الجدل الذي تحول إلى صراخ بين ذو الشاربين الكبيرين والجزار .
_ ليس لدي ما أقدمه له فالعفن من سوء التخزين قد أفسد ساقه, ويجب بتر الجزء الملوث بالأزرق حتى لا يمتد إلى باقي الأطراف .
_أليس هنالك حل آخر، فوضعي سيكون محرجاً أمام الكبير؟.
_أنا لن أتحمل المسؤولية، وهذا هو الحل الوحيد، وسأجد لك مبرراً أمامه.
هدأت وتيرة النقاش حتى أصبح همساً. كثر الحراك أحس بعدها بوخزهٍ، سرى خدر في جسده، ما لبث أن غاب عن وعيه.
استيقظ على ارتطام جسده بالأرض، و صوت ذو الشاربين:
-اعتن بهذا الصرصار فهو ناكر للجميل مثلك , قالها ذو الشاربين ثم غادر ضاحكاً .....
الصمت كان سيد الموقف والمكان، حتى همس المضيف:
- أي الشباك أوقعت بك أيها المسكين .
إنها ذات الشباك يا صاحبي التي أوقعت بك .
امتد الهمس متواصلا على مدى ثلاث وجبات متتالية، بين أخبار الحقول وقصص المكدسين في العلب. لأول مرة منذ أن أوقعوا به, أحس بلذة النوم عندما توسد ساق صاحبه.
أيقظته نوبة الألم التي لم يعرف مصدرها. هل هي ساقه، أم صدره المنتفخ كصدر الإوزة. رافقتها نوبة من السعال الخانق ما تركته حتى كادت عينيه أن تخرجا من محجريهما .
حرارة جسده الملتهبة دفعت صاحبه ليبلل خرقة بالية ليضعها على جبينه، وبصوت خنقته الدموع: يا أخي إن همس الجدران قد أوصل إلى مسامعنا عذاباتك، وآلامك، فالحقول اشتاقت لغنائك، والربيع أبى أن يزين المروج دون غناء, فمن أجلهم يا أخي ( لا تسمح للبطل أن ينكسر فينا ).
تحشرجت الأنفاس على باب حنجرته المنهكة فغص اللحن وضاعت القوافي. الدموع الحارة التي غمرت كفه عندما قبلها صاحبه أثارت شجونه، فعلا صوته حتى ملأ فضاء السراديب المعتمة. استجمع آخر ما تبقى له من أنفاس، حشرها في صدره ثم أخرجها لحنا متصاعدا ملأ فضاء السراديب المعتمة. اهتز له المكان، فأتى رجع الصدى من كل الزنازين المرصوفة على طول السراديب، تصدعت له الجدران حتى وصل إلى مسامع كل الساهرين في الحقول على عتبات النهار نشيدا للحرية.
ارتعد ذوي الشوارب، وتناثروا مذعورين، هاربين من سراديبهم دون أي التفاتة للوراء.
ومنذ ذلك اليوم لم تصمت الحقول عن الغناء