أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 18

الموضوع: المطب (رواية)

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي المطب (رواية)

    المطب






    تحذير لابد منه:
    كل تشابه في الأحداث أو تطابق في الأسماء والشخصيات مقصود والكاتب غير مسؤول عنه.










    إهداء:
    جنان وزهرة..
    ومن خلالهما كل من فعل "لا" في وجه الاستبداد.










    إن الملوك إذا دخلوا رواية أفسدوها...
















    أما قبل..
    فلتعلموا جميعا أنه لاعلم لي بأساليب وطرق الكتابة، ولكني وجدتني داخلها بمحض الصدفة، والصدفة تحمل حكاية، والحكاية بسيطة.
    أعمل في هذه المقهى منذ حوالي ستة أشهر. وكل يوم سبت من آخر شهر ونصف من كتابة هذه السطور، بدأت تحضر شابة في أواسط عقدها الثاني، تركت اهتمامها بملابسها وبزينتها في مكان ما. جلست إلى الطاولة نفسها ست مرات. وفي كل مرة، كانت لا ترفع عينيها وقلمها عن أوراقها. كانت تزجي حوالي أربع ساعات، تشرب أثناءها أربعة كؤوس من الشاي الأسود بالليمون. وخلال ساعاتها الأربع والعشرين التي قضتها في هذه المقهى حيث أعمل كنادل لم تكلمني إلا مرة واحدة عند تمريرها أول طلب، بعدها اكتفت بدعوتي بيدها، وهي اليد نفسها التي استعملتها في الإشارة إلى تكرار الطلب من الثاني إلى الرابع والعشرين.
    في آخر مرة رأيتها فيها، خرجت مسرعة كأنها لسعت في مؤخرتها. لم تقل كلمة ولم تلتفت خلفها إلى أوراقها التي تركتها على الطاولة حيث كانت تجلس. احتفظت لها بالأوراق في ركن داخل مشرب المقهى في انتظار عودتها. فالزبون ملك، والملك له مسؤوليات كثيرة، قد ينشغل أحيانا عن أمور تبدو تافهة له لكنها ذات قيمة لغيره. ولما طال غيابها. أخذت الأوراق إلى البيت. وفي البيت أكلني الفضول لمعرفة ما حوت تلك الأوراق. أجهزت عليها في ليلة واحدة، مع أني لم أقرأ رواية أبداً في حياتي كلها.
    لم يكن انكفائي على قراءة الرواية بدافع المتعة، وهي على كل حال ليست ممتعة، ولكن لأعرف فقط ما كتب عني. نعم فأنا جزء من الرواية. أنا أحد أبطالها. تعرفت علي من خلال ملامحي، وعملي. فوجدت أن هذه الكاتبة كذابة. فالمقهى ليست صغيرة كما أرادتها أن تكون. وهي ليست بشارع خلفي ضيق زد على ذلك أن لها زبائن كثر، وهي مكونة من طابقين، العلوي حيث أزواج العشاق، والبغايا الوحيدات أو مع بعضهن البعض، أو رفقة الضحايا، والأرضي عادة ما يحتل طاولاته المتقاعدون والعاطلون والعاملون على السواء. ولم تكن صادقة إلا في صورة عاهلنا الذي يخزر في آلة التصوير وفي كل المواطنين.
    أما عن شخصياتها الأخرى، فقد اختلقت جلها. ولم أفهم سبب غضبها على بلادنا، أجمل بلاد في الدنيا كما يقولون، أو باقي البلدان العربية الشقيقة، وشكرت كل آلهة البشر أني لم أواصل تعليمي لأدخل الجامعة وأنال شهادتها، وبالتالي الشقاء طول عمري. ما لي أنا ووجع الرأس! فليذهب العالم كله إلى الجحيم! أعلم أن بعضهم ينظرون لي كشبه أمي لم يتجاوز المرحلة الثانوية في تعليمه، كما سمعت أكثر من صوت يهمس خلسة لأذن بذلك، إلا أن الأمر لا يضايقني البتة. لي عمل، صحيح أنه مرهق بعض الشيء ويجبرني على الانحناء دائماً، وأبدو كالحمار نهاراً وأقصد بيتي كالكلب ليلاً، مع اعتذاري الشديد لهذين الحيوانين اللطيفين، لكني على خير حال.
    حاولت الوصول إلى الكاتبة بيد أني أخفقت في ذلك، فالرواية لم تكن موقعة، ووجه الكاتبة غير معروف ككل كتابنا، على الأقل بالنسبة لجاهل مثلي لايهتم بقبيلتهم المنبوذة. ولما لم تظهر، فكرت أن أقوم بنشرها باسمي مع الإشارة إلى أني لست كاتبها. لأجل ذلك أرفقت الرواية بتحذير لابد منه هو كل ما أضفت إليها مع هذا التوضيح، وهي أني أخلي مسؤوليتي عن كل ما جاء فيها.
    وأعتذر أني أقحمت صوتي هنا، لكني كنت أمينا مع نفسي ومع القارئ المحتمل ومع الكاتبة بأن أعلنت ظروف كتابة الرواية ونشرها، وما أضفت فيها.
    نعم، فشلت في الوصول إليها، وأتمنى أن يصل صوتها كما أرادت، وأن تظهر بظهور عملها هذا. ولاأخفيكم سراً أني تساءلت عن سبب اختفائها الذي تزامن مع انتهائها من كتابة روايتها التي عنونتها بالمطب، ووجدتني فعلاً في مطب حقيقي. خمنت أن "أصحاب الحال" ربما فازوا بها قبل أن تنشر كتابها، لأنها، وأنا أعترف هنا، تطاولت كثيراً على المقدسات.
    ما أكثر المقدسات في بلادنا!
    وما أشد ما تلد مقدسات بلادي!
    فالله مقدس، والوطن مقدس، والملك مقدس، والشعب مدنس.







  2. #2
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    1

    أقف قبالتي. أتأملني ملياً. أتأكد من أني أحمل الوجه ذاته. أبلله. ألتقط منشفة. أضغط بها عليه بإصرار. لم يتغير شيء. غاب الماء وظل الوجه يحدق بي ببله. أدرك أن الأشياء تعدو فارة مني، وأنها تغيرت وتتغير بنسق مرتفع، بينما أستمر في حمل جسدي بملامحه الثابتة.
    حركة مفاجئة على مقبض الباب. ربما أمضيت ببيت الراحة أكثر من حاجتي إليها. أعلم أنه بيت واحد فقط بينما كثر أولئك الذين يرغبون في الراحة. بطرف شبه ناعس أكتشف خطابات استلقت على ظهر الباب الخشبي قرنت بأرقام هواتف. تبرق في رأسي فكرة أن أدون رقماً منها في حال تعسرت عليّ سبل إيجاد مكان يأويني أملاً في الحصول على عش دافئ في ليل المدينة الباردة.
    أفتح الباب بهدوء. أقرأ اعتذاراً رقيقاً عفت عنه عينا شاب ودود، ربما هو صاحب الرقم الذي دونته متفاجئاً أني أحمل قلماً معي. لابد أن الآخرين أيضاً صحبتهم أقلامهم إلى هنا. نحن نكتب عادة أشياء تشبه الأماكن التي نعلق فيها ما نزعم أننا نود اقتسامه مع الآخرين. كان الاختيار صعبا، إذ شدّت عنايتي إلى أول ما قرأت: (أصم، أبكم يبحث عن رفقة ليلة. الهدف إرواء الجسد). انتقلت إلى آخر (إذا كنت فحلا فأنا في انتظارك على شوق). وقرأت أيضاً (معول يبحث عن أرض يودعها سره). تساءلت لمَ لايتواصل الأخيران، سيشكلان برأيي زوجا رائعا ولو لليلة واحدة، لكن ما شأني بهما، يبقى الأهم في نظري، ليلتي هذه. كيف وأين ورفقة من سأقضيها؟ كلهم تركوا هواتفهم إلا من كتب (احذروا السيدا). لم أستطع الانتقال إلى الجدران والسقف والشقوق، إذ كنت حسمت أمري، كما أنه علي ترك المكان لغيري.
    أفكر أن الشاب ودود النظرات أتى المدينة لاجئا مثلي تماماً ينشد دفئاً يغنيه عن غربة قاسية. وددت أن أقول له مشيراً إلى رقم الأصم الأبكم: (رجاءً، لا تعبث مع صاحب هذا الرقم، إنه فرصتي لهذه الليلة). فكرت ألا أعطيه قلمي إن طلبه مني، وليعتكز على ذاكرته إن أراد الظفر بشيء.
    تقودني خطواتي العمياء إلى قاعة صغيرة يرشح منها هدوء مريب. في ركن قصي ألقي مؤخرتي على كرسي خشبي غير مريح. على الطاولة أجد علبة تبغ وأوراق بيضاء غير طاهرة. أخرج سيجارة من العلبة. ألتقط فيها أنفاسي وعبثاً بعضاً من هدوئي. تسيح نظراتي المهرولة في المكان محاولة فهم ما يحدث. هدأة هذه المقهى تثيرني وتلقي بي إلى وهاد الحيرة والتساؤل. أخلص إلى أن هناك خلل ما.
    بتثاقل يتقدم مني كهل يجر رجليه جراً. أتخيل أنه مراوغ بارع لموت متربص به في كل زوايا الحياة. يبتسم في وجهي بلا معنى وهو يضع قهوة سوداء على الطاولة. أرغب في قول شيء. يصيب لساني شلل طارئ. ينصرف قبل أن أعثر على كلمات مناسبة. وددت أن أجد صيغة لبقة لأسأله: كيف عرف أن القهوة السوداء مشروبي الوحيد وأنا لم أطلب شيئاً ولا أعتقد أن بيننا معاملة سابقة؟
    متذمراً أفرغ كأس ماء بارد في جوفي المستعر. أيعقل أنهم لا يدركون الخطر المحدق بنا جميعاً؟
    المقهى صغيرة جداً حد أني أكاد أسمع وشوشات زوج عاشق مقابل لي تماماً. خمسينية تضع شالاً أحمر ونظارتين سوداوين للتمويه، (لعلها تخفي بهما بعض كدمات وجهها البشع) تراود عشرينياً يحاول إخفاء ورطة الظهور العلني لصفقة مشبوهة. تدفعني الظروف المحيطة بهما إلى الاعتقاد أنها غير راضية عن الثمن المرتفع الذي وضعه لجسده، كما تلك الذبابة التي ظلت تطوف بها كأنها موثوقة إليها بخيط خفي. لاشك أنها ترى أن العشريني بالغ كثيرا، وأنها تحاول تذكيره أنه ليس الوحيد المتوفر. وبدا أنه واحد آخر ممن عرضوا أجسادهم للبيع في مدينة لا تعترف بغير التجّار الشطّار. لاأعتقد أنها المرة الأولى التي يلتقيان فيها، إذ ومن خلال طريقة الجلوس والحركات والنظرات تبدو زبونة دائمة تجبر دوما على المرور من هذه المرحلة الممهدة للقائهما أو الطقس الإجباري قبل أن تنض عنه ثيابه الرخيصة وتبكي شبابها المولي على جسده العليل.
    تباً لهما! أيعقل أن يتحدثا عن مشروع هذه الليلة وكل المدينة في خطر؟ تباً لي أنا أيضاً! فقد فكرت قبل قليل في مشروعي الشخصي لهذه الليلة، إن عفا عني الموت واهتم بآخر غيري، هذا النادل مثلاً.
    أبصر الشاب الودود يذرع المقهى بخطوات واسعة، كأنما ليداري عملا غير لائق قام به. أفكر أنه يمكن أن يحل محل بائع الجسد إذا استمر في عناده واستغلال المرأة المسكينة التي لاتطلب إلا جسدا نضراً يمسد جبين وحدتها. لو استطاعت المرأة سماعي، ولو وثقت برأيي لاقترحت جسدي عليها. ماذا سيضيرها؟ هناك بقية من كل شيء، ولن تشعر بفرق كبير بين جسدينا ووتيرة ممارستنا للحب مادمنا نبكي على ما مضى ولانطمع أكثر مما تحت أيدينا. أعلم أن الشاب دخل بيت الراحة بحثا عنها، وراحته تكمن أساساً في كتابة خطاب أو تدوين رقم هاتف. لو ملكت هاتفاً إذن لدونت رقمي أيضاً. فكرت في العبارة المناسبة التي كنت سأضعها في فسحة الإعلانات هناك: (لاجئ يبحث عن مأوى لهذه الليلة، ومستعد لتنفيذ كل رغبات مضيفه).
    من عقب السيجارة الأولى أشعل أخرى وأغتال السابقة بسادية وتشف.

    مقدم أخبار متجهم الوجه يطل من جهاز التلفاز على الجانب الأيسر. أراه يحرك شفتيه بعصبية واضحة. سمعي على ما يرام بدليل سماعي لهذا الفالس المحلق في المكان وأنفاس الموت المتعقب للنادل ووشوشات محمومة لصفقة أجساد أمامي بيد أني لم أستطع سماعه. أعلم من ملامحه أن المصيبة كبيرة لايستطيع إخفاءها خلف كلماته المكتومة. هم كذلك دوماً. يصرون على الكذب المدفوع الأجر إلى أن يفضحهم خوف وجوههم المحتقنة، أو بلل سراويلهم المستأجرة من عشاق زوجاتهم. غريب فعلاً أن أحداً لم يعره اهتماماً. العاشقين والنادل والشاب صاحب النظرات الودودة والموت، كلهم منشغلون بمشاريع ليلتهم الآتية بخطى واطئة. لو أن أحداً لم يأمر بإخراسه إذن لسمعوه يخبرهم ما حدث لمدينتي، وإذن لانهارت كل مشاريعهم الآتية ولانصبّ كل عملهم على كيفية التودد للموت أو محاولة مراوغته. أعرف شخصاً يبرع في ذلك!


    وجيب صدري المرتفع يكسر صمت مدينتي الميتة وأنا أرقب جيوش الغزاة بأحذيتهم الأنيقة وخطواتهم العابثة يغتصبون كل ساحاتها العذراء. الدماء مهرقة على الأسفلت في ليلة مأتمها. ندمت أني عشت خارج جغرافيا تاريخها، وأني ركنت إلى شرودي المزمن. متأخراً أدركت هول مخطط ناري أحيك حولنا بإحكام وشيطنة. أشلاء متناثرة في كل مكان تصطدم بها خطوات فراري. أتعثر مرة بجثة طفل صغير، وأخرى برأس شاردة تبحث عن جسد أضاعته في زحمة الموت.
    المدينة ظلت صامدة في أبواق إعلامنا، ورأيتها في الواقع تترنح قبل أول طلقة.
    نحن نسطر مفاهيم جديدة للضعف!
    لم تكن الجيوش الغازية رحيمة بنا كما لم نكن رحماء بأنفسنا. كلما ازدادت هشاشتنا، كلما أمعنوا في إذلالنا. استعرضوا عضلاتهم وقوتهم وجربوا فينا جديد أسلحتهم، ومارسوا دورهم كأسياد حرب من طرف واحد. أهدونا الموت بكرم، وجعلوا الشمس ترحل دون رجعة عن سماء مدينتي التي سكنها لون الرماد. "النابالم" و"الفسفور" نثرا أرديتهما السحرية وتمططت أياديهما لتسكن حتى الشقوق.
    بصعوبة أتذكر صورة مدينتي كما عرفتها دوما. كانت مسكنا محببا للطيور والحدائق، ومرتعا للأحلام البيضاء رغم أن قدرها أسلمها لأياد طائشة امتدت للرياحين في مساكنها، بيد أنها لم تنجح في اغتيالها. ظل الأمل يحيى في زوايا رطبة تنتظر أن يصلها النور، إذ تعفو عنه صدور الرجال. لم تنتظره من مكان آخر وفاجأتها الدبابات بأوار كشفت قبح الإنسان.
    بمدينتي سقط رأسي من أبوين يمتهنان التدريس. شغفت بالأدب صغيرا، وتجرعت منه بنهم. حاولت الكتابة مذ كنت في المرحلة الإعدادية، وشجعني والدي دوما بكلمات من قبيل: "اهتم بدراستك ودعك من هذه الخربشات فهي دون المستوى". كنت أختار الوقت المناسب لأعرض عليه ما أكتب متحينا مناسبات أقدر صفاء مزاجه فيها، فكان يتلقى ذلك مني بصدر رحب وإن كان ذلك يسهم غالبا في صب جرعات كدر على مزاجه. تمنيت دوما أن أصل إلى مستوى أختي الكبرى أو الشاعرة كما كان الكل يلقبها، بما فيهم أبي، وأن أحظى ولو بربع النجاح الذي حققته قصائدها التي أتخمت بها زوجها قبل أن يخرج في أحد الأيام دون أن يعود، وعزت الأمر لنشاط معاد لمصلحة مدينتي بينما ذهبت والدتي في سرها إلى أنه فرّ منها بعدما أرهقت أيامه بقصائدها الجميلة وأربعة أبناء في السنوات الخمس الأولى لزواجها عملا بنصيحة أمي التي لم تكن تجد الوقت لسماعي، وأظن أنها كانت مسألة رغبة أيضا، فما كنت أصرّ على ذلك. لكنها كانت أوقاتا ممتعة جدا، وذكريات مورقة أحن إليها الآن بعدما أحالوا بيتنا كما البيوت الأخرى إلى خرابات تسكنها الريح.
    كنا نسكن شقة في الطابق الثاني من عمارة مخصصة للعاملين في سلك التعليم. صغيرا اكتشفت السياسة أيضاً بسبب والدي. كانت سبب طلاقة لسانه قبل أن تلقيه إلى وهاد الصمت الغائرة. كان كل كلامه تذمرا وانتقادا للرداءة، بحسبه، التي تسكن مدينتي، ولم يحاول إخفاء تبرمه من كل شيء. مدينتي مدينة الثورات بامتياز، ولايقر بها نظام أبدا، بل فوضى عارمة. فما إن تصعد شرذمة إلى الحكم حتى تضرب دون تمييز ولاتفرقة، وغالبا ما تأكل أبناءها. ولعل من اخترع تلك المقولة المأثورة كان أحد أبناء مدينتي أو شخصاً درس أحوال بنيها. والدي كان على علم بذلك وانخرط مبكرا في ثورة أمل أن يكون فكها ليقضم إخوته من الثورة الأم، وينقض عليهم بيد أنه أخطأ حساباته وتدحرج إلى القاع حتى قبل أن يتنفس هواء الحكم من القمة.
    أخفى الأمر على والدتي، وجعل من شقتنا الصغيرة مقرا للقيادة السرية لأبناء الثورة الأحرار. أحدهم أمر يوما أن يرحل بعيدا عن الشمس. كانوا رحماء به إذ لم يسفكوا دمه، والناس كانوا يموتون في مدينتي لسبب أتفه من كونهم يهتمون بالسياسة.
    أما والدتي، فكانت تنظر للسياسة باحتقار كبير وزراية واضحة. كانت تنادي الساسة والمتعاطين لها بالكلاب. وموقفها واضح جدا وهي لاتحتاج أن تشرحه لأحد. وإذا كانت تضع العظم المكسو باللحم، عندما يتوفر على مائدتنا، أمام والدي فليس في الأمر أي إيحاء، فكلنا نعرف أنه يعشق العظم حتى النخاع، لكن وبعد أن اكتشفت انخراطه في الثورة بشكل مباشر، وفاحت رائحة غريبة منه، أضحت تلقي العظام أمامه وتصحبها نظرة لم يكن أحدنا، حتى أبي، ليخطئها. وحين اختطف والدي بكينا أنا وأختي، بينما ظلت أمي رابطة الجأش ولم تزد على كلمة زفرتها بمرارة: "الكلاب".
    حين اختفى والدي عشنا عزلة حقيقية. حتى الجيران الذين كانوا يتوددون له بفضل منصبه القيادي في الثورة رفضوا رد تحية الصباح على الرغم من أن العمارة حملت اسمه الشخصي ولقبنا العائلي، بعد أن جادت عليه قيادة الثورة بلقب مفقود الحرية. لم تبال والدتي بكل ذلك بل تحملت عناء تربيتنا بإصرار وحزم، واتخذت تدابير صارمة بخصوص وضعنا الجديد كان أهمها خلو أطباقها من اللحم.
    لم تعد العظام إلى البيت إلا حين فاجأتنا شمس أحد الأيام بكتلة من العظام البارزة، ونظرات زائغة وطيف رجل يشبه والدي ممعنا في صمته، وزاهدا في الحديث عن مكان اختفائه وما صنع بجسده وروحه طيلة تلك الفترة. حينها لم تجد والدتي بداً من تقديم عزاء له بتحضير أطباقه المفضلة، وطبعا عادت العظام إلى مائدتنا، ولكن ليس طويلا، إذ حاولت إرغامه على ذلك في البدء بيد أنها استسلمت لعناده ولقراره الأخير، فراق أبدي مع العظام والسياسة.
    وعلى الرغم من أنها شقيقتي، تربينا وكبرنا معا، وجمعتنا جدران شقة واحدة، واقتسمنا الأيام بكل ألوانها، إلا أني لم أكن أعرف لها اسما آخر غير الشاعرة. كذاك وجدتهم ينادونها فدعوتها مثلهم.
    كانت الشاعرة تكبرني بحوالي سبع سنوات، ولم تكن بيننا ألفة بادية. تفتقت مواهبها كما يبدو باكرا، واستطاعت أن تؤنس ليالي أسرتنا الصغيرة بكلماتها المنظومات. كنت مستاءً جدا من إعجاب والديّ بها، واستغربت كيف وجدت والدتي وقتا لسماعها.
    كبتت طويلا غيرتي منها، والمكانة التي خصتها قصائدها داخل شقتنا. كانا يعاملانها باحترام مبالغ فيه أحيانا، وكانت مبعث فخر لهما حين يزورنا ضيف، وساهمت في زرع الحماسة في صدور رفاق والدي الذي وجّه شعرها نحو ما يريد، فأضافوا الثورة إلى لقبها الأول، ولم يحذفوه إلا عندما حذفوا والدي من المشهد.
    لم أعترف لها يوما بالموهبة، ولم تحركني قصائدها التي وجدتها دون المستوى، وأحسب أنها كانت تعلم مشاعري نحوها، وأنا أكيد من أنها كانت متبادلة، حتى إني كنت السبب في طرقها باب الهجاء مرة واحدة، إذ خصتني بقصيدة عصماء لم يستطع الباطل أن يأتيها من أي زاوية حاولت حشره منها، فسخر مني كل من سمعها، ولست أدري من ساهم في إيصالها إلى زملائي في المدرسة وتداولها بينهم مدة غير يسيرة، بل إني تفاجأت أن بعض الكسالى حفظوها غيبا على طولها وهم الذين ما كانوا يستطيعون ترديد بيتين للمتنبي رضي الله عنه.
    بسببها صرت أكره الشعر والشعراء، حتى بت أرى الشعر خراء، كإله مدينتي الذي يكره الشعراء أيضاً وهو سارد بامتياز يستمتع بإطلاعنا على حكاياته في كتابه.
    صحيح أني كنت أغار منها، لكني على الأقل لم أسئ لها، ولست أفهم لليوم لمَ خصتني بذاك الشرف دونا عن أولئك الذين أساؤوا لها؟ زوجها مثلا.
    لم أستسغ نجاحاتها المتتالية، وصيتها الذي تجاوز العمارة ورفاق والدي وصويحبات والدتي، وحينا وزملائها في الدراسة وأساتذتها. ورغم أني كنت على يقين من أنها سرقت النجاح مني إلا أني أحسست فراغا كبيرا حين غادرت شقتنا. أعجب أحدهم بكتاباتها وكان بلامواهب تذكر، فلم ينتبه لشكلها (كنت أناديها في سري "كيس البطاطس")، على الرغم من جمال وجهها الذي لم يعبه إلا أنفها الضخم الذي لم يكن متساوقا مع فمها الصغير، وجبهتها الدقيقة، وذقنها المحجوب بأكوام الشحم المتربع على كل ملامح جسدها، وشبه حول في عينها اليمنى. اجتمعت كل هذه المزايا كيفما اتفق في وجه مليء بالبثور والشحم.
    أبناؤها الأربعة الذين لاأذكر أسماءهم أيضا ولاألقابهم مذ جئت إلى هذه المدينة، لايشبهونها عدا ابنتها التي حملت ملامح وجهها (حول عينها اليمنى كان أكثر وضوحاً)، وبدانتها الخفيفة (نظراً لصغر سنها لم أنادها بكيس البطاطس ليس تعففا مني ولكن وفاء مني للشاعرة)، بيد أنها كانت كوالدها بلامواهب تذكر. ولست أذكر إن أنجبت أبناءها قبل أم بعد زواجها فذاكرتي اللعينة أسقطت كل تلك التفاصيل الصغيرة منذ مدة طويلة. فوجئنا والدتي وأنا، ذات صباح بطرق حاد على باب شقتنا. كان يوم أحد لن أنساه ما حييت. عدوت باتجاه الباب متوقعا أمرا هاما، كأن يعود والدي مثلا، إلا أني فتحت الباب على وجه الشاعرة الذي زاده البكاء بشاعة، إذ كانت عيناها منتفختين. ارتمت على صدري مجهشة، ثم قالت: أخذوه أيضاً.
    حاولت عبثاً التقاط أنفاسي إذ كنت على وشك الاختناق لأنها كانت تضمني إليها بقوة، كأنما لتعوض كل سنين الخلاف بيننا لتجهز علي في مناسبة كتلك حيث أخذوا زوجها. لكن من أخذه؟
    تسلل أولادها من خلفها مقتحمين الشقة التي لن يخرجوا منها إلا راشدين سنين بعد ذلك. لم يشبه أحدهم زوجها الذي أخذوه، بل إن أحدهم لم يكن يشبه الآخر، حتى إن واحدا منهم كان زنجياً ولست أدري ما علاقة ذلك بحكاية ترجمة إحدى قصائدها إلى اللغة الزنجية.
    خرجت والدتي من غرفة نومها. قبلتها بحنو على جبهتها، ومسدت شعرها، ولم تقل "الكلاب". حاولنا تهدئتها وطمأنتها بأنه سيعود منتحلين لغيابه الأعذار، فقلنا لها مثلا (لاشك أنه نسي نفسه قليلاً عند إحدى عشيقاته)، أو (ربما تاه في المدينة وقد يجده أبناء الحلال فيعيدونه لك)، لكنها لم تكن تسمع ذلك منا، كأنها كانت تحس أنه خرج كي لايعود، مستحضرة شجاراتهما الدامية. خمنت أنه ركب البحر فرارا بعدما أضحى يرى صورة الوجه نفسه الذي يراه غيره متفاجئين كيف أمكنه تحمله وصاحبته كل تلك السنين، أو قد يكون صعد قطار إحدى صاحباته، بيد أننا أبعدنا أن يكون قرر الانتحار بتناول جرعات كبيرة من سم السياسة.

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    لم تكن الشاعرة تشبه أمي في شيء، لأجل ذلك قررت عدم الاستكانة للانتظار، وخرجت بحثا عنه مخلية أبناءها لنا، دون أن تأخذ رأينا، فالمفروض أننا سنتحملهم في المحنة التي يمرون منها. فكرت ساعتها أنها كانت تعيد لأمي نتائج نصيحتها التي لم تجد في جعل زوجها يظل وفيا للحضور.
    عادت الشاعرة بعد ذلك مرة فقط لتحضر حقائب ضمت ملابس وكتب وحاجات عيالها، ولم نعد نسمع عنها شيئا بعد ذلك، حتى إنها لم تشهد عودة شبح والدي قبل أن يتلاشى بيننا أياما بعد ذلك. عندما رأيناها في المرة الثانية، كانت بادية التعب كأنها لاتنام الليل والنهار. لم تزفر والدتي بمرارة كما أنها لم تقل "الكلاب".
    استطعنا بالعادة وبالإكراه أن نألف الوضع الجديد، وتمكنا جميعا من تحمل بعضنا البعض، وعايشت اختيار والدتي لعزلة مقدسة. أقفلت على نفسها أبواب عوالمها الصامتة، ولم ينجح حتى شغب الأولاد في أن يقتحم سياجاتها. قسمت وقتي بين تربية أبناء الشاعرة وأبناء مدينتي الذين يتناوبون على فصلي، وكنت إذا وفرت بعض الوقت أركن إلى الكتابة عزائي الوحيد. تناولت مواضيع متفرقة في قصصي وركزت على التحولات الكبيرة التي ألمت بمدينتي، فقد رأيت الإسمنت يزحف على المشاعر، وارتفع معدل البؤس في عيون الناس، وانتشرت الجريمة بكل أنواعها من التخلي عن الأبناء في الشوارع أو عند الأقارب إلى الكذب السياسي. الشيء الوحيد الذي ظل ثابتا في مدينتي على غير العادة، الزعيم الذي توحد مع الكرسي. فهذا الرجل معمر جداً، ولاتبدو عليه شيخوخة أو وهن. شاخ الكرسي تحت مؤخرته واهترأ، ثم أخذ في التلاشي. لم ينجح في تغيير تكرار المشهد على الرغم من أنه كان بين فترة وأخرى، يغير معاونيه بأن يكنسهم من حواليه دون أن تعرف مصائرهم ويأتي بآخرين يعلمون أنهم سينتهون إلى ما انتهى إليه من سلفهم من معاونين أو مشتغلين بالسياسة، غير أن ذلك ما كان ليمنعهم من الاستجابة لدعوته، لأن أحدا لم يجرؤ يوما على مخالفة أوامر الزعيم، كما أنه كان ينتقيهم بعناية بعدما يدرس أحوالهم وطباعهم، لذلك كان يعرف أنهم لن يرفضوا انتحارهم ذاك مخافة التعجيل بالرحيل أيضا، وهكذا كانوا يعمدون إلى استغلال فترة تواجدهم بمراكز السلطة ليؤمّنوا لذويهم فرص عيش أفضل بعد موتهم. كان الأمر أشبه باستثمار أو مقامرة، ولم يكن الزعيم يلتفت للثروات التي يتركونها لأهاليهم في تواطؤ واضح، كأنما يجعل من ذلك تأمين غياب أو دية تقدم لأهل الراحل.
    بعد تجارب قصصية ناجحة، لم يقرأها أحد إذ ظلت كلها حبيسة غرفتي، قررت يوما أني أستطيع كتابة الرواية، ليس لأني أعتبر القصة تمرينا أوليا على الرواية أو انتقاصا من قدرها لكني وددت أن أخلد اسمي بعمل كبير يكون خير تعبير عن التحولات الكبرى التي عرفتها مدينتي. أردتها وثيقة تتحدى الروايات الرسمية، والرؤية الواحدة التي تخضع للكذب والزيف.
    شيء آخر كان وراء قراري ذاك. أردت أن أخلق لنفسي عالما موازيا أستطيع الانزلاق إليه فرارا من نمطية حياتي. فالأولاد بدأوا يكبرون، ولاجديد تهتز له حياتي. فحياتي العاطفية مستقرة جدا ومنذ سنوات، لأني وبكل بساطة لم أجد واحدة تقبل بي، لأجل ذلك كنت أتردد على حي الباغيات مرة واحدة في الشهر لمقابلة إحداهن وإفراغ عقدي داخلها. كنت حاسما منذ البداية وذلك باتخاذي لقرار صعب لايعكس توقي للمغامرة ولتجريب أشياء جديدة، بقدر ما يفضح خوفي من السقوط بين أحضان إحداهن. وهكذا انتهى بي الأمر إلى ألا أجامع باغية منهن أكثر من مرة واحدة، وطبعا لم أكن أخشى أن يتعرض قراري للفشل في أن أنتهي من دورتي الكبرى بحي الباغيات لأعاود الدورة الثانية وبالتالي مضاجعة الباغية الأولى التي فضت بكارتي، لأن الحي، ككل أحياء مدينتي، لم يكف عن التمطط إذ كانت حركة التحاق وافدات جديدات عليه لاتتوقف أبدا. وليتسم طقسي بالدقة والتنظيم، عمدت إلى وضع رسم للحي أسعى إلى إضافة أي بيت جديد يطرأ عليه، كما أقوم بوضع علامة تميز البيت الذي أزوره والفتيات اللواتي أضاجعهن فيه. فكنت أقضي في البيت الواحد أحيانا شهورا طويلة لكثرة ما ضم من باغيات، كما أني كنت أحرص على رصد وتتبع حركة الباغيات وانتقالاتهن من قوادة إلى أخرى. ونتيجة لملاحظاتي التي حرصت على إرفاقها كتابا عن حي الباغيات، وجدت أن النساء المنتسبات إليه واللائي ضاجعتهن متشابهات جدا حد التطابق، وهو ما جعل مهمتي غاية في الصعوبة.
    استمرت عادتي السرية تلك مدة طويلة، صرت خبيرا فيها بآداب وفنون المعاشرة وشؤون وأحوال الباغيات، ولم أقلع عن تلك العادة إلا عندما دخلت مرة أحد البيوت. أديت عند الباب للقوادة كما تقتضي قوانين البغاء. كان بيتا عاديا من أربعة طوابق ككل بيوت حي الباغيات، ويتشابه معها أيضا في لون الطلاء الذي كان أحمر قانيا، وكان ينادى أيضا في المجالس الرسمية بالحي الأحمر. رحبت بي القوادة وقالت العبارة التي ترددها كل القوادات في مثل تلك المناسبة: (أتمنى لك المتعة أيها العزيز). قصدت إحدى تلك الغرف التي ترشح منها رائحة الشهوة والرغبة. لم تعد تثيرني تلك الروائح كثيرا لشدة ما ألفتها، وكنت قد زرت البيت نفسه أكثر من سبع مرات، وكان بإمكاني أن أزوره أكثر من عشرين شهراً قادماً لكثرة ما ضم من غرف وبغايا. كان الضوء خافتا حتى إني بالكاد استطعت الاهتداء إلى السرير حيث استلقى جسد عار هناك. استشعرت شيئا غريبا عند أول لمسة، عندما وخزتني تلك الأنفاس المصطنعة. كان الجسد أليفا جدا، واستبعدت أن يكون لباغية سبق وأن ضاجعتها. غيرت زاوية جلوسي وأيقظت كل حواس انتباهي. استطعت أن أرسم ملامح وجهها بدقة فانتفضت من مكاني وخرجت مهرولا وسؤال يجلدني بعنف: كيف انتهت رحلة بحث الشاعرة عن زوجها المفقود إلى هناك؟
    استبعدت في زياراتي السابقة لحي الباغيات أن أقر أنهن كنّ يشبهنها جداً، بأجسادهن المكتنزة، وطبقات الشحم المتراكم بلا انتظام تحت جلودهن التي تفرز روائح مقززة كأفواههن تماما. لكني لم أستطع وقد قابلتها جسدا لجسد أن أستمر في خداع نفسي والكذب عليها. ولم يبد أن الشاعرة تعرفتني أو تذكرتني، ليس فقط لأن الضوء كان خافتا ولكن، وهو الأرجح، لأنها ككل الباغيات، اضطرتها الحاجة إلى التخلي عن ذاكرتها.



    ثم إني ألفيتني بشقتي أتلفح بدثر من غاب من أهلها. فبعد رحيل والدتي الصامت، غادر الأولاد تباعا كل إلى وجهة مختلفة. فحين تعلل الزنجي بأنه سيسعى إلى معرفة جذوره عن طريق رحلة بحث قد تستغرقه حياة أخرى، قرر أصغرهم الانضمام إلى سيرك لايكف عن التنقل دون أن يكلف نفسه عناء شرح الموهبة التي جعلتهم يأخذونه في طريقهم. من جانبي تمسكت بقراري بعدم العودة إلى حي الباغيات أبداً، فقد خشيت أن أصطدم على فراش المتعة الباردة بجسد فتاة ربيتها ونسيت اسمها وكانت تشبه أمها الشاعرة. أما رابع البنين فسأكون كاذباً إن تحدثت عن معرفتي بمصيره. فما إن اشتد عوده حتى غاب كما رحل عن ذاكرتي كأنه لم يوجد أبدا.
    واستعضت عن طقس تلك الزيارات بالعودة إلى دفتر الملاحظات القديم، وبالذهاب إلى مسرح مدينتي. ولم يدر بخلدي لحظة واحدة أن عادتي الجديدة ستكون منعطفا كبيرا سيقلب حياتي كلها، إذ أنني سأقابل الحب لأول وآخر مرة هناك، وأي حب كان!

    يجب الاعتراف قبل كل شيء أن رياح التغيير كانت قد بدأت تهب على سياسة الزعيم نتيجة للإكراهات الخارجية. فمدينتي رفعت الانفتاح شعارا في وجه المنتقدين، وكذا لكسب ود المدن الصديقة وتجنب شر المدن المعادية، ولإخماد الأصوات التي تقول إنه يستأثر بالحكم كل تلك المدة، وأنه وزمرة من أتباعه في جزيرة معزولة عن الأهالي الذين يموتون في صمت. من أجل ذلك سمح ببعض المظاهر التي لم يكن مقتنعا بها في البداية، فحث مستشاريه على تشجيع تنظيم معارض فنية ومهرجانات للسينما والرقص، وإرسال دعوات إلى بعض الفنانين والكتاب والمثقفين وفرق مسرحية... إيمانا منه بأنها طبقة مؤثرة في سياسات المدن التي يأتون منها، ولبعث نوع من الحراك وخلق الفرجة للأهالي الجائعين، لتصريف غضبهم في الفرجة تماما كما يفعلون في مباريات الكرة.
    وهكذا عادت الحياة لمسرح مدينتي، بعرض واحد في الأسبوع يتدافع الناس لحضوره. واستطعت أن أنظم وقتي وأحضر مرة في الشهر، وهي المرة التي تستدعى فيها فرقة مسرحية من خارج مدينتي لتقديم إحدى عروضها. وطبعا لم يكن الأمر بالسهولة المتوقعة، فنص المسرحية والحوار والشخصيات وما ترمي إليه كانت تمر عبر لجنة للرقابة حتى لاتهدد الأمن العام لمدينتي، وسلمها الاجتماعي والأمن الخاص لصاحب مدينتي وحربه ضد الكل.
    وأثبتت اللجنة السرية المكلفة بالرقابة محدوديتها وسعة جهلها، إذ شاهدت أكثر من عرض ينطوي على أفكار لو غاص أصحاب المنع فيها لما اكتفوا بالمنع فقط بل لربما تجاوزوه إلى الإيقاف عن مزاولة الحياة.
    وكانت عادتي أن أصحب كل أناقتي إلى تلك العروض، إذ كنت أضع بدلتي السوداء المفضلة وقميصي الأبيض بربطة عنق متجهمة كلون حذائي تماماً، وكنت أحرص على تبليل شعري، وتركه يرقد مستريحا إلى الخلف دون أن أغفل عطري الذكوري الخفيف، وهي الطقوس نفسها التي كنت ألتزمها وأتقيد بها في مرحلة حي الباغيات.

    وكما أني كنت أستفيد في زياراتي لحي الباغيات بأن كنت أخرس صوت الحيوان الذي يسكنني، فإن طلعاتي الشهرية للمسرح المديني شكلت لي غذاءً فكرياً وروحياً مهماً أغنى معارفي، وطور من تقنياتي في الكتابة من توظيف ذكي للحوار، وتطوير لتقنية الحكي التي وددت إسقاطها على عملي الروائي المرتقب. وهكذا كنت حال عودتي، أدون ملخصاً عن المسرحية التي حضرتها، وما استنتجته من إعمال للرمز المقنع كقناة لتمرير وجهة نظر الكاتب في حيلة كانت تمر حتى على اللجنة السرية المكلفة بالرقابة، وذلك حتى أفيد منها، لأني كنت أجبن من أن أجازف بحياتي عند أول سطر أكتبه، زد على ذلك أن سوق الكتب لم تعرف إلا كتباً ترمز لزعيمنا ومدينتي التي ترفل في نعيمها، بعد الانفتاح الذي عرفته حياتها الثقافية والفنية.
    وهكذا ألفيتني ذاك السبت أقف في الطابور الطويل المفضي إلى مدخل البناية المعدة للعروض. أخذت أخطر في الوجوه البليدة التي كانت توزع الابتسامات فيما بينها في عادة لست أدري من أين تسللت إلى مدينتي. رددت بيني وبيني عنوان المسرحية المرتقبة كما قرأتها على الأفيش "حقيقة ساندريلا"، وهي لفرقة قادمة من مدينة الثلج والبياض. وبطبيعة الحال، كنت أعرف قصة ساندريلا وما قاسته من زوجة أبيها، وابنتيها، وكيف كوفئت على صبرها بيد أني لم أتوقع أن تفصح مخيلة كاتب النص عن حقيقة أخرى لهذه الشخصية الوديعة. كان يود أن يقول من خلال تقديمه لتلك الشخصية أن الشر كما الخير ثاو بصدر الإنسان، وأن السلوك هو نتيجة حتمية للظروف، تتلون بحسبها. فعندما وصف النص الأصلي ساندريلا بالبراءة وتعرضها للظلم، كان يعتكز في ذلك على الظروف المحيطة بها من يتم وتسلط زوجة الأب وفقرها وحاجتها لمن يأويها، وكافأها في الأخير بزواج غير متوقع من أمير البلاد بعد أن أغرم بها في تلك الليلة الراقصة التي عرفت تدخل ساحرة خير.
    كانت من المرات القليلة التي استطعت أن أنغمس كلياً في جو العرض، ليس فقط لقوة النص وللطريقة التي كتب بها، وللتناول الذكي لشخصية عليها إجماع وذلك بخلخلة اليقين المتلعق بها، ولكن أيضاً للجدية التي تقمصت بها الشخصيات أدوارها، خاصة سندريلا التي كانت أول من ظهر على الخشبة في زي أميرة في مشهد فردي، تتحدث فيه مع نفسها بصوت مسموع بوجوب الانتقام من كل من أساء لها عندما كانت ضعيفة وبلاسلطة، وانطلقت تحيك الدسائس وتنصب فخاخها لأعدائها الذين ما إن يغيب الموت أحدهم حتى يظهر آخرون إلى انتهى بها الأمر معادية لأميرها الذي صار ملكاً بعدما تخلصت من والديه معا ومستشاريه الخلص.
    كنت متأثراً جدا، وشعرت بأن قلبي يكاد ينط من بين ضلوعي، مستغرباً كيف استطاعت صبية تشبه ملاكا أن تجسد دور شيطان يتحرك. لن أخدع نفسي أو أبالغ إذا ما قلت إني أغرمت بها، مع علمي الأكيد أنها نجمة تسطع في سماء بعيدة لن أستطيع ملامستها. فزد على كونها تنتمي إلى مدينة الثلج والبياض فهي أيضاً تصغرني بكثير، ولاأعتقد أن لدي من الجاذبية ما سيسقطها في حبائل عاطفة نحوي إلا الضيق والتبرم، لكني بدوت كالمسحور بعد انتهاء العرض في طريقي إلى شقتي، ولم أستفق إلا أمام بائعة للورد تلاحق شابين عاشقين وتقول:
    - الورد هدية العاشقين، سيدي.
    كانت مثل لطمة تلقيتها على خدي، فهرعت إليها مشترياً كل ما فضل معها مستغربة، وقاصداً الفندق الكبير لمدينتي المخصص لكبار الزوار والذي توقعت أن تكون الفرقة نزلت ضيفة فيه.
    بدوت كالأبله أمام عاملة الاستقبال عندما سألتني إن كان باستطاعتها مساعدتي، فقلت بربكة ظاهرة:
    - ساندريلا.
    فتحت عينيها بين الاستفهام والشك في رجاحة عقلي قبل أن أضيف:
    - من تلعب دور ساندريلا في تلك المسرحية.
    لم تقل شيئاً هذه المرة بل اكتفت برفع حاجبها الأيمن كأنما تطلب مني توضيحا فأردفت:
    - ألا تقيم هنا تلك الفرقة المسرحية القادمة من مدينة الثلج والبياض.
    اعتدلت ملامحها قليلاً وهزت رأسها بالإيجاب مستعيدة الابتسامة التي أقدر أنها صحبتها منذ أول درس لمقابلة الزبناء تلقته في معهد السياحة والفندقة الخاص بمدينتي. تجاهلت ذلك وقلت لها:
    - أريد أن أقابل بطلة المسرحية.
    بدا أنها تنتبه لأول مرة إلى سلة الورد التي أحمل في يدي، وكأنها استنتجت أني مجنون آخر يلهو بملاحقة النجمات، فقالت دون أن تنزع ابتسامتها الباردة:
    - للأسف سيدي لم يعودوا بعد.
    اضطررت إلى إخراج ورقة نقدية محترمة من جيبي وأودعها الفتاة التي لم تعترض، بل إنها مدتني بورقة وقلم طلبتهما منها لأخط عليها: "إلى ساندريلا الحقيقية.. جعلتني الليلة أستفيق". أخذت منها وعداً بأن تعطي الورد الذي زرعت الورقة وكلماتي بها، وجعلتها ظاهرة لفتاتي، وانطلقت في طريق عودتي.
    هل كنت أستطيع العودة إلى شقتي وأنا على تلك الحال؟ طبعاً لا. فما مضى من حياتي كان هادئاً ذاك الهدوء الذي يسبق العاطفة. والحب وهي كلمة كبيرة فعلاً، جعلني أفقد اتزان خطوي وإعمال عقلي، وإلا لكنت على الأقل ألقيت نظرة على الأفيش لأعرف اسم فتاتي. وما إن خرجت من الفندق حتى وجدتني أنتصب أمام بوابته مباشرة، بعدما عبرت إلى الجهة المقابلة، منتظراً وصولها.
    وهل كنت محتاجاً فعلاً لأن أبقي عيني متيقظتين كيما ألمحها عندما تحضر؟ طبعا لا. فقلبي كان سيعلمني بقدومها حتى قبل أن تدخل مجال رؤيتي، ومع ذلك، أبقيت كل حواسي متوثبة ترقب كل محيط الفندق.
    ثم هل كان بإمكاني أن أحدد الوقت الذي وقفته هناك في انتظار طلتها؟ طبعاً لا. لأني وبكل بساطة كنت أنتمي إلى منطقة خارج الإحساس بالوقت وإدراك ما يدور حولي، ومع ذلك فإني أستطيع أن أجزم أني وقفت هناك فترة طويلة قبل أن أراها تصل في كامل أناقتها مرفوقة بآخرين خمنت أنهم أعضاء فرقتها وزملاؤها في المسرحية مع أني لغيتهم كلهم واستطعت أن أتتبعها وحدها، لأني وبكل بساطة قدرت أنها نقطة الضوء الوحيدة في الكون.
    كان نبض قلبي شديداً كطرق على باب خشبي متهالك، وكنت شبه سكران غير منصت لصوت العقل الذي حاول أن يوقفني متذرعاً بأشياء رأيتها واهية من قبل (ماذا ستقول لها؟)، أو (إخجل ستجعل من نفسك أضحوكة، ليس فقط أمام أصحابها بل أيضاً أمام كل من سيشهد لقاءكما؟). انطلقت شبه مهرول عابراً الطريق، وغير منتبه لسيارة كادت تصدمني، وغير مكترث بصوت بوقها الغاضب. دخلت الفندق، وفي اللحظة التي أرادت أن تسلمها رسولتي لتلك الليلة الورد وكلمتي، كانت يدي تلامس السلة لتسحبها العاملة متفاجئة من حضوري. التفتت ساندريلا إلي، وقبل أن أقول شيئاً لمحت اتساع عينيها دهشة لتصرخ غير مصدقة:
    - مستحيل!
    ارتمت في أحضاني مجهشة، وتمكنت من رؤية زملائها وقد تحلقوا حولنا، والدهشة تعقد أعينهم وتعقل ألسنتهم ليقولوا فيما بعد بعبارات مختلفة ما معناه:
    - مستحيل!
    استفاقت من وصلة نشيجها، وأخذت تحدق بي دامعة العينين، وراحت تمرر يدها على وجهي قائلة:
    - أين اختفيت كل هذه المدة؟
    حاولت أن أشرح لها أن بالأمر لبس، وأنها ربما سكنت مناطق مظلمة من نفسي لم تنقشع إلا بعد أن رأيتها في عرض تلك الليلة، لكني جبنت عن ذلك، فلذت بالصمت مخافة فقدانها.
    أخذتني إلى غرفتها، وأجلستني على كثب سريرها، وبعدما ملأت وجهي قبلاً قالت:
    - لو تدري كم عانيت طيلة مدة غيابك.
    استجمعت كل شجاعتي، وسمعتني أقول لها إني لست من تعتقد، وإنما حضرت إلى الفندق مفتوناً بها وبالدور الذي لعبته قبل ساعات على خشبة مسرح مدينتي، لكن يبدو أنها لم تقتنع بذلك تماماً، وتركتني أفهم أني أتصرف بغرابة تماماً كعهدها بي دائما، فجعلت تحكي لي عن حياتي السابقة وحبنا ما أكد لي أنها واهمة.
    قالت إني تعرفت على والدتها التي كانت تكبرني بحوالي عقد ونصف عقد، وأن والدتها كانت ممثلة مشهورة جداً أغرمت بي وآمنت بمواهبي في الكتابة، وأني عشت معها سنين طويلة تحت سقف واحد بعد أن هاجرت من مدينة لم تكن تعرفها أنها مدينتي تلك، حين كانت سندريلا الحقيقية فتاة صغيرة. قالت إنها فتحت عينيها علي في البيت فتعلقت بي كأب قبل أن تقضي والدتها بسبب إفراطها في الشرب. أعلمتني أيضاً أننا ألفينا نفسينا وجهاً لوجه في البيت. كانت في ميعة المراهقة ولم تعرف غيري رجلاً فأحبتني وبادلتها الحب أيضاً لأني كما صرحت لها، رأيت فيها عزاء عن فقدان والدتها التي كانت تشبهها جداً، وتناسيت أني كنت أكبرها بحوالي عقد ونصف عقد. عشنا معاً ثلاث سنوات وخرجت يوماً، ولم أعد، ولم تستطع أن تنساني كما لم يكن بمقدورها أن تفسر سبب رحيلي الذي دام ثلاث سنوات.
    في أثناء غيبتي، أخذت تبحث في أشيائي علها تجد جواباً لغيابي، فعثرت على مخطوط مسرحية بعنوان "سندريلا الحقيقية"، فقررت أن تجمع أعضاء فرقة مسرحية وتقوم بجولة بها في كل المدن علها تنجح في تكريم ذكراي.
    استمرت في الحديث دون توقف إلى أن ثقل لسانها لكثرة ما قالت ولانفعالها، واستبعدت أن تكون نصف زجاجة الويسكي التي أجهزت عليها سبب ذلك، لكني رأيتها تنطفئ أمامي كمشهد مسرحي درامي، عندما أطبقت جفنيها واستسلمت لنوم عميق. أخذت قلماً خططت به على الورقة نفسها التي كنت قد دونت عليها كلمتي من قبل، عنواني ثم طبعت على جبهتها قبلة أبوية، لأنسحب والحيرة ترافقني.
    لم يكن مرد حيرتي أني شككت في هويتي الحقيقية، لأني كنت على يقين من أن الأمر لايعدو عن تشابه بيني وبين حبيبها، إضافة إلى مجموعة من المصادفات والتفاصيل الصغيرة التي ما كانت لتخلخل ثقتي بنفسي، وبمن أكون فعلاً. فأنا أعرف أني كنت أعيش وحيداً في شقتي التي ولدت بها، منذ ثلاث سنوات عندما غادر أولاد الشاعرة، زد على ذلك أني بدأت زياراتي لمسرح مدينتي منذ الفترة نفسها، لكن بعد أن أجبرت على مغادرة حي الباغيات، ولدي دفتر الملاحظات الذي يثبت ذلك، والإثبات الفعلي يوجد في أوراقي الرسمية، مع أني لاأثق كثيراً بكل ما هو رسمي في مدينتي. أما لغة مدينة الثلج والبياض التي أتت منها تلك الشخصية، فأنا أتكلمها بطلاقة لأني درستها أزيد من عقد ونصف عقد، وهي اللغة ذاتها التي أدرسها للأولاد في المدرسة، في حين أني أميل إلى الرواية، رغم أني لم أكتب رواية من قبل، وعلى الرغم من أني جربت القصة من قبل، بيد أني لم أكتب في المسرح أبداً. أما سني، فصحيح أني أكبرها بأكثر من عقد، لكني لست متأكداً من أن الفارق السني بيننا هو نفسه الذي كان بينها وبين الآخر. لم أعد أذكر كم قضيت من وقت في محاولة للملمة بعثرتي، وإعداد دفاع أثبت به هويتي الحقيقية حتى تمكن مني النوم أخيراً.
    كانت ليلة غريبة تخللتها كوابيس مزعجة لم ينقذني منها إلى جرس الباب الذي أخذ يلح علي كيما أستفيق. قصدت الباب بخطوات متثاقلة. فتحته لأجدها شبه نائمة بملابس الليلة الماضية. لم تلق تحية أو تبتسم في وجهي. كل ما بدر عنها صوت حاسم في قولها:
    - لن أسمح لك بالهرب مني مجددا.
    فسحت لها المجال لتدخل، وبدا لي أنه من غير المعقول أن أستمر في معاندتها، منتهياً إلى الاعتقاد أنه من المستحيل أن نبدّل قناعات الآخرين، حتى عندما يتعلق الأمر بنا، فقط لأننا نختلف معهم في ذلك. فهم يروننا بعيونهم، ولن ننجح مهما حاولنا، في جعلهم ينظرون إلينا كما نريد أو كما نظن أننا عليه في الواقع.
    اخترقتني تلك الفكرة في ثانية، وتركتها تعتقد أني الآخر، ولم نفترق بعد ذلك إلى أن دخل الغزاة مدينتي وسووها بالأرض، وأحالوها موتاً مقيما.


    لو علمت مصيرنا لما سمحت لها بأن تقيم معي هناك، إذن لما تعثرت بجسدها وأنا أحاول الفرار كجرذ بئيس يحاول البحث عن موت شريف آخر في حياة مدنسة.
    يوقظني النادل إذ يرفع الكأس الفارغة بعدما وضع أخرى ممتلئة. تخترقه عيناي هذه المرة، أجد عينيه ناعستين جداً. أقدر أنه ولد بهما وأنه بليد قديم مثلي تماماً. اندس في قميص أبيض غير طاهر. ضامر البطن لجوع دائم. رقيق العظم. وجهه بلا ملامح تقريباً. طويل القامة، منحني الهامة. من عُبّاد العصر الحديث. سرواله الأسود أخلف موعده مع طوله غير المتوقع، لكنه ليس مستأجراً من عشاق زوجته. تصورت أنه زوج منهك جداً. تخونه امرأته مع أصابعها في الحمام وتدعي القداسة كل يوم أحد. يبتسم لي بلا معنى مجدداً، يسألني:
    - المطب؟
    نعم أيها العدمي، أنا في مطب حقيقي، وهو المطب فعلاً. قدمت فاراً من مدينتي التي أكلتها الديدان وجئت هاهنا لائذاً لليلة أو لليلتين علنا ندبر سبل المقاومة أو الفرار كعهدنا أو لتقديم درس لهم باحترام الموت كما لم تحترمنا الحياة. لكن أملي خاب إذ وجدت أن مدينتكم نخرها السوس حتى أعدمها. جل ما أخشاه أن أكون في قلب كابوس مخز، وما أنتم إلا أمواتاً وأطيافاً بعيدة بعثتم لي في خيالاتي وشطحاتي إمعاناً في تعذيبي.
    نعم أيها الميت الشقي، أنتم أيضاً في مطب حقيقي وهو المطب فعلاً. تحسبون أنكم بمنأى عن الخطر وهو أقرب إليكم من الموت الذي سكنكم. لا أشك أنك صاحب فكرة هذا الفالس الذي يشبه ترنيمة الوداع الأخير.
    نعم أيها الجسد البائد، أنت في مطب حقيقي وهو المطب فعلاً. تظن أنك تراوغ الموت وأنه في أعقابك ولا تدرك أنك في كل خطوة تزداد التصاقاً به وتوحداً معه.
    وددت أن أوقفه لأتقيأ كل غبني وغضبي في وجهه دفعة واحدة، لكني لمحته ينصرف عني كأنه يراوغني أنا أيضاً، وهو بارع على كل حال في الفرار والمخاتلة. كدت أسبه وفعلت في سري بأن قلت، ابن... العبد. نظراتي اللاهثة تتعقبه بيأس. يلتفت إليّ. يوجه نظره خارج المقهى حيث ألمح أطيافاً أربعة تفر من شيء أو تعدو مسرعة علها تمسك بآخر.
    عجوز بادية الضعف تهرول وفي أعقابها فتاة مسرعة يتبعها بدين أنيق ينط خلفه شاب نزق غير ودود النظرات.
    كما هنا، الكل هناك يحترف الفرار.
    أتساءل دون أن أقول كلمة: (ما الذي يجمع أولئك الأربعة ليختاروا المرور في الوقت نفسه من هذا الشارع الخلفي الضيق؟). تزداد دهشتي وأنا ألمحهم يقصدون ظهر إحدى العمارات ليدلفوا من بابها الخلفي واحداً في أثر الآخر.
    أنظر ملياً إلى النادل المبتسم ابتسامة ذات معنى. أسحق ما فضل من سيجارتي. أخرج قلماً كنت قد دونت به رقم لجوئي لهذه الليلة بمدينة الموت هذه. ألطخ بياض أوراق غير طاهرة. بخط عريض على أولاها أكتب: "المطب".

  4. #4
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    2

    أحس أنفاسي توشك أن تتوقف وقلبي يكاد يعدل عن القرع. ترهبني صرخة مصطنعة تصدر عن هذه الباغية جواري. كنت دوما أخشى الظلام والظلال، وهذه الأشباح الفزعة أمامي تزيد من إحساسي بالخوف والتشرد والضياع. لاأعلم كم سيستغرق عمر هذا العذاب، لكنه مهما قصر طويل. لو كان بإمكاني لقمت بأي شيء كيما يسترد هذا اللعين عمله ويرتقي بنا حيث كنا نتوجه أو على أقل تقدير ينحدر بنا طبقة أخرى وأصعد الدرج رغم أعباء الجسد وبداية العجز، أو فليعيدني إلى أسفل وأعود في مرة قادمة عل حظي يكون أحسن.
    أي حظ عاثر هذا الذي ساقتني إليه قدماي في هذا اليوم البئيس؟
    أنفاس واطئة، ورائحة عطر قوية وشبه شهقات مكتومة. صوت رقيق أحسب أن صاحبه هذا البدين الذي ربما بال في سرواله. لكنته غريبة عن حيي، ربما هو من أبناء جزيرة شبه العرب. يقول هامساً لتلك الباغية يريد أن يطمئنها وكأنها الوحيدة التي تعاني ما نعانيه:
    - عطل بسيط سيصلح قريبا.
    يضاء هاتفه فجأة، تمنيت لو أن نفوسهم الوضيعة تضاء هي أيضا إذن لما شعرت بالخوف والرهبة. تعبث أصابعه الغليظة به محاولة أن تركب رقما مناسبا تقربه من الباغية أكثر. أتساءل ما الذي قادني في هذا اليوم بالضبط إلى عمارة مركز المدينة؟ أنا التي آمنت بلاجدوى الشحاذة هنا بعدما جربتها مرات عديدة في أماكن مشابهة. كنت أعود أكثر حاجة قبل دخولها، وخلصت أنه بإمكاني أن أقصد أماكن حقيقية، بها أناس حقيقيون يحملون بين ضلوعهم قلوبا حقيقية.
    لم أكن مخطئة عندما رحت أجوب حواري الحاجة والأمراض والذباب. كنت أعود كل ليلة بما يملئ بطني ويجدد لدي القوة لأتمكن من الاستيقاظ في صباح اليوم الموالي لأقصد تلك الحواري مجددا.
    أكتم ضحكة في غير محلها عندما تصلني زفرة يأس مفبركة صدرت عن البدين قبل أن يقول موجها كلامه دوما للباغية متجاهلا وجودي والشاب المسكين الذي لست أدري ما الذي ألقى به إلى هذا المصعد اللعين:
    - اللعنة على التغطية السيئة.
    أردت أن أرجوه أن يدع هاتفه مضاءً لأني أخاف الظلمة، بيد أني خشيت أن يردني. لم يكن مظهره يوحي بأنه من أبناء حواري الحاجة والأمراض والذباب دع عنك لهجته الغريبة.
    كأن الباغية أحست برغبتي فأضاءت هاتفها هي أيضا، وجعلت تنقر أرقامه بعصبية واضحة. أستنتج أنها مثلي تماماً، تخاف الأماكن المغلقة والظلمة القاتمة. تابعت الضوء المنبعث من يدها يرتفع قليلاً حتى يصير لصق أذنها كما تابعت انفعالها وخيبة أملنا في أن التغطية أبت إلا أن تعري ضعفنا.
    أخمن أن الشاب الذي بدا في بداية صعودنا مرتبكا وصار الآن أكثر اتزانا يحمل أيضا هاتفا، وتوقعت أن يخرجه هو أيضا إن لم يكن لمحاولة الاتصال بأحد فللتباهي فقط، لكنه لم يفعل لخيبتي الكبرى.
    لو كنت أملك هاتفاً إذن لسارعت إلى إضاءته أكثر وقت ممكن حتى يعود هذا المصعد اللعين إلى العمل. كل ذلك فقط من أجل نور قليل يبدد عني بعضا من الوحشة التي يوحي بها المكان، والتي أخذت تزحف إلى نفسي فتصيبها بالضيق والقنوط.
    يستلقي الصمت كما العتمة بيننا، ويمضي الوقت بطيئاً كحركات عمال الصيانة إذ افترضت أنهم أخبروا أن عطلا أصاب المصعد، وأنهم منهمكون الآن في محاولاتهم لرفعنا إلى الطابق العلوي أو في أسوأ تقدير لعودتنا السالمة إلى الأرض.
    أود أن أقول شيئاً، مادمت لاأسمع شيئاً أو أحداً، لكني لم أجد ما يمكنني قوله لهؤلاء الغرباء. في حقيقة الأمر، لم يكونوا كلهم غرباء عني. أفكر أن ذاك الشاب أكثرهم قرباً مني بطريقة ما. ربما يقطن في أحد حواري الحاجة والأمراض والذباب. أستأجر ملامحه التي علقت بذهني من خلال تلك النظرة التي حدجته بها لما حاول اللحاق بنا قبل أن نصعد دونه. كان بادي الربكة والعرق. عيناه الفارغتان بهما قلق دفين، وفزع من شيء مجهول. بدا لي يحمل شيئاً مني. ربما كنا نقتسم الضياع نفسه أو فقط لأنه ينتمي للقعر نفسه الذي بلغته كما أوحت بذلك ظنوني.
    لست أدري لمَ استأنست بوجهه في ظلمتي وخوفي قبل أن تجتثني حركة العاهرة إليها حين أعملت ولاعتها في سيجارة جعلت تأخذ منها أنفاساً متواترة. هي بلاشك مدخنة شرهة. تمنيت لو أنها لم تكن كذلك إذن لمدت في عمر سيجارتها ولما غابت تلك النقطة المتوهجة التي وثبت في مصعدنا العاطل هذا.
    لم تطلب منا إذنا، وأظن أنه كان يتعين عليها ذلك، ليس من أجلي أنا أو من أجل البدين، لكن فقط من أجل الشاب الذي أحسب أنه تضايق من هذا المطب بلا دخان فما بالك وقد هرعت إليه أنفاس سيجارتها التي اقتسمناها معها وزحفت إلى خياشيمه. لم أسمعه يكح، لكني شبه ياقنة من أنه سيفعل في سره كما سيسبها ويسب سيجارتها وكل مصاعد المدينة. ما يصلني من دخان كاف لأن يوقظ في ذاكرتي جلسات الليل والسهر والعرق ورائحة الأجساد العارية.
    كنت بعد صغيرة أقفز إلى الشباب، عندما بدأت ألج عالما طالت مراقبتي له من المطبخ، لأصير جزءا من بضاعته. هي لاتعرف ما ينتظرها. تظنني ولدت هكذا عجوزا حقيرة. لايمكنها أن تتصور قط أني كنت من أشهر أميرات حي الباغيات. لم أولد كذلك بالطبع، وتدرجت إلى أن اكتسبت جسدا وغنجا أهلاني لذلك، إضافة إلى جرعات من المكر والدهاء والكثير من الحظ.
    كنت أشهر من مراكش تلك العاهرة الخلاسية، وأكثر تأثيرا من أكادير العاهرة الموسوسة. جالست الكبار واطلعت معهم ليلا على أسرار نهارات المدينة. كنت أكبر وأتسلق الدرجات أمام ناظري قوادتنا المغربية المجربة. كانت عجوزا ومع ذلك لم تندحر مثلي ومثل أخريات إلى حي من أحياء الحاجة والأمراض والذباب. استطاعت أن تبني لنفسها مجدا بين كل القوادات: شرم ابنة الشيخ المحترفة، وجزيرة بنت شبه العرب البدوية، وسورية التي أحيكت حول جمالها وشبقها الأساطير. قالوا إنها تنام مع الرجال والنساء على السواء، وأقيمت شكوك كثيرة حول علاقتها بلبنان تلك القوادة الأثيرة لرجالات الغروب.
    في بداياتي الأولى كنت رهينة قوادتنا المغربية المجربة. منحتني غرفة بعدما كبرت وينع جسدي في مطبخ بيتها. كنت صغيرة بعد، تعدو خطواتي كل ليلة لمحاولة معرفة ما يجري خلف الأبواب الموصدة، والصالونات المريحة. عندما انتبهت لجسدي أول مرة، همست لي أن مستقبلي سيكون مشرقا إن التزمت بقوانين اللعبة. واللعبة بسيطة جدا. رجال يأتون من أنحاء البسيطة تعبين مرهقين لايبحثون إلا عن ساعات دفء قد يمنحها لهم جسد عذراء.
    قالت إن الليلة اختبار وعلي أن أنجح فيه، إن أردت النجاح في مهمتي الجديدة، وإلا سأظل أعيش في الزوايا، أمسح وأغسل وأكنس. لهفي على عراق وفلسطين المسكينتين!
    سهرت بنفسها على تحضيري لتلك الليلة. أدخلتني حمامها الخاص. كان الماء دافئا وشهيا. دفنت جسدي بالمراهم ووجهي بالأصباغ والمساحيق. استدعت أفضل خبير تجميل في الحي. استشارته وهي الخبيرة واستسلمت لما قرراه. قص شعري، وأعطى إذنه بأن أضع ذاك الثوب الليلكي الشفاف. قبلني على جبيني وهمس حزيناً أنه يتمنى لو كان مكاني الليلة. أدخلتني إلى غرفة مضاءة بضوء خافت وأجلستني على السرير مشجعة. فتح الباب على طيف بدين. كان صوته رقيقا وناعما. حدثني برقة ولطف. قال إنه يحج ولايفوت الفرائض. كنت خائفة مرتعشة. كان طيبا وعاريا فاحت من جسده رائحة المحروقات. أخذ يطمئنني بأن الأمر سيمر بخير، وكل ما يلزمني اكتشاف اللذة التي سيمنحني إياها. أخبرني أنه أمير وأنه دفع لقاء هذه الليلة لقوادتنا المغربية الأصيلة، ربع بئر من آبار كثيرة يملكها. كنت سمعت عن أطفال كثر تخلت عنهم قوادتنا بإرادتها لأحياء الحاجة والأمراض والذباب. وتساءلت حينها: ماذا تفعل بكل مكاسبها إذا كانت تخلت عن أبنائها؟ غابت كلماته حين ولجني بشيئه فصرخت. رفع من الموسيقى ومن إيقاع ولوجي بشيئه واشتد صراخي. غابت طيبته وظل عاريا. ندمت أني تمنيت أن أكبر بسرعة. كنت أظنهن سعيدات بيد أني اكتشفت الألم الذي تخفيه ضحكاتهن البلهاء. ألم فظيع مصدره جسدي، ورعب أصابني عندما اكتشفت الدم ينزلق من بين فخذي دبقا ممزوجا بعرق البدين ورائحة المحروقات. فهمت أن فض بكارتي وزرع الألم في جسدي كانت فريضته لتلك الليلة.
    قبلتني خالتي، وهو اللقب الذي ينادينها به وصرت مجبرة على ذلك أيضا، بحرارة وهي تخبرني أني نجحت في الاختبار وأن الزبون راض عني. وددت أن أقول لها إنه سارق أخذ أحلامي وأوهامي بالحيلة أولا ثم بالقوة بعد ذلك، لكني لم أجرؤ على تنغيص فرحتها. فهي لا تظفر كل ليلة بربع بئر من المحروقات.
    خصصت لي غرفة بمرآة. وقفت عارية أمامها أكتشف جسدي لأول مرة. كان يقف قبالتي كشيء غريب عني لاأعرفه ولاأستطيع أن أحسبه علي، بل إني نظرت إليه بزراية وهي النظرة ذاتها التي صحبتني حتى ذبل ومات. كم أغبطت براءتي وافتراشي لأرض مطبخها الحقير مثل الكثيرات ممن عج بهن بيتها. لكني كنت مؤمنة في قراري أني أجبرت على القيام بالخطوة الأولى ولامجال للتراجع أو النظر إلى الخلف رغم أن ذلك لم يمنعني من البكاء كل ليلة بحرقة خرساء على سريري المستعمر من قبل جسد يهذي طول الليل بكوابيس عن أم سجنته تحت سرير عشاقها.
    وجدت بعض السلوى في الشرب والسجائر وقهقهات كانت أقرب للنواح منها إلى أي شيء آخر. أدمنت السهر وسلكت طرقا ما كنت لأعلم بوجودها وحدي لولا خالتي التي بت الأثيرة لديها من بين كل القحاب الأخريات. كنت أحمل لها مزيجا متناقضاً من المشاعر، لكني لم أكن مستعدة أبداً لنسيان أفضالها. صرخت يوما في وجهها أني راحلة عنها. قبلتني ودمعة في عينيها وهي تقول: كنت أعلم أن يوما مثل هذا سيأتي. أنا هنا إن احتجت شيئا.
    لم أرها بعد ذلك اليوم طبعا رغم أن فتوحاتها الداعرة كانت تصلني بانتظام من قبل من كانوا زبناء دارها. تجاوزت شهرتها في وقت من الأوقات. ندمت أني لم أحضر احتضارها لكني وقفت أمام قبرها كما عاهرات وفيات كن الوحيدات اللواتي حضرن جنازتها في ذاك الصباح الخريفي المنطفئ.


    ولاعة أخرى تطفئ مشاهد ظلمتي، وتومض نقطة أكبر من سيجارة العاهرة. ينبعث دخان كثيف ورائحة أعرفها جيدا تنضاف إلى رائحة عطر العاهرة وعرق الشاب المسكين ورائحة خوفي. لم أفاجأ بها تخبو سريعاً ولاتعود إلى نشاطها إلا عندما تلتصق بشفتيه الغليظتين. أحس زفراته ثقيلة واطئة بها غضب كبير. ربما حوت مجموعة من المواعيد الهامة التي كانت ستزيد من دخل يومه. يفاجئني الشاب وهو يولع سيجارة بدت من رائحتها أنها من النوع الرخيص. الدخان لايطاق وهؤلاء الملاعين، ثلاثتهم، بدأوا يقرفونني. عمر سيجارته قصير جدا. بحجم ثلاث زفرات فقط من البدين الغاضب. العاهرة مستكينة منزوية في ركنها. لست أدري ما الذي يدور برأسها لكني أكيدة أن الرائحة المقرفة التي تسربت إلى حاسة شمي، وهي في الحقيقة أصابت الجميع، سببها خوفها الذي ارتجت له أمعاؤها فعفت عن تلك الرائحة المقرفة. أعرف جدا رائحة الخوف، لها بصمة خاصة. ضراط لايشبه غيره. عندما أتتني أردن، تلك القوادة التي كانت صديقة حميمة لقوادتنا المغربية، بطفلة صغيرة كي تقوم بأعمال المطبخ. كانت في السابعة أو الثامنة. ذاهلة النظرات. وضع لها فستان أكبر من حجمها وسنها. خمنت وقتها أنه تعديل آخر لحظة. لاوقت للقوادات إلا للاعتناء بأنفسهن وأعمالهن والقحاب المدرات للدولار قبل أن يسقط صريعا. قبلتني أردن بحرارة. قدرت أن خالتي، صاحبتها الدائمة حتى في ساعات الأزمات، من بعث بها مع هذه الهدية لتطمئن على حالتي أو لتتجسس علي. كنت في بدايات مغادرتي لها، وكنت أعاني وحدة قاتلة، فمن كان يوفر لي الحماية، وصاحب النعمة علي كان يتأخر كثيرا بسبب مسؤولياته الكبيرة. لكزت الطفلة بعنف وهي تقول لها: قبلي يد خالتك.
    كانت أول مرة تتعرض يدي للتقبيل من طرف إحداهن. قبلت أيادي الكثير من القوادات عندما كنت صغيرة. كن يحللن ضيفات على قوادتنا في أوقات فراغهن، وتعرضت للصفع أكثر من مرة، خاصة من ليبيا، كانوا يصفونها بالحمق والعته. عندما كبرت قليلا، ودخلت الليل قبلت أجساد زبائن قوادتنا المغربية. اقتربت الصغيرة مني متعثرة، ومع لثمها ليدي أحسست حرارة تسري في كل جسدي. كنت مزهوة قليلا. لكن رائحة مقرفة استلقت في الجو أزاحت فرحي، وصوت لطمة موجعة استقرت بوجه الطفلة التي ناديتها موريتان بعد ذلك، لتتقهقر قبل أن تسقط أرضا بعين دامعة. في أعماقي كرهت فعل القوادة كما كرهت تلك الرائحة التي ذكرتني بخوفي الشديد. أحسب أن السر ظل مدفونا بيني وبين موريتان. فقد كنا نعرف معاً من صاحبة تلك الرائحة. كم أعشق أن أصفع هذه العاهرة الآن على فعلتها!


    كنت أسمع كثيرا عن حكايا عشق تدمر حياة عاهرة منا إذا خفق قلبها لرجل وسقطت في حبه. دروس قوادات الليل تفيد أن عاهرة منا لايجب أن تمنح إلا جسدها والكثير من الأوهام. رددت أمامي حكايا عن مارقات فقدن عملهن وحياتهن داخل حي العاهرات فقط لأنهن أحببن وخدعن من قبل رجال أخذوهن بالحيلة خارج حماية القوادات، واستغلوهن قبل أن يلقوا بهن إلى ليل المدينة التي لاترحم. فكرت في يَمَن المسكينة.
    كنت أعلم هذا وحفظت الدرس جيدا. كان لدي تحد كبير. أن أستغل أول فرصة للاستقلال عوض أن أظل كما كثيرات باغتتهن المرايا ذات صباح وقد تسللت التجاعيد إلى وجوههن، وتكسرت استقامة الأجساد وبزغ عدوها الألد: الشحم. بيد أني أبعدت عن رأسي إمكانية المغامرة، وكان علي أن أطأ أرضا حقيقية. مكثت طويلا مع قوادتنا أتشرب الصنعة جيداً، وطورت من شبكة علاقاتي، وارتقيت بغنجي وأساليبي إلى رتبة أثيرة لدى خالتي التي كانت تأخذ كل شيء مقابل فواتير الكهرباء الذي لاينقطع، والماء الذي نستعمله للاستحمام عقب كل مضاجعة، والزينة وأغلبها كان من هدايا الزبائن، والملابس التي تعرينا أكثر مما تسترنا، والطعام الذي لم نكن نأكله، والسجائر التي كنا نحتال على زوار بيتها لنأخذها منهم والتي كانت تأخذ ما فضل منها دون حيلة، والشراب الذي كان من مقتنيات الزبون...
    من بين كل علاقاتي، توطدت إحداها مع وزير داخلية المدينة. كان كلما أمعن في الشرب يستلقي في حضني ويبكي خيانة زوجه له مع صاحب المدينة. قال إنه كان يحبها وهو يعلم حبها له. لكن صاحب المدينة المأفون، هو الذي يقول، يأخذها إلى فراشه أنى شاء، وبمعرفته ليكسر شوكة الرجل، وحتى لايستطيع أن يرفع عينيه في وجهه. كنت أراه بئيسا جدا، رغم الهالة التي تحاول عبثاً أن تضفيها عليه بزته العسكرية وأوسمته التي نالها من بسالته في الحرب الكونية الثانية قبيل استقلال المدينة.
    أدمن القمار والشرب كما أدمنني. غمرتني هداياه التي كانت تأخذها مغرب لتسديد الفواتير. حظوتي لديه لم تغير شيئا من وضعي أو في معاملة ربة الشغل. ظلت تعاملني بالطيبة ذاتها.
    كان لايثق بأحد، حتى بنفسه. ولكنه لأمر ما اختبر درجة كتماني، والكتمان صفة يلزم التحلي بها لمن أرادت تعاطي مهنة الليل. حدثني طويلا عن علاقته بصاحب المدينة. لم يناده باسمه أمامي أو بأحد ألقابه. في كل مرة يخترع له لقبا من عنده، وهكذا تدحرج صاحب المدينة من الجرو إلى القرد مرورا بكل حشرات وحيوانات معجم الوزير. قال في إحدى ليالي تذمره منه، إنه لولا وجوده لكان الخنزير في عداد سكان جهنم، وهو ليس حيا بالمدينة وإنما هو حي بمدينة الله، لكنه يشبه إلى حد كبير حواري الحاجة والأمراض والذباب. حماه كما فعل من قبل مع أبيه، ومنع عنه تربص ثوار جائعين. كنت ألمح شررا مخيفا يتقد في عينيه كلما حدثني عنه. كان يخيفني رغم هشاشته أمامي. ضحكنا تلك الليلة كثيرا وشربنا أكثر ولم نمارس الجنس. أضاف: اطلبي ما تشائين، وسأكون ابن كلبة إذا لم أنفذه لك.
    لم أستغرب أن يكون ابن كلبة فخلاله كلبية بامتياز، وربما ورثها عن أمه. شاهدت تصرفاته على التلفاز عندما يكون قرب صاحب المدينة، وكان أقرب ما يكون إلى الكلب منه إلى حيوان آخر. لكنني تجسرت وقلت بصوت واثق: حمايتك. اتسعت عيناه قبل أن يقلصهما بشكل مخيف جعلني أنقبض في مكاني، نادمة على ثقتي به. كان على وشك الارتماء على مسدسه، متصوراً أني أطلب منه التواطؤ معي على اغتيال صاحب المدينة لأحل محله، لكنه تراجع لما علم أن قضيتي وطموحي أكبر من ذلك بكثير عندما قلت:
    - أود أن أستقل عن هذه القوادة.
    كان رجلا قويا مخلصا لسيده وللمدينة. اشتهر بعشقه للدم والموت كسيده تماما. فتك بالآلاف عقب كل انتفاضة واحتجاج. ضاق بالثوريين ذرعا فامتدت يداه حتى أتفه حارس لعمارة يقطن بها أحدهم. كان يقبض على الأصل وظلاله إن وجدت، وإن لم توجد اختلقها. تميز بساديته المكتسبة من خبراته الواسعة ومعاشرته للموت وللألم. كان يحدثني مفاخرا بالطرق التي ابتدعها في التعذيب للوصول إلى معلومات قيمة، أو فقط من أجل إشباع رغباته الغريبة. زادت حظوته لدى سيده بعد محاولة يائسة من الثوريين للإطاحة به واغتياله. تصدى لهم بقبضة جيش لاترحم. لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي قد يتوقع البعض كما قال.

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    كان سيده في بيته الكبير الكائن بحارة السيد، يحتفل بعيد ميلاده الأخير لتلك السنة، وكان قد أحضر للمناسبة الكبيرة شيخات بني ملال وازعير وأولاد حدو... وفرق الطقطوقة الجبلية، ومداحي الزوايا والأركان، وأعوانه، وتايغر وودس الأب والعم، وفرق الطرب الغرناطي، وابن لادن، ونجاة اعتابو، وفرق أحواش، وفرق رقصة الكدرة، وفرق الشعبي والأندلسي، لم يحضر باجدوب لنوبة إسهال حادة أصابته، وحفنة من نجوم الفن السابع، من القرن العاشر، وعددا من أصدقائه الجوانين المقدرين بلا صديق، والبرانيين، وهم كثر على كل حال.
    ضمت حديقة بيته العامر كل هذا الحشد العظيم، بما فيهم حرسه، ملتفين حول مسبح كبير بمايوهاتهم، حتى وزيره الأول ووزيره الأخير، والعهدة على الراوي. وبينما انشغل سيده بتلقي آخر مهارات وودس الأب في فن العصا الحبيبة إلى قلبه، فاجأهم ثوار بكامل ملابسهم مدججين بأسلحة رشاشة مهددين متوعدين بالقضاء على كل من يتحرك أو يقاوم مدهم. أحس الوزير بورطة كبرى، إذ كان قد تخلى عن سلاحه مع ملابسه في المطبخ. أدرك أنها نهايته وسيده، فتسللا من بين الجموع إلى أقرب مرحاض، وجعلا يرقبان الوضع من ثقب المفتاح وصرير أسنانهما يكاد يفضحهما.
    سيطر الانقلابيون على الوضع بعد قتل كل من قاومهم. لم يكن من بين القتلى إلا طباخ وعازف مزمار مغمور، وتاجر حشيش محكوم عليه بالإعدام ظن أنها حيلة من حيل السيد لإضفاء طابع الاحتفالية على المناسبة ولقتل روتين الحفلات التي بدأت تتشابه لكثرتها، فقام مدعيا شجاعة لم تعرف عنه قبل ذلك اليوم، وصفع أحد المهاجمين ليفرغ رشاشه في جسده. وضمت لائحة القتلى أسماء لم يسمع عنها أحد من قبل أو من بعد. كان الوزير ومعه سيده يعلمان أنهما بحاجة إلى معجزة إن أرادا البقاء على قيد الحكم والحياة، وبدا كنمر جريح منعوا عنه مخالبه وسجن في قفص محكم الإغلاق. فسر توتره الملحوظ آنذاك أنه نتيجة طبيعية لرجل حرب راوغ الموت أكثر من مرة في أكثر من جبهة. قالوا إنه خشي على تاريخه إن قتل بمايوه السباحة في حفلة بئيسة بطلقة من رشاش ولد لم يتجاوز العشرين. وسط أكوام الجثث والمحتجزين، بحث الثوار عن السيد فقط. عجباً أنهم لم يبحثوا عن كلبه وهو أخطر! ولما لم يجدوه وظنوا أنه قتل، غادروا البيت تاركين حراسة من ولدين فقط، وقد ظنوا أنهم أحكموا قبضتهم على الوضع، وهرعوا إلى سكنى وزارة الداخلية ووزارة الإعلام الكائنة بحي الوزارات في المنطقة الخضراء. خرج السيد من مخبئه مهددا الولدين بعصاه مجبرا إياهما على التراجع. لم يكونا خائفين منه، ولكن كانا مرتبكين لأنها المرة الأولى التي يرياه مباشرة، بعدما شبعا من صورته على جهاز التلفاز وفي المباني العامة والخاصة. سيطر الوزير على الوضع، واتصل برئيس العسكر ليستنفر رجاله، وخاطب أحد معاونيه ليأتيه بمروحية مقاتلة صعدها بعدما ارتدى ملابسه العسكرية. لم تستمر معركته مع المتمردين أكثر من ثلاث ساعات قضى فيها عليهم، وعلى العديد ممن قادهم حظهم العاثر إلى مكان قريب من أرض المواجهة، وصار الرجل الأثير لدى سيده الذي أغدق عليه من مدحه في خطاب لطمأنة شعب المدينة على أن سيدهم لم يمسسه سوء، لأن الله لم يرد ذلك. لكن كل ذلك لم يحل دون أن يستمر في استدعاء زوجته إلى فراشه أنّى شاء.

    لم يكن الوزير الرجل الأول في حياتي، ولم يكن الأخير قطعا. قبله كان رجلا من المتورطين في السياسة وفي تجارة الحشيش. (إذ السياسة والحشيش في المدينة قرينان متلازمين). كان حاد الطبع، ككل الرجال، شرها شبقا قليل الكلام. لكني كنت أدرك أنه يمثل مرحلة مؤقتة في مساري القحبي ومحطة استراحة في انتظار رجل فعلي.

    ولم يكن الوزير رجلا فعليا في زمن قل فيه الرجال، لكنه كان خير من توثقت صلتهم بي أو من ارتبطت أجسادهم بفراشي. أدمنني كما أدمن حب السلطة. عندما حدثته بمخططي للاستقلال، لم يبد ممانعة إذ رحب بالأمر شرط أن يختار لي هو بيتاً محترماً من أربعة طوابق، ودائما بحي العاهرات.
    كانت زياراته الأولى كل ليلة، ودوما يرافقه رجال يجلبون معهم صاحباتهم. خمنت ساعتها أنهن زوجات رجال أقل رتبة في سلم العمل والمجتمع. أشرفت على طاولة قمار كل ليلة، واتسعت دائرة اللاعبين والزبائن، وغدا بيتي قبلة كل باحث من علية القوم عن متعة تنسيه أعباء يومه وأخطار منصبه. كانوا متشابهين كلهم. كانوا مرهقين وتائهين دوما، وبهم خوف مستتر. حصلت من عملي على مبلغ محترم ظننته سيحصنني من تقلبات الأيام وغدرها، مستفيدة في ذلك مما حدث مع جزائر المسكينة التي رأيتها تتدحرج من عل. كانوا ينادونني بأميرة الحي، وأشهد أن جسدي نضج كثيرا. لكني لم أكن لغير الوزير في البدء إلى أن حدث ما جعل كل عالمي الجديد يرتج ويصيبه الصدع فيهوي أمام ناظري فوق رأسي.
    رن جرس الباب صباحا، وأتتني من أشك أن قوادتنا المغربية أرسلتها لي هدية تخبرني أن هناك زائرين بالباب. تفاجأت الأمر فأنا لم أعتد استقبال أحد في مثل ذلك الوقت. تزينت بسرعة وخرجت لألفي زائري الصباح غير المرغوب فيهما.
    كانا رجلين يلبسان السواد. قال أحدهما بعد أن حياني بأدب أنهما رسولا صاحب المدينة الذي يطلبني إليه على الفور. كنت متوجسة من الأمر كله. فكل ما يتصل بصاحب المدينة يبعث على الرهبة والرجف.
    كان كل شيء يوحي بالجاه والترف في داره. كانت زيارتي الأولى لمكان مشابه. تركني أنتظر ساعتين سمعت فيهما وجيب صدري المرتفع. أخبرني الوزير مرة أنه يتعمد ترك من سينالون شرف لقائه ينتظرون بالساعات والأيام أحيانا، وأنه كلما قصرت مدة الانتظار بدت حظوة المستقبل لديه، ولم يسلم من الأمر حتى أصحاب مدن مرموقة. وسمعت أيضاً أنه وفي أحد الأيام وبينما كان في سيارته، وضع سائقه شريطاً أطربه، فسأل عن صاحبه، فأخبره السائق أنه (عبد من عبادك يا مولاي، يسكن الجزء الشمالي من مدينتك). فأمر بإحضاره من هنالك على الفور. وأنزل في فندق تابع لوزارة الداخلية، وجعل المسكين ينتظر بزيه الشمالي كل صباح أن يناديه سيده لكنه لم يفعل. ولما اشتد به الحنين إلى أهله وعياله، وكانت قد انقضت ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، اشتكى لأحدهم همسا، فطمأنه بأنه سيحاول فعل شيء. وبلغ الأمر أقرب معاونيه، وكانوا على دهاء ومكر كبيرين، فطلبوا من سائقه أن يعيد وضع الشريط له، وذلك ما حدث بالفعل فتساءل صاحب المدينة أين هو هذا المطرب؟ فأخبره أنه (بانتظارك يا مولاي منذ طلبته). كنت أخشى أني أتيت ذنباً لم أعرفه، وجعلت نفسي تغلي على مرجل الانتظار. حاولت طمأنة نفسي. فهو من سن قوانين تجارة الأجساد في مدينته، وأنا أؤدي الضرائب بانتظام وأساهم في الاقتصاد المحلي بوسائلي الخاصة. ظلت الهواجس تتقاذف برأسي الصغيرة حتى أطل بقامته المتوسطة، ووجهه المشرب بلون العسل المالح. كان في سروال قصير، وبدت عيناه ناعستين. توقعت أنه طلبني في حلم استفاق منه لتوه!
    وقفت احتراما له مصطنعة ابتسامة لست أدري كيف استقبلها. انحنيت على يده ألثمها كما رأيت الآخرين يفعلون في جهاز التلفاز. قال لي برضى لما لحظ خنوعي واستسلامي المعلنيين:
    - أنت أجمل من وصف أولئك الملاعين.
    وددت أن أقول له إنه أسوأ من صوره المبثوثة في كل البيوت والجرائد والمجلات والتلفاز والحانات والمواخير بيد أني قلت:
    - شرف عظيم لي أن أحظى بشرف لقائكم.

    كانت ملامحه عصية الاختراق وهو يغادر الفراش باتجاه الحمام.
    مازلت لليوم أذكر رائحة جسده النتنة عندما امتطاني. كان شبقا حيوانيا في كل شيء، حتى عندما أراد أن يعلم ما يقوله عنه وزيره في غيبته. عرفت اللعبة وادعيت أنه يذكره بكل خير وأنه أعرب لي في أكثر من مناسبة عن تفانيه واستعداده لدفع حياته ثمنا لحياة سيده ولصالح المدينة التي يحب. كنت شبه متأكدة من معرفة صاحبي بأن سيده استدعاني مثلما يستدعي زوجته، وأنه لو طارح نملة لأتى بها أيضاً إلى فراشه بعد أن يرسل إليها رجلين يتشحان السواد.
    صرح لي بعدها أنه أتى بي فقط ليعرف آخر أخبار رجله لكنه افتتن بجسدي، وأنه عازم على احتجازي حتى يشبع منه، ولم أبد اعتراضا لعلمي أنه يملك المدينة وأجساد بنيها. كنت أنوي أن أسأله سؤالا واحدا فقط: هل سيدفع لي كما الآخرين أم أنه سيأخذ عرقي كما هي عادته مع غيري؟

    تنثال من غوري المظلم هذه الأحداث محاولة الاستئناس بها هنا في انحشاري مع هؤلاء الملاعين. كنت أظنهم ارتضوا الصمت والاستكانة مثلما فعلت لكني أتفاجأ بلغطهم وانكفائي إلى غيبتي التي أبعدتني عنهم.
    أصواتهم المرتفعة تصعد إلى صماخي. أتساءل إن كانت المنطقة التي أقف عليها من المصعد عملت وارتفعت بي حيث صرت بينما ظلوا في مكانهم. أشرع عيني لأطفئ الذاكرة اللعينة، وتستقبلني العتمة وأصوات المنحشرين السفلية. أحاول أن أصغي لبعض لغطهم. علي فهم مايقولون. ركبتاي تخزانني في إعلان ألم كبير. هي بداية العجز والوهن. أستسلم لتعبي ونصبي. بيأس أسلم مؤخرتي إلى أرض المصعد العاطل. أكتشف أنهم جلسوا قبلي. أخمن أنهم تعبوا من الوقوف أيضا. اشتبك البدين والشاب في جدال أدركت عقمه في حين اعتصمت العاهرة بالصمت. يقول البدين بقرف جلي:
    - أنت السبب المباشر في هذه الورطة. لو تستطيع أن تحدد لنا دافعا مقنعا يجعلك تصعد معنا هذا المصعد.
    يرد عليه الشاب بعصبية:
    - بل أنت ووزنك وشبعك السبب.
    أكاد أن أصرخ في وجهيهما أن المصعد يتحمل ضعف أوزاننا جميعا، وألا أحد سببا فيما يحدث معنا. ربما أنا واهمة، لكني حاولت أن أتدخل لأهدئ من صخبهما. أقول:
    - عوض إلقاء اللوم على بعضنا البعض، علينا أن نحاول إيجاد مخرج لنا من هذه الورطة.
    تصيبني البغتة والعاهرة تقول بصوت يحمل الكثير من الحقد:
    - لو لم تكوني أنت أيضا هنا بوزنك الثقيل لما حدث ماحدث.
    بصوت مرتفع أرد عليها:
    - اصمتي أيتها العاهرة. أنا أولى منك بالصعود، وقد دخلت المصعد قبل الجميع.
    تقف والغضب ممسك بتلابيبها وهي تقول:
    - السيد معه حق. ماذا يصنع وضيعان مثلكما هنا في طريقهما إلى صاحب الطابق العلوي المحترم؟

    صاحب الطابق العلوي غير المحترم! أعرفه جيدا أكثر مما يمكن أن تتخيله عاهرة مبتدئة مثلها.
    بعدما صرت صاحبة حظوة الأسر لدى صاحب المدينة لثلاثة أيام، نام معي خلالها مقدار عدد المرات التي مورس علي النوم طيلة مدة خدمتي بتلك المهنة، أخذ يهديني لكل من رغب في حاجة عنده. فمرة عند سفير بلاد ماوراء البحار، وطورا لدى زوجة صاحب مدينة العظمة، إلى أن أرسل لي مرة رسوليه الدائمين، زائري الصباح ودوما بقتامة تلك الملابس ذاتها، المنسوخة لكل رجالاته القريبين. أخبرني أحدهما أنه يأمرني أن أتزين لأني سأقابل رجلا استثنائيا. علمت بخبرة العاهرة أن الأمر جدي، فكل الزبائن الذين يقدمني لهم استثنائيون جدا، وهم لايدفعون لي بالمرة. ليسوا كصاحبي الوزير الذي ماعدت أراه وسمعت أنه تعرض لحادث سير قضى على إثره، كما غابت أسرته التي ستنبت فيما بعد من جوف الأرض. وصرت بلا حام حقيقي، لكني اكتسبت قوادا يأكل كل عرقي أكثر من قوادتنا الأصيلة مغرب. تساءلت دوما: ألا ينتميان للبلد نفسه؟
    مستسلمة أذعن لكل أوامره التي لاتعرف إلا طأطاة الرأس وقول نعم. في تلك الليلة علمت أني تفوقت على حظي إذ اقتسمت فراشي وجسدي مع صاحب الطابق العلوي. كان أشقر، بعينين زرقاوين، ناعم الجسد واللسان. منحني عدة وعود لم يخلف أحدا منها لأني ما عدت أذكرها، لكنه لم يقدم لي شيئا يذكر غير لقاءات وكلمات تغزل بجسدي وطريقتي في الرقص عارية على أنغام موسيقى شيخات خنيفرة. حاول معرفة أسرار صاحب المدينة بيد أنه لم يجد شيئا لدي، ليس فقط بسبب خوفي من بطش الثاني ولكن لأني لم أكن أعرف شيئا عنه عدا شبقه.
    كم دامت صحبتنا؟ حقيقة لست أدري.
    جل الذي أذكره هو أن صاحب المدينة كان راضيا عني بعد ما رضي عنه صاحب الطابق العلوي ومنحه قرضا بفوائد مغرية.
    وتقول هذه العاهرة أنه رجل محترم. لوكان محترما أيتها العاهرة غير المحترمة لمنحني أجرة صحبتي وهي كل وعوده.
    ولو كنت تعلمين حكايتي معه لما سعيت إلى هذا المصعد في يوم الشؤم الذي يشبه وجهي.
    ولو كنت تعلمين أني سبقتك إلى هذا المصعد الذي ظل على حاله مذ كنت في مثل سنك إذن لما تجرأت علي ونعتني بأقذع وصف، لأنك بذلك تسبين نفسك بعد أقل من عقدين فقط من الآن.

    عدت اليوم إلى سلك الطريق نفسها إلى الأعلى ليس لأمنح جسدي، فقد ذبل في غفلة مني للأسف. عدت فقط لأمارس مهنتي الحالية بعدما تنصلت مني مهنتي الماضية. أنا اليوم هنا لأمد يدي كما تفعلون أنتم وأسيادكم.
    - أنت وقحة ولاتفهمين شيئاً.
    قلت بعدما وقفت والمرارة متحلبة في فمي.
    يقف البدين والشاب أيضا، كديكين يستعدان للاقتتال. ينتشر بيننا صمت ثقيل واطئ تمزقه زفرات مرعبة تصدرها صدورنا.
    تعود نقطة حمراء لتبرز في محيط المصعد، بعدما أعمل البدين نار ولاعته في بقية سيجاره المنطفئ. أحاول أن أتذكر ملامحه عندما دخل المصعد في أعقاب العاهرة. لم أعثر لوجهه على تضاريس معينة في بيد ذاكرتي القريبة. المأزق يطرق الماضي ويشرع نوافذه في وجهي. هو من جزيرة شبه العرب. كثر هم الزبائن الذين أتوا من الجزيرة على مراكب الحرائق. حيثما داست أقدامهم يخلفون الخراب. المال لايلملم بعثرتنا أسيادي. هو الذي شتتنا ويوسع الهوة بيننا بأنانيته المفرطة. ترون اليوم أبناء الجزيرة على وفرة مالكم تصعدون معي المصعد نفسه لتمارسوا إحدى مهنتيّ الملتصقتين بجسدي كالوشم. العهر أو الشحاذة. لاأشك أنكم تبرعون فيهما معا، فمؤخراتكم تزداد امتلاء إثر كل صعود إليه، وأياديكم ممدودة على الدوام، وإن بالمال لتشحذوا الرضى والمباركة.

    يقرر الشاب أخيرا أن يخرج هاتفه النقال. كنت على صواب عندما خمنت أنه مثلي ينتمي إلى حارات الحاجة والأمراض والذباب، فهاتفه النقال كان بلون واحد هو وسط بين الخضرة والصفرة جعل المسكين يغالب خجله وينقر بأصابعه أرقاما ويدني جهازه الباهت من أذنه قبل أن يرجعه إلى غمده مهزوما مكدرا، مصحوبا بابتسامة شماتة اخترقت العتمة لتصلني في خط مستقيم من البدين إليّ مباشرة. فكرت لو أننا تنازلنا عن بعض غطرستنا الكاذبة، وتكلمنا لغة واحدة لاستطعنا ربما أن نجد لأنفسنا حلا ومخرجا من هذا المطب. ولو أننا عوض التلاسن وإلقاء التهم مجانا على بعضنا البعض، حاسبنا ذواتنا أولا واعترفنا بأخطائنا وزلاتنا وضعفنا ونقائصنا لما كنا ربما وصلنا إلى هذه الورطة التي نحن من صنعها في النهاية، والتي قد تكون أيادي صاحب الطابق العلوي غير المحترم قد دفعتنا إليها، كما هي عادته حين يقدم لنا على الدوام خدماته الجليلة لشق هوة واسعة بيننا.
    أقر الآن أني كنت مخطئة في جملة أشياء فعلتها في ماضي الأسود. خطيئتي الكبرى هي نفسها تلك الغشاوة التي تعمي بصيرة هذه العاهرة. تظن كما ظننت أن الشباب يدوم. عندما طردني حي الباغيات لم أجد أحدا يسند خطوي. الألم والخيبة والانكسار يهصرون قلبي، والندم يصفع قفاي. أما الوحدة فكنت أعلم أني على موعد قريب معها وهي تختلف عن تلك التي عشتها وسط الناس.
    تمثلت صورتي وأنا أضع وليدي. كان من صلب تاجر أقمشة ألقاه الليل في طريقي واعتاد جسدي في فجر ممارستي لمهنة العرق. أيامها كنت ما أزال تحت وصاية خالتي. منحها كما فهمت لاحقا مالا كثيرا ليحتكر جسدي مدة طويلة. كانت راضية جدا عنه حد أنها لم تعنفني عندما برز للجميع أني حامل منه نتيجة سوء تقديري وعدم خبرتي، كما أنها لم تأمرني بإسقاطه كما فعلت مع المسكينة سودان.
    أملت على عكس الجميع أن أرزق بولد رغم علمي بقوانين حي الباغيات القاضية بالتخلي عن الطفل بعد سنتين من وضعه، ويترك هكذا إلى الشارع حيث تتلقفه حواري الحاجة والأمراض والذباب. كنت أريده أن يجرب حظه بعيدا عن حياة عشتها مجبرة تتحكم فيها قوانين جائرة على الأنثى التي تولد من فراش غير طاهر حسب الآخرين. تظل مع والدتها ثلاث سنوات قبل أن تنتزع منها بالقوة وتخفى في مطبخ إلى أن تصير في يوم من الأيام حاملة لجسد يدر مالا، ويستدعي شهوة الرجال كما حدث معي ومع كثيرات مثلي. فكرت دوما في الأمر، وقدرت أني ابنة إحدى القوادات صومال أو تونس.
    لو كنت وضعت أنثى إذن لكانت في مثل سن هذه العاهرة المتعجرفة، لكني وضعته ذكرا وهو في مثل سن هذا الشاب المسكين الذي ربما يشبه تاجر أقمشة ألقاه الليل في طريقي، واعتاد جسدي في فجر امتهاني لمهنة العرق.

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    3

    أيتها المواطنات، أيها المواطنون، إليكم العرض الإخباري الثاني لهذا اليوم، العاشر من الشهر السابع للسنة الخمسين لحكم رئيسنا العظيم لمدينتنا السعيدة به، هذه.
    تسعد مدينتنا بمشاركة قائدنا العظيم أفراحه بمناسبة عيد ميلاده الأربعين، وأقيمت الاحتفالات والأعراس وزينت الساحات والشوارع بالابتسامات، وانطلقت الموسيقى المدينية من كل آلات المدينة صوب السماء متجاوزة الأسماع. هذا وقد استقى مبعوثنا إلى أسفل مبنى التلفزة هاشم الرقاص، التهاني والتبريكات المرفوعة إلى حضرة قائدنا المعظم بالمناسبة الجليلة التي تكرر أربع مرات كل سنة.

    كل هذه الأضواء المسلطة علي بدأت تصيبني بالضيق والقرف كما ربطة العنق الوحيدة التي تخلى لي عنها رئيسنا منذ... بدأت ذاكرتي تهن، لولا هذه الأوراق المقعية أمامي، وتشابه ما أقدم من أخبار، وإصرار وجه زوجتي على الاحتفاظ بدرجة بشاعته نفسها، وسكناي القريبة من مبنى التلفزة، وانحصار عدد مشاهديّ في هذه المقهى الصغيرة لتهت في هذه المدينة التي تنعم بوحشة خرساء.
    ثلاث جرعات في اليوم حرص رئيسنا على تقديمها للمواطنين في وصفة مواطنة رحيمة، لكنهم انصرفوا عنها في جحود معلن لقنوات أجنبية رخيصة لا تقدم إلا التافه من البرامج، والمسلسلات، والأفلام، حتى أخبارهم لا تتسم بالمهنية والحرفية. ولولا هذه المقهى، المكان الوحيد الذي حفظ الود، وأبقى على الوفاء لانطفأت تلفزتنا في كل المدينة. زوجتي أيضاً لا تشاهدني للأسف، والرئيس لا أعتقد أن مسؤولياته الجسام تمنح له فرصة مشاهدة نفسه على الجهاز.
    نقطة وفاء وحيدة بهذه المدينة الناكرة للمعروف، النادل المالك لجهاز التحكم، هو مواطن نموذجي بامتياز، رغم أنني في إطلالاتي الثلاثية، لم ألمح علم مدينتنا المليء بالألوان ينير إحدى زوايا المقهى، لكن صورة زعيمنا بلباسه العسكري ونظرته السديدة المسددة صوب الكل، تشفع له تقصيره.
    على عادتها اليوم ليس بها زبناء كثر، مواطننا النموذجي يتنقل بين طاولاتها القليلة بهمة ونشاط ملبياً دعوات الداعين. أعلم أنه إنسان مكد، وأكاد أجزم أنه زوج مثالي لامرأة سيئة لا تشاهدني أبداً، وأب حنون لثلاثة أبناء نجباء لا يشاهدون التلفاز بالمرة، وإنما كل همهم الدراسة والتحصيل حتى يتشربوا نجاح والدهم من فنجان مواطنة يحرص أن يقدمه لهم بنفسه، ليصيروا مثله تماماً، مواطنين نموذجيين.

    في إطار حملته الواسعة للقضاء على الفقر بالمدينة، قام رئيسنا الرحيم، أب الكل، بوضع إستراتيجية محكمة للتصدي للظاهرة يسهر بنفسه على تنفيذها، وتقضي الخطة الجديدة باستئصال الفقراء للقضاء على الفقر.
    تقرير زميلنا هاشم شبعان.

    ذاك الشخص الذي يرتكن تلك الطاولة القصية، أراه بالمقهى كل يوم. هو من زبائن القناة الدائمين. بت أعرفه جيداً. يبدو لي وجهه مألوفاً جداً حتى إني أكاد أجزم أنه يعمل بوزارة العيون المفتوحة والتقارير الدائمة، يغطي كل هذه المنطقة من مدينتنا، لديه مخبرين يتواصلون معه طول اليوم عن طريق أحد معاونيه الذي يعمل كرابط أساس في حلقات المد والتوصيل الدائمين.
    لا أحد يتفطن للأمر سوى صحفي متمرس، وعميل دائم بالوزارة ذاتها. اليوم أيضاً يقصد المسؤول الأمني رفيع المستوى المرحاض، وألمح المعاون يتبعه بعد مدة قصيرة ليمده بآخر المعلومات ليعود فيدونها في تقرير مفحم سيرفع لرئيسنا.
    أه! كدت أنسى رئيسنا!

    في الخبر الاقتصادي، اجتمع اليوم رئيسنا، رئيس مجلس إدراة شركة مدينتنا مجهولة الإسم والأهداف، بمسؤول رفيع بشركة كولومبيا للمساحيق المدوخة، وذلك لبحث سبل الإفادة من الخبرات الأجنبية لتكرير الحشيش. حضر اللقاء الهام مستشار رئيسنا في التخدير وسعادة مفتي حارة الحشاشين المفرج عنه قريباً بكفالة قدرت بكيلوغرامين من الشيرا وقنينتين من ماء الحياة.
    تقرير زميلنا هاشم المسطول.

    جديد هذا اليوم هنا، هذين الشابين اللذين اختارا هذه المقهى الهادئة المواطنة ليتناجيا بعيداً عن قسوة المدينة الجاحدة، وأعينها التي تلاحق حتى تلك الذبابة التي لاتكاد تفارق الشابة. ألقتني صورتهما الوديعة إلى سنين شبابي وعطالتي، وبحثي عن نفسي. كنت إنساناً عميقاً رغم الفقر. أكاد أذرف الدمع وأنا أتذكرها، لم نكن محظوظين مثلهما لندخل مقهى، ويأتي نادل مواطن ليقدم لنا شيئاً نشربه. لم نكن بحاجة لشيء حلو كيما نعفو عن أشياء حلوة تتراقص بداخلنا. جلوسنا كان بالحدائق العامة، وعلى قارعة الأحلام. لم ندع نهزة، أو خلاء نرشف منه أو نعب حسب الظرف. كنا نختلس من الزمن أويقات نمارس فيها بعض وهمنا. نتأبط عادة جسدينا والشهوة. عند أول مناسبة أقبلها. تمزق حذاؤها وقامت بإصلاحه أكثر من مرة، وكبرت أحلامنا مع الوقت، بينما تمسكنا بغرابة فجة بأحجامنا، إلى أن صرنا قزمين أمامها بشكل يدعو للضحك.
    دامعة جاءتني يوماً لا أستطيع نسيانه ما دمت حياً. منتحبة قالت إن أحدهم طرق باب أسرتها، وأن والدها يراه مناسباً. حزنت كثيراً، ودارت بي الأرض دورة كبيرة، وهزتني هزة عنيفة. فكرت جدياً في الانتحار. عندما استفقت من خدر صفعتها كنت أقتسم فراشي وحياتي مع فاتنة ثرية أدخلتني مبنى التلفزة ربما قبل أن تصل إلى بيت والدها المطروق بابه الخشبي من قبل أحدهم في اليوم نفسه.
    استطاعت زوجتي، فاتنتي الثرية، أن تفتح في وجهي كل الأبواب المقفلة سابقاً بالمهارة نفسها التي تفتح رجليها لكل ذوي الياقات الأنيقة والبطون المندلقة، والحراس القائمين على أبواب الموت والموت.
    أتساءل اليوم: ماذا لو لم تخني حبيبتي، ومشت معي المشوار حتى النهاية؟
    أما كنا سنكبر مع الوقت ونلحق بأحلامنا الفارة فنمسك ببعضها؟
    لا فائدة ترجى من النبش في جراح الماضي الغائرة. لو استطاع هذا الشاب أن يسمعني إذن لنصحته أن يتبع خطوي. كن ذكياً وابحث لك عن مفتاح تعمله في أبواب مدينة لاتعترف بالحب والأوهام.

    في الخبر الوطني وسيراً على نهج السيركات الكبرى، يشرف رئيسنا في هذه الأثناء على الاستماع لشهادات قيمة لبعض المهرجين السابقين الذين احتجوا أن أحداً لم يحضر عروضهم البهلوانية في النط، والتسلق، واللعب بالبيضة والحجر، والرقص برجل واحدة على كل الحبال، ما دعاهم إلى الاحتجاج لدى الفدرالية الكونية للتهريج متهمين رئيسنا البريء حتى تثبت براءته، أنه يقف خلف ذلك، وهم بشهادتهم هاته يصرحون ويعلنون أنهم كذبوا وافتروا على نظام مدينتنا وممثله الأسمى الذي يدعم ويشجع التهريج بدليل أن قانونا قيد التفعيل يسمح لهم بممارسة التهريج والبهلنة في كل مكان، في السر كما في العلن.
    تفاصيل بالصوت والصورة مع مبعوثنا إلى السيرك المركزي هاشم بيكاتشو.

    أعلم أن ما سأقوله خطير جداً، لكني بت أضيق به ولا أستطيع كتمانه. في الليالي الأخيرة، أخذ حلم يلح علي بقوة، ويكاد يطبق على أنفاسي حد أني بدأت أعد نفسي لمهامي القادمة.
    نعم، لا يمكنني أن أظل حبيس هذه القناة، نافذة صغيرة لا تتفق وأحلامي وطموحاتي وإمكاناتي. لا لست خائناً لأغادر قناتنا الوطنية هذه لصالح أخرى أجنبية رخيصة لا تقدم إلا التافه من البرامج، والمسلسلات، والأخبار. أعترف أن أحداً لم يلتفت إلي، ولم يصلني عرض منهم وذلك في اعتقادي لقناعتهم بأني مواطن نموذجي، مخلص ووفي، ولو فعلوا لفكرت في الأمر بجدية. لكن طموحي أقل من ذلك بكثير. أراني كل ليلة أجلس مكان رئيسنا، أضع لباسه العسكري، وترتسم على وجهي تلك النظرات السديدة المسددة صوب الكل. في النهاية نحن نتشابه كثيراً، من يدري ربما أنا أحق منه مادمت أراني أسوأ منه!

    في الخبر الرياضي، فاز رئيسنا العظيم، الرياضي الأول والآخر، الظاهر والباطن... بالدورة الخمسين للجائزة الكبرى التي تحمل اسمه الطاهر، الميمون... في رياضة الغولف المقامة على ملاعب الغولف التابعة لقصره العامر. ويعد هذا الفوز الخمسون في تاريخ الدورة باللقب الغالي، وجاء هذه السنة بعد تفوقه على نفسه بإنهاء كل الضربات المسموحة وغير المسموحة على كل من قاده حظه السعيد لحضور المظاهرة، عفواً التظاهرة. هذا وأقيم بالمناسبة نفسها التي تصادف الذكرى الأربعين لميلاد عظمته، حفلاً عظيماً حضرته حرمه السعيدة، الفنانة المعتزلة ناني، وعشيقاته غير المعتزلات، اللائي أتحفن الحضور بحلقات من هز الوسط الكريم، وزوجته الثانية التي لاتمت للفن بصلة، وسعادة وزير العطس والكنس، وسعادة وزير الحدائق والمشانق، وسعادة وزير الري والعري، وسعادة وزير الشرف والقرف، وسعادة وزير العصا والقفا، وسعادة وزير النمل والقتل، وسعادة وزير النهر والقهر، وسعادة وزير الشرب والحرب، إضافة إلى العديد من المختصين من بقايا الولائم، وخبراء فتات الموائد.
    تقرير هاشم فاهم.

    أعلم أن هذا التقرير سيستغرق أكثر من خمس ساعات، علي الذهاب لأكل شيء، فمشاهدة هذه الوليمة الكبيرة ببطن فارغة تؤدي إلى نتائج كارثية أحياناُ. مهلاً، أرى نظرات مسؤول الأمن الجالس بالمقهى تتجه صوب الشارع، بخبرة الانتماء إلى وزارة العيون المفتوحة والتقارير الدائمة، أنظر من خلال مرآة المقهى، فأبصر أربعة ظلال تهرول قاصدة الباب الخلفي لعمارة كبيرة، هم بلا شك يسرعون للحاق بأحداث مسلسل رخيص على القناة الفضائية الأجنبية التافهة. سأسرع أنا أيضاً علي أظفر بمشاهدته. في انتظار لقائي بكم بعد ساعات، أتمنى للجميع مشاهدة ممتعة لقناتنا الممتعة جداً.

  7. #7
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    4
    الطريق شاقة متعبة، والشمس تلسع رأسي الصغيرة. يلتفت والدي إلى وهني. نظراته لاتفصح عن شيء مبين. العرق والإنهاك يرشحان من جسدي الهزيل كما نظراتي المتوسلة. بيديه الصلبتين يضعني على ظهر أتان بالكاد تتحرك وهناً هي الأخرى. تصلني زفرات حسرة خرساء يفرج عنها صدر أمي متماهية مع نبض غير منتظم.
    على عتبات ذاكرتي تقرفص كلمات والدي الأخيرة التي نزلت علينا كتعاليم مقدسة، دونها الجحيم:
    - لاشيء نفعله في هذا الخلاء، ستبتسم الدنيا في وجوهنا هناك.
    لمح بداية ثورة تنط من عينيها فألقى وريقات خضراء في وجهها قائلا بقرف:
    - ترين ما يساويه ما تعتقدينه كنزا.
    أحسستها تود أن تقول له (ورائحة أجدادنا، وآمالنا المعلقة على بنينا والغد، والسماء التي وإن أخلفت مواعيدها مراراً لم تتخل عنا أبدا، فلم نتخل عن آخر ما يربطنا بالكرامة؟).
    كانت كفيلة بأن تخترق عينيه لتكتشف أن المدينة سحرته كما فعلت مع أغلب رجالات قريتنا، إثر رحلاتهم خارجها حين رابط القحط على جغرافيتها، بحثا عن كلإ يطرد جوعاً مقيما.
    كنست القرية سواعدها تباعاً حتى غدت قفرا.
    كانوا جميعاً يحلمون، وصرخ العربي في وجوههم أن أفيقوا فما انتبه له أحد. الكل باع وقبض الثمن. وريقات خضراء، نعم مجرد وريقات خضراء في مواسم الخريف. الكل قصد المدينة، حاضنة الآمال الجديدة.
    أكاد ألمح طيف الخيبة والانكسار تعفو عنهما عيناه، وكأنه غير راض عن مسيره، بيد أنه ما إن يتفطن للأمر حتى يطرد الحنين ويجدّ في سيره، تتعقبه أتان تحملني، منكسرة كأمي التي تلوك خطوها خلفنا.
    تستقبلنا أبنية سامقة، وطرق طويلة وزحمة خانقة، وتحضن دهشتنا الأولى. نافر العينين أحاول عبثا أن أحيط بامتداداتها وظلالها الشاخصة. هذه هي المدينة إذن. على مرمى تعب من قريتنا. نبدو فيها كغرباء لفظتهم حياة أخرى. لاأحد يلتفت إلى قافلتنا الصغيرة الغريبة. العربات أيضا لاتخطئ عناوينها. تنزلق في اتجاهات متفرقة بسرعة محمومة. لاحمار هنا ولاأتان، لاغبار ولارائحة لهذي الأرض.
    تنطفئ الدهشة وتسري في مسامي قشعريرة يهتز لها بدني، عندما نلج تكتلا بشريا يسيجه القصدير والروائح النتنة والنظرات الشرسة. وجه مخفي لمدينة بدأت تكشف قناعها. والدي يعرف طريقه جيدا. يقودنا إلى جحر منزو بين فراغات تشبهه.
    أشعرني وحيداً جداً هنا. لن أغفر لوالدي أنه عمد إلى ربط كلبنا الذي ودعنا شبه منتحب. غصة مرارة تجتاحني إذ أتصوره يقضي جوعا وعطشا حين لن يجد من يطعمه فيكافئه حراسة ووفاء. العربي لايحب الكلاب، بيد أنه وفي جدا للطين والنخلات.
    أذكر النخلة الماردة التي كانت تتوسط بيتنا، وتآلفنا مع الهواء والأرض. لم نعد نملك شيئاً، والعربي يملك إرادة البقاء والحرص على أرضه وهوائها. ودعنا كما ودع كل المغادرين قبلنا وكما سيفعل حتما مع قلة خلفناها وراءنا. كان الغضب ممسكا بتلابيبه، صارخا في وجه والدي:
    - جبان. لماذا اخترت الطريق السهلة؟ الأرض تمتحننا.
    وكما الجميع. لم يعر والدي أهمية لكلامه، بل تجاوزه كأنه مسحوب بحبل سحري متين إلى هنا.
    لكم أشتاق إلى تلك النخلة التي سمعت أن عمرها من عمر أقدم جد لي هناك. سمعتهم يحكون عن نخل قريتنا ويلصقون به الأساطير. فقالوا إنه سحري قام من تلقاء ذاته وكأنها السماء عطفت على أهل قرية كانت بالكاد تتشكل لتحضهم على البقاء هناك والتشبث بكل ذرة رمل فيها. استفاق أجدادي ذات صباح فألفوا النخلات شامخات يقبلن جبين السماء. كم أحن إلى كلبي أيضا الذي أتصوره الآن فضل الموت على فراقي. لكم أفتقده. أتراه يستطيع النجاة أيضا لأحيك حوله الأساطير؟ زفرات حارة وصمت وحلكة تلقي بي إلى هواجس البدايات المقيتة في هذه المدينة المقرفة. أكرهها وأكره أناسها وبناياتها ومصاعدها. تمتزج في نفسي أحاسيس متضادة. الغضب يلعلع بداخلي وتتقد نيرانه لتلظيني، وشعور بأني أنتمي إلى العتمة التي أخرجتني من رحمها نشالا لم تأت المدينة بمثله أبدا.
    يغيضني وجودي هنا، ويعمق من إحساسي بالمهانة بينما تفرج نوافذ أملي لعلمي أني قد أجني محافظ وهواتف ملونة وربما بعض السيجار الفاخر.
    الندم يجلد نفسي. ربما أخطأت في صعودي هذا المصعد اللعين معهم. لو اكتفيت بحافظة نقود هذا البدين التي سلبتها إياه عند المدخل الخلفي لهذه العمارة لما ألفيتني معلقا بين السماء والأرض، بيد أني بدوت منزوع الإرادة مسلوبها، مشدودا إليهم بحبل متين غير مرئي كذاك الذي أتى بوالدي ذات خطأ إلى هذه المدينة الزانية.
    تستطيع عيناي المدربتان تعقب أنفاس من حولي وتحديد الأشكال والمخابئ السرية في السراويل والسترات والحقائب اليدوية.
    هم هادئون بعد عصفة الغضب الأولى. أعلم أن دواخلهم تعتمل بالخوف والرهبة والانتظار. ليس لدي ما أخسره.
    مبحوحا يصدر صوته موجها إلى مطلية الوجه:
    - تقصدين صاحب الطابق العلوي المحترم؟
    تشجعه عندما تهمس بنعم فيسأل مجدداً:
    - من أجل عمل؟
    ويزيد بعد نعمها الثانية:
    - أنا أيضاً.


    صاحب الطابق العلوي المحترم!
    أربعتنا رهن حجرة قصديرية ضيقة. فضلت أمي أن تدير ظهرها لوالدي بعدما جعلتني حاجزا بينهما. لأول مرة أرقد بينهما، بينما احتلت الأتان مكانا قرب مدخل الجحر.
    أطياف الليل تعبث بناظري رغم التعب. الغربة تنفخ في روحي. بين إغفاءة وأخرى أتحسس وجيب صدر أمي. أظنها ماتزال مستيقظة. والدي يستسلم لنوم عميق دون مشاكل كأنه نام هنا طول عمره. الظلمة تطبق على كل شيء في محيط قطره غير متناهي. لاشيء هنا يوحي بأننا أصبحنا غير الجلبة الرهيبة التي تصلنا من الخارج، تذكرني بالسوق الأسبوعي وزعيقه. أمي منزوية في ركنها ونشيجها الأبح يطرق حواسي. أتقلب في مكاني. تحس أني أفقت. تشرع ذراعيها. أشعر حضنها يناديني. أدفن وجهي في صدرها. دموعها تبلل شعري وخديّ. خجلا ومبللا أقول لها:
    - سامحيني.
    مشروخة الصوت بعد زفرة حارة تقول:
    - لاذنب لك حبيبي. هو السبب في كل هذا. سيندم على كل حال.
    همست وقد ازددت خجلا:
    - بللت سروالي أثناء نومي.
    يشرع الباب المتهالك مصدرا صريرا مزعجا. يطل طيف والدي. يقول متبرما:
    - اللعنة على الأتان. لم تجلب غير دراهم معدودات.
    من كيس أسود صغير، يخرج خبزا وحليبا وزيتونا بلون أيامنا القادمات. تبقى أمي منزوية في ركنها، وأنا دوما برائحة بولي في حضنها. يصرخ في وجهينا:
    - هيا قوما واملآ وجهيكما قبل أن نذهب للعمل. المدينة لاتعترف بالخمول. الكل عليه أن يعمل.
    لكننا كنا نعمل في قريتنا. هل لنا أرض هنا نعمل فيها؟
    مشيرا إلى أمي يستمر:
    - سآخذك إلى موقف تعمل به مياومات. تكنسين، تطبخين، تغسلين. تفعلين ما يطلب منك. وأنت...
    أزدرد ريقي. أنا طفل.
    - ستصحبني لتتعلم كيف تصبح رجلاً؟
    أنا طفل.
    المدينة تضج بالحركة. سوق يومي هاذر يغري الزائر، لكنها عبء على طفل يلبس سروالا ترشح منه رائحة البول، يقتاده والد واسع الخطوات إلى أتون مجهول ليتعلم كيف يصير رجلا.
    أهرول وأمي كيما نلحق به. يقف قرب ساحة اصطفت فيها عشرات النسوة يطل البؤس من عيونهن، ويلبسن الحاجة والذل. يشير إليهن قائلا:
    - هنا ستعملين. افعلي ما يفعلنه. سأعود لأصحبك مساء إلى البيت.
    البيت؟!
    حزينا ألتفت إليها، فإذا هي جامدة بلا حراك، وأطياف مزن داكنة تخز مآقيها. دون أن يلتفت والدي إليها أو إلى خطواتي الصغيرة يتابع سيره، وأبذل جهداً كبيرا حتى لاأضيعه في الزحام. أشرد قليلاً في صورة طفل بمثل سني تمسكه أمه بحرص وحب بيد، وبالأخرى حافظة كتب صفراء رسمت عليها أشكال مغرية بألوان زاهية، كالحياة التي ينعم بها فكرت. أغبطه على محفظته وسعادته وطفولته ومحفظته وسرواله الجاف ويد أمه.
    عند إشارة مرور حمراء، يقف والدي كما آخرين كثر. يدور برأسه بحثا عني وفي عينيه لوم على تأخري. لم ألمه على إسراعه، وعدم وضع خطواتي الصغيرة كجسدي في حسبانه. يخرج منديلا أصفر من جيبه. يمده لي قائلا:
    - عندما تتوقف السيارات، امسح زجاجها الأمامي، ومد يدك للسائق بتوسل، وسترى كيف أن الدراهم ستنهال عليك. لاتقلق. سأكون بالجوار.
    أمسكت المنديل ورجفة باردة تجتاحني. صعد بعينيه إلى بناية سامقة، وأشار بسبابته إلى أعلى نقطة فيها ولمحت ابتسامة بلا طعم عفت عنها شفتاه:
    - هنا يسكن صاحب الفضل علينا. هو من اشترى أرضنا وأوجد لي عملا غير بعيد. إنه مالك هذه العمارة، وصاحب الطابق العلوي فيها.


    وكما بشرني والدي، انهالت علي اللعنات ونظرات الزراية والاحتقار، والقليل من الدراهم. لمَ القسوة علي وأنا طفل لم أقم إلا بما أوصاني به والدي؟
    المكان يضج بأطفال في مثل سني وأكبر مني قليلا. نعرض عاهاتنا ونمد أيادينا كما علمنا أباؤنا. نملك قواسم مشتركة أخرى. اللكنة البدوية الغريبة. الملابس القذرة، ليس كلها بفعل البول، حد الغثيان. الوجوه لونتها الأدخنة والشمس والحاجة. العيون مرجرجة فارغة، متوسلة عند طلب شيء وشرسة إذا ما تطاول أحدهم على سيارة سبقه إليها.
    في أول يوم اشتغالي أو ضياعي، حضرت شجارات تفوق بكثير ما شهدته منها في قريتنا طوال سنوات وعيي. عدوى المدينة القاسية تصيب المنتسبين إليها.
    قررت أن آخذ حذري منذ البداية. لاأكلم أحدا. لاأستفز بنظراتي أيا منهم. لاأتدخل في شجار، وخاصة لاأمد يدي لرجل يقف أمامه طفل يتعلم كيف يصير رجلا.
    تجلد دواخلي سياط جوع أعمى. أعد دراهمي القليلة. أقصد شارعا فرعيا حيث لمحت بعض زملائي عائدين وفي أيديهم خبزا. أهرول بالاتجاه ذاته. أسود بدين بشارب كث يقف خلف عربة نقانق. يغريني الدخان، والجوع مستمر في طرق أبواب مقاومتي. فليغضب والدي أو فليذهب إلى الجحيم. لن أموت جوعا ليرضى عني.
    - عمي أعطني شيئا لآكله.
    كسرة خبزة صغيرة حشاها بقطعة مما يصنع وطارت دراهمي، وهجع جوعي إلى حين. وجبة شهية جعلتني أقسم أن أعمل بجد كل يوم لأحصل عليها.

    في طريق أوبتنا إلى الخربة التي تعرينا أكثر مما تستر حاجتنا، يطوقنا الصمت. الغضب يمشي حذو والدي بعد أن اكتشف أن أمي لم تحصل على شيء، بينما ندمت كثيرا أني لم أشتر لها معي من عند عمي صاحب النقانق الشهية ما يسد رمقها عوض ما منحته والدي من دراهم لم ترضه عني أيضا.
    تنسحب الجلبة من الأزقة الخالية، إلا من بعض المساطيل، إلى الجحور المعتمة مع بداية حلول الظلام.

    تغير والدنا مذ حللنا هذه اللعنة قبل ثلاثة أيام. أضحى كثير الصمت سريع الغضب، شرسا مع الجميع حتى عندما أشار له محييا عمي صاحب النقانق الشهية الذي اكتشفت أنه يسكن خربة في الجوار. اكتفى بهز رأسه بتضايق ليقول مصرا على أسنانه:
    ـ عليك اللعنة أيها الطماع الشره. الأتان لم تدفع فيها إلا قليلا بينما تجني من لحمها الكثير عندما يصير نقانق.
    ينفخ النوم هواءه السحري في عيني على ضوء شمعة متراقصة أمامي احتراقا. التعب والغربة يتحالفان ضدي ويسلمانني إلى أرض الكوابيس. تطرق صماخيّ أصوات محمومة. أحسها قريبة جداً مني.
    ـ إبتعد عني.
    لطمة وشهقة مكتومة تمتزج بآهات لذة ورائحة عرق قوية بحرارة تزحف نحوي. أشرع عيني على ضوء شمعة تتراقص احتراقا أمامي. أبصر أمي تصر على أسنانها. ملامح وجهها منقبضة. والدي يصعد مرتفعاتها وينزل منخفضاتها ويفتك بآخر خطوط مقاومتها، وينشر ألوية الوجع في جغرافيا نفسها وجسدها. تقول متوسلة:
    ـ إنك تؤلمني. ليس من الخلف رجاء.

    تألف خطواتي الصغيرة خط سيري وحيدا من جحرنا إلى الإشارة الضوئية المعلومة. والدتي تخرج باكرا. دراهمها المعدودات أضحت ترضي والدي الذي صار يغيب ليال طويلة عنا. في كل ليلة يظهر فيها يبدو غريب الأطوار، وتصدر عن فمه رائحة كريهة كرائحة بول الإبل، تقترن بشراسته مع أمي التي ازدادت شحوبا وضمورا كما ازدادت حدة اللطمات على خدها كلما صادف وجوده بيننا. رائحته الغريبة أذهبت بعض شعوري بالخجل من رائحة بولي.
    طال انتظاري لمطر تحمله سماء أيامي هنا. أجد أمي تنتظرني في أحد الصباحات على غير عادتها، إذ وما دام كل واحد منا قد عرف طريقه فلم أكن ألتق بأحدهما صباحا. تحضنني بحرارة وتقول بين شهقتين:
    ـ ستفهم كل شيء عندما تصير رجلا.
    كدت أصرخ في وجهها (لكني رجل يا أمي)، بيد أني خمنت أنها تقصد عندما أشفى من طفولتي وبولي الليلي الذي لازمني مذ حضرت إلى المدينة. ثم إني ألفيتني صامتاً وقد أدركت أن شيئاً عظيماً يحدث حولي أو سيحدث قريبا. خرجت مسرعة دون أن تلتفت خلفها ورائحة دموعها تعفر رأسي ونفسي وجحرنا.
    عندما استفقت من خدر حزني خرجت محاولا تعقبها. استوقفني منظر أسرة غريبة يمتطي وحيدها أتانا أو حمارا، أقدر أنه سيأكل من لحمه بعد حين عند عمي صاحب النقانق الشهية. أقف مشدوداً إلى الأرض وعيناي لاتتزحزحان عن كلب يتعقب امرأة منكسرة النظرات والخطوات. أفتحهما دهشة وفرحا. نعم إنه كلبي. تنجلي أمامي ملامح العربي الذي بدا كديك منزوع العرف، أو كجندي خسر معركة لم يدخلها. استلقت على جسده أسمال وبعينيه المتورمتين كدمات بادية.
    يعدو كلبي في اتجاهي فرحا. ما أوفاه! أعدو في اتجاهه فرحا. ما أسعدني! ذاك أقل ما يجب. أريد أن أضمه إلى صدري كما فعلت دوما. أن أقبله. أن أشم فيه رائحة الأرض والهواء، وأسأله عن النخلة والعربي. أريده أن يحكي لي كيف قاوم الموت وكنسته الحياة إلى هذه القذارة. أريده... سيارة متجهمة اللون تعدو أسرع منا. تعدو بيننا في أقرب لحظة للتوحد بيننا. لم تبال بتاريخنا المشترك أو بأحلامنا وأيامنا الآتية. يتوقف كل شيء أمامي إلا السيارة التي استمرت في طريقها غير مبالية بما أحدثته من شروخ عميقة. الدم يسيح على الإسفلت وجرح قلبي بلغ مداه. أبكي كما لم أفعل من قبل. يقف العربي عند رأسي بملامحه الممسوخة. ألمح البلل في وجهه أيضا. يقول بأسى كبير:
    ـ أخذوا كل شيء. مالم ينجحوا في أخذه حيلة استولوا عليه غصبا.
    أهيم على وجهي والحزن ينصب ستائره أمامي. في موقف النساء أجد أمي تصعد سيارة متجهمة اللون يقودها شيخ عمّر أكثر من ثمانين خريفا. أفكر أنه سيؤلم مؤخرتها، ولن يؤثر ذلك فيها وهي خريجة أقوى مدارس التعذيب: والدي.
    لارغبة لي في الوقوف عند الإشارة الضوئية، واستجداء سائقي السيارات الملاعين. أحدهم أتى على آخر ما كان يربطني بمناطق مشرقة من ذاكرتي. لماذا أتيتم يا عمي العربي؟ كلبي لاقبل له بكلاب المدينة الآخرين.
    أعبر الطريق بحذر مضاعف. ألج شارعا خلفيا شبه خال. ألمح والدي يضع قبعة على رأسه يساعد سيارة متجهمة اللون كتلك التي صدمتني ذاك الصباح على احتلال مكان في مرآب يحرسه مقابل لمقهى صغيرة.
    كان ذلك آخر عهدي بوالدي. ربما ذاك ما غيب حذري وحرك طيشي لألفيني مع هؤلاء سجين هذا المصعد المتوجه إلى من اشترى أرضنا وطرد العربي وتسبب لي في كل معاناتي. صاحب الطابق العلوي المحترم.

    صاحب الطابق العلوي المحترم!
    هو أيضا يقف خلف ما يصيبني هنا.


    أضاءت مطلية الوجه ولاعتها. اختار كل واحد منا زاوية وركن إليها في صمت. ربما أصاب العجوز بعض الوهن فاضطرت لتمد ركبتيها لتلمس البدين الذي أبدى اعتراضه على ذلك، وأزاح قدميها بحركة عنيفة وهو يقول:
    ـ إلزمي مكانك لو سمحت.
    أتساءل إن كان سيمانع لو كانت مطلية الوجه من قامت بتلك الحركة. رأيت بخبرة اللص شبقا في عينيه وهما تهرعان لاكتشاف فخذيها المكشوفين. رأيت ذلك مع أن المكان شبه مظلم. شعرت بذلك فأحست ببعض الحرج منا وحاولت إخفاءهما بيديها، لكن ذلك لم يمنعه من التلصص عليها لاغيا وجودي والعجوز التي أدارت رجليها اتجاهي ومددتهما دون أن أمانع.
    سيكتشف بلا شك أن حافظة نقوده سرقت منه، وسيفتعل مشكلة. إذا حدث واتهمني صراحة فسأعمل سكيني في خدوده الموردة. كثر أمثاله في المدينة يأتون إليها لعقد صفقات أجسادهم المشبوهة. يحكى عما يقومون به الشيء الكثير. لو تتركنا دوريات الشرطة ورجال الأمن الخاص نقوم بعملنا على نحو جيد لكنا خلصنا المدينة منهم. لكن وجوهنا موشومة في أرشيفهم، وما إن نقترب منهم حتى نغيب عن الشمس مدة طويلة.
    هو صاعد إلى صاحب الطابق العلوي من أجل صفقة بلا شك، ومروره من هذا الشارع الخلفي الضيق يسر لي سبيل سرقته وحبسي هنا. لو مر من البوابة الرئيسية للعمارة لترددت في الاقتراب منه.
    أتساءل ما الذي أتى بالعجوز إلى صاحب الطابق العلوي؟ ربما كانت أمه تنصل من رابطة الدم التي تجمعه بها، وأتت لتذكره بها. أما مطلية الوجه فالواضح أنها تقصده تحت الطلب.
    تزفر العجوز بحرقة محدثة صوتاً أرادته أن يصلنا جميعا. لاشك أنها ترغب في سيجارة هي أيضا. أستطيع تخمين ذلك. لاأذكر أول عهدي بالسيجارة، بيد أني متأكد أني أدمنتها والحشيش مبكراً جداً كما أدمنت الوحدة والألم. الجوع يقضم أحشائي والضياع يلوكني ويلقي بي من شارع إلى آخر.
    متردداً أقف قبالة واجهة زجاجية. يسيل لعابي، وتستيقظ حواسي وأنا أبصر الأفواه الشرهة المشرعة تلتهم الأطباق المتنوعة. لاأحد يرفع ناظريه. لاأحد يبالي بطفل جائع. رائحة شهية تدغدغ جوعي، وتسحبني عبر باب مشرع على الأمل. ببراءة طفل جائع حاولت الدخول. حاولت فقط.
    شيء صلب يهوي على قفاي الصغيرة. أترنح قبل أن أسقط أرضاً. تلتقطني قوة عظيمة لألقى بعيدا كشيء غير مرغوب فيه. يزداد ألمي. أحاول الوقوف. قواي خائرة. ألملم جسدي ورضوضه. أتحامل على ضعفي. أستجدي عجزي أن يهجع قليلا علي أستطيع أن أصل إلى بر يقيني صفع أمواج هائجة. مترنحاً أنعطف عبر شارع فرعي ضيق. بغريزة أجدني أفتش أكياس قمامة استلقت هناك.
    الشوارع تتزين وتلقي بأوساخها خلف ظهورها. كحال أبنائها. أنيقون بربطات أعناقهم، وبأصباغهم وبابتساماتهم المشبوهة يلقون بمثلي خلف لامبالاتهم. صراع من نوع آخر هنا. من أجل البقاء على قيد الألم، أقتحم فضاءات الكلاب والقطط وكائنات غريبة أخرى تشبهني، لأحصل على أسباب انغماسي في الذل والمهانة.

  8. #8
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    أمشي. أدور مع الأرض. أدور حول نفسي. الحلكة تغشى المدينة. ليلها موحش كنهارها تماما. مخلوقات ليلية مفزعة تغادر أوكارها، لتحتل أوكاراً أخرى والرصيف.
    تجتاحني رعشة برد قوية. أكتشف وجهاً آخر من قبح المدينة. الأضواء والسيارات المنزلقة بسرعة محدثة صخباً عارماً تعفو عنه محركاتها وما أطلق بداخلها من موسيقى تعوي. أكتشف أن هناك مخلوقات ليلية كثيرة ومتنوعة بعضها كان في مثل سني. أخمن أن المدينة أخذت منهم عزيزاً مثلي تماماً. أفكر في كلبي بطبيعة الحال.
    يلقي بي نصبي إلى زاوية بحديقة مظلمة تبعث على الفزع. أتمدد مغالباً قسوة البرد جوار شجرة أقدر أنها لاتشبه نخلة في شيء. أتكوم على نفسي. تأخذني موجة نوم عميق إلى بر بعيد. أكتشف أني وحيد جدا هنالك. أرنو إلى خشخشة جواري. يصيبني خوف يكتم أنفاسي. أعدو بكل فضلات قوتي. الحجر يدمي قدمي. لاأبالي. أنزل منحدراً بسرعة كبيرة. شيء يتعقبني مسرعا. أشعره قريباً مني. هو بلاشك خلفي تماما. أجتاز بركاً مائية صغيرة. أحاذر أن يسقطني وحلها. أتعثر مرة تلو أخرى، وأقوم في كل مرة بعزيمة أكبر. ملاحقي يكاد يمسك بي. أشعر أنفاسه تقترب مني أكثر. أنظر إلى السماء. البدر مكتمل، والنجوم تتفرج على عجزي. يكاد قلبي يتوقف، وأنفاسي توخزني. أصعد جبلاً. تلوح لي نخلة تقف بشموخ. كإلهة أفكر. تهتاج دواخلي، وتشحن بالحنين والقوة. أعدو وأعدو، وملاحقي خلفي. أدنو من النخلة. ملاحقي خلفي. أقترب منها أكثر. يقترب مطاردي مني أكثر. أكاد أشعر أنفاسه. يتوقف كل شيء. ألتفت خلفي. لاأصدق ما أرى. كلبي يحاول اللحاق بي، وأنا أفر منه. أقف بينه وبين النخلة. أضحك ملء نفسي. أحس كل شيء يضحك معي. الهواء والأرض والكائنات والسماء التي تقرر أن تحتفل معنا فترسل مطرها الذي يهوي من عل فوق رأسي مباشرة. أحسه مختلفاً. نشواناً. ساخنا. أشرع عيني. أسمع غناء يصدر عن سمائي. كان ثقيل اللسان. ألأن ساكن السماء لايجيد الغناء يكرهه؟ السماء ماتزال تحتفل معنا والمطر ساخن جدا. البلل يصيب أسمالي وجسدي. أغير من وضعي. ركلة قوية من السماء تصيب مؤخرتي، وصاحب اللسان الثقيل يقول:
    - أفزعتني يا ابن الكلب، وأذهبت سكري.
    ساكن السماء يسكر أيضاً؟ هذا يفسر وعده للمؤمنين بأنهار من النبيذ. حاول أن يمسك بي، بيد أني أطلقت ساقي للريح. أحسسته يتعقبني وسبابه يكسر هدأة الليل ويصعد للسماء التي لم تمطر ولم تحتفل معنا. يصيبه التعب، فيتوقف ويقول:
    - سأتبول داخلك في المرة القادمة وليس فوقك.
    أفكر أن أعود أدراجي إلى جحرنا بيد أني كنت قد ابتعدت كفاية حد تمكني من إضاعة طريق العودة. أدرك أيضاً أن الوقت خانني ولا يمكنني العودة.
    البرد والتعب والنوم ورائحة البول وكابوسي الأخير رفقائي، والحذر والخوف والأسئلة في أعقابي.
    ما أطول الليل هنا!
    قاس جدا، وممعن في حلكته. يهتز جسدي الصغير فزعاً عندما يطرق صماخي عواء السماء. أظنها ترثي لحالي وتتألم لألمي. وحيدة هي مثلي تماما. رغبة ملحة في البكاء تحاصرني. تشرع السماء في بكائها الهاذر. لم أعد أقوى على الصبر. وجهي يغتسل وضوءا لاطاهرا. يختلط عليه مطر عيني ودمع السماء. يصيبني البلل ويطوق كل جسدي. أصعد بضع درجات مقابلة لي تماماً. أختبئ هناك ونشيجي من رعد وسخاء السماء. قشعريرة باردة تزحف إلي. تأخذني غيبة إلى كابوس آخر. أشرع عيني على ابتسامة مشرقة أضاءت العتمة حولي. يقول لسان ونظرات تقطر صفاء ومحبة ورقة ولطفا و...:
    - ماذا تفعل هنا يا صغيري؟
    أدعك عيني. لا. لست أحلم. شيخ ثوب البياض تداعب أصابعه شعري والأخرى مستمرة في نقر سبحة أنيقة.
    أمسك يدي بحنو ظاهر. أخرج من فتحة بجلبابه مجموعة من المفاتيح. أعمل أحدها في ثقب باب كبير كنت قد أسندت ظهري عليه. يقدم رجله اليمنى في دخوله، ويقول بصوت جهوري كأنه يخاطب أحدهم ضعيف السمع:
    - باسم الله.
    يسحبني خلفه برقة. نتجاوز قاعة كبيرة استلقت زرابي مزركشة على أرضها، وتوسطها محراب يتثاءب.
    وقفنا في ساحة كبيرة احتلت فسقية كبيرة مركزها. أشار لي بيده جهة باب مشرع ثم قال:
    - نظف نفسك هناك يا صغيري.
    الرائحة لاتطاق. بول السكير، وبولي، وبول السماء وصفة لاأنصح بها أحدا.
    أما الشيخ الطيب فقد كانت تفوح منه رائحة الطيب والمسك. أدخل الميضأة. أشرع في رش وجهي وأخلل بأصابعي شعر رأسي وأذني. يصلني صوته العذب يقول:
    - إنزع ثيابك يا وليدي، وطهر كل جسدك.
    أبدأ في التخلص من أسمالي. أمرر يدي المبلولة بالماء البارد على كل جسدي. أكتشف أني أحمل أكثر من يدين في الوقت الذي تطوق المكان رائحة طيب. أحس قوة غريبة تطرحني أرضا، وجسدا يمتطيني ويمزقني. أنفاس قوية تخز قفاي. شيء صلب يفتك بؤخرتي. ألمي الكبير الذي لازمني مذ وصولنا هاهنا يتألم. أشهق. أود أن أصرخ. لطمة على خدي تمنعني من ذلك. مستجدياً أقول:
    - إنك تؤلمني. ليس من الخلف رجاء.
    سائل ساخن يسيح بين فخذي. مؤخرتي ملتهبة، حارقة. تجلدني. أبكي ألما. لاأفهم لمَ يفعلون بي هذا؟ أنا طفل، ولم أسئ لأحد. لماذا؟
    من مكبر صوت ينتشلني صوت الشيخ الطيب يدعو الناس ليستفيقوا من نومهم ليغنموا. أتساءل: هل ليلحقوا بي في الميضأة؟ لا. أنا أتألم. رجاء. لاأحد بعدك أيها الطيب. لن أستطيع تحمل المزيد. يقف على رأسي، وأنا مستمر في انزوائي وانكماشي على بللي وجرحي. يقول بصوت آمر:
    - تختبئ هنا. وحالما أفرغ من عملي سأعود إليك.
    هناك عودة إذن يا شيخ. أين ذهب صوتك الآخر؟ لم يمهلني وقتاً بل استدار عائداً إلى القاعة الكبيرة التي أخذت تمتلئ برجال يتثاءبون. يقفون صفوفا خلف الشيخ الذي يطلق صوته البشع منشدا كلمات غريبة. يقوم بحركات لاتقل غرابة فيقلدونه. أراهم جميعاً ينطحون الأرض بجباههم. لاشك أنهم يكرهونها ويكرهون سكانها. هم أتباع ساكن السماء إذن!
    قشعريرة باردة تملأ فراغات جسدي وروحي. أحس قلبي يرتعش ويكاد يقفز من بين ضلوعي. تجتاحني رغبة في أن أرتمي في حضن أمي. نحن متشابهان إلى حد بعيد.
    أذكرها مشرقة الوجه في قريتنا. لاتغادر البسمة محياها. أين تراها الآن؟
    ترتفع أصوات منكرة في الجوار. حلقة توسطها شيخ ترطن بكلمات لم أتبينها. أذكر شيئاً مثل هذا في قريتنا. كنت بعد صغيراً بيد أن ما حدث ذاك اليوم ما كان لينسى حتى من قبل الأجنة.
    أسرة صغيرة تقتات الحاجة وتلوك الضجر. أمعن القدر في جلدها بأن أصابها في صغيرة بالكاد قبّلت ربيعها الحادي عشر. كانت تنتابها نوبات تفقد على إثرها وعيها، وتترك أبويها في وهاد الحيرة السحيقة. ينداح أمر الصغيرة بين الجيران إلى أن يصل حدود قريتنا الملمومة على نفسها، خاصة بعد أن تطاولت أيادي أزماتها لتمسك بخناقها خارج بيت أسرتها.
    وفي كل مرة، يتحلق الجميع حولها، ونظرات الأسى وقلة الحيلة وعدم الفهم تنط من عيونهم. كنت شاهداًَ على ذلك أكثر من مرة.
    كان الرأي الغالب يقول بأن روحاً شريرة تلبست بالصغيرة، وهي تجد متعة لاتقدر في تعذيبها أمام الناس.
    عمنا الشيخ، وهذا لقبه في قريتنا ولايعرف أحد اسمه الحقيقي ولايجوز له أن يناديه بغير ذلك، أخذ على عهدته أمر الصغيرة، فاختلى بالروح الشريرة التي تسكن جسدها، وأكد أنها روح جبارة لملك من ملوك الجن من النوع الرمادي، وهو نوع جديد مستنسخ من النوع الأحمر والأزرق، ويمتاز عنهما بالقوة والبطش. دامت جلساتهما طويلا، خرجت بعدها الصغيرة أكثر سوءا من حالتها الأولى، إذ امتنعت عن الكلام والأكل والشرب، كما امتنعت عن اللعب مع أترابها.
    لم تدم حالتها تلك طويلا حتى تناهى إلى آذان أهل قريتنا صدى صرخة قوية موجعة صدرت عن بيت والديها، وكان مصدرها صدر أمها.
    ماتت الصغيرة وانتصب سرادق كبير ضج بكل أبناء قريتنا الحزانى على رحيلها. وتزعم عمنا الشيخ قداسا مهيبا لمرافقتها إلى سكناها الأخيرة، وهو يردد أن الجن الرمادي لايدع من تلبس به حتى يفتك به. توسط حلقة ضمت رجالا عميانا أخذت أجسادهم تتمايل مع رطنهم بكلام غريب بين وجبتين.
    أما النساء فاحتشدن في بيت أسرتها يواسين الأم التي لم تكف عن نحيبها صارخة بين شهقتين:
    - قتلها المجرم اللعين.
    كن يهدئن من حدة ألمها بأن يقلن كلاما غير ذي معنى:
    - أما سمعت أنه جبار وهو من نوع لايرحم.
    كنت مع أمي بعد صغيراً، بيد أن هذه الصورة نقشت في ذاكرتي رافضة أن تخضع للزمن. وترد عليهن:
    - اغتصبها الملعون. أخبرتنا كل شيء قبل موتها.
    وتقول أمي:
    - أنت امرأة مؤمنة، والمؤمن مصاب.
    آلمني صوت ألمها، فتركت البيت لأجدني في سرادق العزاء حيث عمنا الشيخ وأصحابه العميان يتمايلون متجشئين. أب الصغيرة يبكي بحرقة، والرجال يعمدون إلى مواساته. يقوم من مجلسه. يقصد عمنا الشيخ. ينزل سرواله أمام استغراب الجميع. يكف عمنا عن القراءة. يكف العميان أيضاً كأنهم ليسوا كذلك. يتبول الأب على رأس عمنا وسط استغراب الجميع. يطلق رجليه فارا أو قاصدا مكانا غير معروف، وهو يقول:
    - نلت من الجن الرمادي.
    كانت تلك آخر مرة يُرى فيها في قريتنا إذ أخذته الريح في مساراتها العجيبة التي كانت كل يوم تبعده عنا أكثر.
    قالوا إنه فقد عقله إذ فقد ابنته التي أحب كثيرا. وقالوا إن عمنا الشيخ قيض ضده عفريتا بنفسجيا وهو نوع مستنسخ من خدام عمنا الشيخ، يمتاز بالامتثال الأعمى والبأس، انتقاما للإهانة التي لحقته في سرادق العزاء.
    وقالوا إنه لم يتحمل العيش في قريتنا التي شهدت عذابات ابنته وموتها المشؤوم.
    وقالوا أيضاً إنه أخذ عهداً على نفسه ألا يتوقف عن العدو، وألا يكلم أحداً، وألا يأكل أو يشرب وألا يلعب مع أترابه حتى يلحق بابنته.
    وقالوا... وكثيراً ما قالوا. ذكروه كثيراً كلما رأوا امرأته التي دخلت شرنقة هذيانات لم تخرج منها أبدا. صارت ترى وحيدة في الطرقات. لاتتكلم كثيرا، وإذا فعلت فكل كلامها كان عن عمنا الشيخ الذي عادها الليلة الماضية أيضاً وفعل بها ما فعله بابنتها الراحلة.
    أكاد أسمع صوت ابنتها تقول متوسلة شبه باكية:
    - إنك تؤلمني. ليس من الخلف رجاء.
    ماتزال تلك الأصوات تمزق سمعي. الشيخ الطيب يتوسط حفنة من الرجال، ويقرأ بحماسة كبيرة. أدنو من حلقتهم. أنزع سروالي. أتبول عليه. أعدو بكل ضعفي. يلحقون بي إذ تطير مفاجأتهم. كلمات قراءتهم تتطاير بشكل غير متناسق. يتقهقرون خلفي، وينال التعب من ركبهم وأجسادهم الخاملة. مؤخرتي الملتهبة وضعفي يدفعانني إلى الإسراع ويبعثان في جسدي طاقة خارقة.
    أقهقه ملء العنان، ويرتفع صوتي فرحاً:
    - نلت من الجن الرمادي.


    ثم ماذا؟
    الليل يعريني والنهار هنا يكشفني. أتنقل وحيدا من قمامة إلى أخرى. القساة يتشابهون، ووجه أمي بدأ يتلاشى من ذاكرتي. نخلتي تقف شامخة تدعوني إليها. لست أذكر عدد المرات التي راودتني فكرة العودة إلى قريتنا لأرى عن قرب ما حل بها، بيد أنه في كل مرة يقف أمامي مانع يترك في نفسي غصة خرساء.
    لاأعرف كيف الخروج من هذه المدينة المتاهة. الطرقات متشابهة والقساة حيثما وليت وجهي والطيبون خلف ظهري يتربصون بي.
    يكبر في نفسي أمل أن أعود إليها يوماً غانما. حلمت بذلك عدد غفواتي القليلات. رأيتني أدخل القرية متوجا، وأعرف طريقي جيداً إلى حيث ولدت، وحيث جلست تحت ظلال نخلتنا. عدت إلى قريتنا وقد صرت أملك مالاً كثيرا.
    أعدت شراء كل شيء. كل الأراضي التي سلبت منا، واستدعيت كل أهل قريتنا وأعدت لهم أراضيهم جميعا. كان ذلك في خيالاتي الجامحات فقط.
    شفتاي مشققتان، ولساني متيبس، وأمعائي ترسل مواءها، وأنا أقف في شارع عار أمام واجهة زجاجية أخرى لأناس يأكلون. ما أكثر ما يأكل الناس هنا، وما أشد جوعي!
    يخرج طفل أطول، وأكبر مني قليلاً. يناولني خبزاً محمصاً به قطعة لحم وبصل مقلى. ابتسامة واسعة تستوطن عيني وأنا أحشو فمي بشراهة بخليط اللذة الذي بين يدي. آتي على كل ذلك في زمن قياسي. كان ذلك شهياً جداً حد أنه سد جوعي ولم أنتبه لطعمه. الطفل مستمر في التحديق بي، وابتسامة تعلو محياه. عندما رآني انتهيت مد لي سيجارة وهو يقول:
    - ليس هناك أفضل من سيجارة بعد الشبع.
    كان رجلاً يشبه الأطفال، بيد أنه تحمل مسؤولية نفسه باكراً ككل الأطفال التعساء. ألفيتني أتقاسم معه الوجع نفسه. دعاني إلى بيته. تراجعت إلى الخلف مذعورا، بيد أن الفراغ والوحدة القاتلين أخذا بيدي في تعقبه.
    ولجنا حيا مكتظاً يشبه ذاك الذي قادنا إليه والدي ذات رحلة. هنا أيضا النظرات القلقة الشرسة نفسها والوجوه ذاتها التي دبغتها الشمس. يقتادني إلى جحر صغير. أفاجأ بكثرة ما حوى من أشياء جميلة. أنقبض على نفسي صامتاً عندما أغدو وجها لوجه معه. يتمدد جواري ويدعوني أن أفعل مثله. أرفض بأن أهز رأسي، وبقايا ألم مؤخرتي تلسعني. تند عنه بسمة صافية. يقول:
    - أنت أيضاً؟ لقد فعل بي الشيء ذاته، وأعلم ألمك. لاتخشى شيئا.
    الكوابيس تزحف واطئة على ممالك أحلامي التي تخسأ من أمام نوافذ نومي المشرعة على السواد القاتل.
    ينام بدعة جواري. أنفاسه المنتظمة تصلني كلحن عذب. التعب يأخذني إلى النوم بيد أن الخوف يسلبه من جفوني.
    صباحاً، أستيقظ على حركته الدؤوبة، وأشرع عيني على بسمته الحانية. لم أكن بمثل سعادتي ذاك اليوم أبدا حتى إني لم أضطر إلى الاعتذار عن بولي. هو طيب فعلا.
    نمشي معا. الطريق طويلة مضنية. نغازل المحافظ التي تطل من مخابئها السرية وتختار مرافقتنا دون أن تحدث جلبة. قال معلمي:
    - أن تسرق خير من أن تمد يدك. الكل يسرق في هذه المدينة.
    أشار إلى صاحب المدينة الذي تلوث صوره كل المدينة قائلا:
    - ...بدءاً من هذا القواد.
    دواخلي ترفض أن تمتد لما ليس لي، غير أني مجبر على فعل ذلك وإلا قضيت جوعا في هذه المدينة الملعونة.
    بدأت مشواري معايناً لخفته ومهارته، وبعد أن تشربت كل تقنياته وأساليبه صرت مساعدا له، لأنتهي نشالاً لم تأت المدينة بمثله أبدا.
    كانت مكانته في عيني أكثر من أخ. بل صديق فعلي. فالصديق تختاره ويختارك بينما يفرض الأخ عليك. أحببته فعلا. لست أدري ما كانت تصنع بي الطرقات بدونه. أخذت أتعافى من جراح الجسد، وأحلم كل ليلة بأرضنا والنخلة رافعة رأسها إلى العنان، وأمي التي ضيعتها الطرقات، ووالدي برائحة بول الجمال التي تصدر عن فمه لتجعله أكثر قسوة من المعتاد. أجمع عزمي في صرة أودعها نفسي، وأقسم أنه سيأتي يوم أتوقف فيه عن سلب الناس أشياءهم لأني جربت معنى الفقد مع اختلاف بسيط. لكنه الشعور ذاته بالمرارة.
    نكبر في الأسواق والحافلات والشوارع المزدحمة، ومحطات القطار ودور السينما وملاعب الكرة وخلف الشحاذين وأمام الحانات وداخل المشافي، ويأخذني قدري إلى النقطة ذاتها كل مرة.
    أفقد صديقي في شجار لم أحضره. وأستعير طريقي وحيدا مرة أخرى. لكن ما فائدة كل ذلك الآن؟

    يذكرني جلوسي هنا وانحشاري بأول مرة قبضوا علي فيها. كنت بعد صغيرا، ولم تتمكن أصابعي من التحرر والانطلاق. فضحني ترددي وتشنجي فتحالف ضدي كل ركاب حافلة مشؤومة. أوصلوني إلى المخفر دامي الوجه. هناك قام رجال الشرطة بممارسة حقهم وأخذ حصتهم حتى انتهيت بعظام مكسورة محشورا مع أجساد أخرى أكبر مني في مكان يكاد ينفجر بنا.
    ليت الأمر وقف عند ذاك الحد، إذ أني استعدت ذكرى ألمي ورجوت أحدهم قائلا:
    - ليس من الخلف رجاءً.
    وحيدا عشت وألفت وضعيتي كذلك. لم أبحث عن والدي أو أمي على الرغم من علمي الأكيد أننا نعيش المدينة ذاتها. أكلني الحنين في إحدى المرات، فقصدت الحي الذي ألقانا فيه والدي ذات مساء حين صرت الخبير بكل أحياء المدينة. أتوجه إلى الجحر الذي شغلناه في أيام تواجدنا الأولى. أضرب الباب المتهالك. يطل شبح غائم النظرات. شيخ هزيل تفوح من فمه رائحة بول الإبل. يسعل بقوة، ثم يقول:
    - من أنت؟
    - إنه أنا.
    - من أنت؟
    هو مسخ من صورة استوطنت ذاكرتي:
    - عمي العربي؟
    كان العربي أو فضلاته يصرخ في وجهي بحرقة:
    - أخطأت العنوان والشخص. أنا لا أحد ينتظر قادما آخر غيرك. أغرب عن وجهي.
    حزينا أسلك الطريق ذاتها التي سلكتها أسرتنا الصغيرة، حتى إذا بلغت حيث ألقى والدي بأمي وأمرها أن تفعل ما تؤمر به، أتوقف أمام مشهد النساء المصطفات على قارعة الاستجداء. أتفحص ملياً وجوههن. كانت متشابهة جدا. لم تكن أمي هناك. يستوقفني وجه امرأة تحمل شيئاً من أمي. تلتقي نظراتنا. حبل ممدود لايود أن ينقطع. أقصدها بخطوات ثابتة. أقف قبالتها مباشرة. أمرر كفي على وجهها. لاتبدي مقاومة. هامساً أقول:
    - أمي.
    تبتسم في وجهي وتقول:
    - لمَ لا؟
    في المساء كانت تقتسم معي غرفتي وسريري. كنت سعيداً أني استطعت تخليصها من رجل سيؤلم مؤخرتها تلك الليلة على الأقل.

    عندما ذهب بعض غضبي على والدي الذي تسبب في مغادرتنا لقريتنا عدت إلى المرآب حيث كان يعمل. كنت أود مراقبته من بعيد لكني لم أجده إذ كانت تقف مكانه امرأة لم تكن أمي.
    صحبت قدري الذي صنع مني ما أنا عليه اليوم. بالمدينة كانت ولادتي. فطمت سريعا عندما أضحى لكل منا طريقه التي تصحبه إلى قدره. لم أختر طريقي أبداً. صغيراً ووحيداً في مدينة لاتبتسم إلا في وجوه أبنائها البررة. أدركت مبكرا أنني شقي، نلت ما يكفي من سخطها، وأخذتني الريح في أعنتها. مددت يدي في البداية ونلت ما يكفي من اللطم. حركت أصابعي في الأسواق وأطلقت رجليّ للريح، لكن المكان كان مزدحما في تلك الحافلة اللعينة. ولدت مرة أخرى في السجن من رحم القسوة والحرمان. رأيت نماذج بشرية لم أحلم أبدا بوجودها. تعلمت هنالك أشياء كثيرة، وآلمتني مؤخرتي كثيرا إلى أن تعودت فجادت علي الأيام بالنسيان. لكن أهم ما تعلمته هناك، هو أن هناك حي لميت مثلي. وما إن غادرت السجن حتى قصدت حي اللصوص. هناك بدأت حياتي الجديدة. مهنتي معقدة على غير ما تبدو عليه عادة. تعلمت أن للخوف رائحة تشعر بها الضحية، وفهمت أن للعيون لغة قد تكشف كل شيء للضحية. ترعرعت نشالا أحرز التقدم حتى صار يضرب بي المثل. لكني لم أكن أبدا راضيا على مهنتي هاته. فكلما طرق أبوابي الحنين إلى ما كنت عليه في قريتنا، تجلدني سياط الندم.
    أذكرني وقد بدأت القروش تسري في جيوبي. لم أكن أعرف ما أصنع بها غير تجنب أكل النقانق. لم يكن لي صديق غير قروشي. لاأثق في أحد ممن حولي. عدت للسجن، وتعلمت أن الحذر لايقي من شر القدر. كان عودي قد اشتد قليلا، والتأمت جراح مؤخرتي فنقلت الدرس إلى أحد الصغار. هكذا هي الحياة. دورة متصلة وحلقات مشدودة إلى بعضها البعض. وعدوى الأشياء تنتقل من شخص إلى آخر. وفي كل مرة تتعلم شيئاً جديداً أيا كان موقعك، سواء فوق أم تحت، الفاعل أم المفعول به. تعلمت هذه المرة لم كان زفير من لقنني الدرس حارا وكأنه بكاء أخرس. اصبر يا بني ستتعلم كل شيء، وما من جرح لا تتكفل به الأيام. كن قاسيا مع من ستنقل له الدرس.
    استمر الكابوس ذاته يعودني كل ليلة، ويشرع عينيّ على فظاعات كثيرة. حلكة مقيمة، وأشباح تصدر حركتها أصواتا مفزعة. كنت أستفيق مفزوعا في بطن الليل ولم تنفع كل أنواع الحبوب التي اشتريتها وسرقتها في جعل حبل ليلي شريطا موصولاً. وكان سببا إضافيا لأنبذ وأقضي الليل وحيدا. فقد هجرتني آخر امرأة بعد أن صارحتني ألا طاقة لها على النوم جواري. قالت لي وهي تجمع ما أهديته إياها من سرقة بنات الأحياء الأخرى: - يمكنني أن أصبر على البول، لكن الصراخ مزعج حقاً. قد ينتهي بي الأمر بأن أصاب بسكتة قلبية.
    كنت، وما أزال أخشى الوحدة جداً. فقررت أن أضحي قليلاً حتى أنعم بحياة أفضل، وأتخلص من كابوسي وبولي، وذلك بالكف عن تحريك أصابعي. تبت وأقلعت عن ذلك. وصراحة فقد اختفى كابوسي بعد الليلة الرابعة، بينما كنت أعلم ألا شفاء من البول. أمضيت أسبوعا دون أن أسرق أو أنشل. وفي ثامن أيام توبتي، وبينما أنا أتجول بأحد أحياء المدينة، لمحت عجوزاً تجر كلباً من تلك الكلاب التي هي عبارة عن وبر كثيف، يتحرك في كل مكان. لاأدري ما الذي دفعني إلى أن أقصده وأخطفه منها. إلى اليوم لم أجد تفسيرا لما فعلته آنذاك، فقد انتهى بي مشواري، وأنا ألهث ممسكا بقطعة وبر كثيف لاتعلم ما الذي أصابها. لم أجد ما أصنعه به فخلصته من الشريط الذي طوق عنقه، وتركته يجابه مصيره في المدينة كإخوته الآخرين. كنت أعلم أنه سيشقى قليلا لكنه سيهتدي أخيرا إلى حي الكلاب. وددت أن أنبهه إلى أن ينتبه إلى مؤخرته لكنه اختفى وسط سيقان المارة. لم أفهم فعلاً لمَ قمت بذلك؟ فسرت الأمر في حينه، أني تعاطفت مع الكلب وأردت تخليصه من معاملة العجوز له. خمنت أنها كانت تجبره على أكل طعام معقم وصحي تشتريه له من الأسواق التجارية الكبرى، وتأخذ ثمنها ليلاً حين تضمه إلى صدرها، وتطلب منه أن يفعل معها الفاحشة. الفاسقة! لكني اهتديت إلى تفسير آخر، وهو أني كنت أبحث فقط عن سبب يعيدني إلى المهنة التي أعرف ويلقيني إلى وهدة كابوسي الذي اشتقت إليه.

    يحفل حي اللصوص بالحكايا الغريبة والعجيبة. أرهفت السمع يوما في مقهى خفاف الأصابع، فوصلتني حكاية غريبة عجيبة. يقول صاحب الصوت إن اللصوص أنواع، وأننا لسنا جنسا معزولا أو صنفا من أصناف البشر الكثيرة، بل إن كل الناس يسرقون، ولكننا نملك الشجاعة لقول إننا نفعل ذلك بينما يختفون هم ويستترون خلف مظاهرهم، وأيضا الطرق التي يسرقون بها. أتفق معه تماما!

    سمعت أنه لتغتني في هذه المدينة، عليك أن تسرق مصرفاً أو شحاذا. يضيف صاحب الصوت هامساً بعد أن ينظر جانبيه محاذراً لأن في ما سيقول خطر كبير على أمنه وحياته، ولكن لابأس، مادامت الحكاية شهيرة في أماكن أخرى، لكن لاأحد يجرؤ على إعلانها. يقول إن صاحب المدينة سارق أيضاً. أخذ المدينة يوما معه في إحدى رحلاته الكثيرة إلى بلاد الشمال، فسرقت من جيبه عندما كان يهم بصعود وسيلة نقل اجتماعية كأنما ليبرر للجميع أن الكل في المدينة فقير حتى هو، فبرهنوا له هناك، أن اللصوص متواجدون في كل مكان. وصاحب الطابق العلوي لص مقتدر فعلا!
    لست نادما على شيء إلا على هذه الورطة التي ألقيت نفسي فيها. قد يكون هذا البدين رجلا مهما وسيكتشفون بطريقة أو بأخرى مكانه، وسيمسك بي أعوانه حين يخلصوا إلى أني سرقت حافظة نقوده ليسلمونني إلى الشرطة دامي الوجه.
    كم أكره المدينة!

  9. #9
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي


    5
    أتنفس بعمق. أحاول أن أخفي ربكتي الجلية، وأستجدي الهدوء من ممالكه الشاردة عله يسعفني، ويأخذ بيدي إلى هدأة نفسي المضطربة.
    هكذا نحن دوماً. نحلم بأشياء جميلة ما أن تنجلي أمامنا أو تبدأ في ذلك حتى تخيفنا وتربكنا؟ لكن لمَ الخوف و ممَ؟ لاشيء يستحق ذلك فعلا. ربما يعود الأمر إلى زوجي اللعين. سأعرف كل أسراره، وأسترد حقوقي المسلوبة كاملة مهما كلفني ذلك من ثمن. وللبدء في مشروعي، كان علي معرفة ما حاول إخفاءه عني. كان والدي يعيد على مسامعي دوماً أن معرفة العدو تيسر سبل هزمه، لأجل ذلك هاتفت هذا الصباح مكتب تحر خاص. تواعدنا على الالتقاء في شارع خلفي ضيق. أردت الاعتصام قدر إمكاني بالسرية والحذر. من يدري؟ ربما قيض الخنزير أحدهم خلفي.
    لم أتوقع أن يكون التحري بهذه الوسامة والبراءة. كانت الربكة بادية عليه أيضا، مازاد توتري، خاصة أن حارس المرآب لم يكتف بمراقبتنا عن بعد، بل جعل يطوف حول سيارتي أكثر من مرة. في الحقيقة، هو من دفعنا إلى الدخول إلى هذه المقهى البئيسة. ربكة التحري جعلتني أخمن أنه لم يعتد الجلوس إلى امرأة في مكان عام، ربما يفعل كل شيء في السر كما عمله، لهذا لن أفاجأ أن يكون المسكين من ممارسي الجنس السري. يقابله كفه ليلاً ويخجل منه نهارا.
    المقهى بحجم علبة كبريت، بالكاد تستطيع تحمل أربعة زبائن دفعة واحدة إذا ما اختار كل واحد منهم الجلوس وحده إلى تلك الكراسي الخشبية المدهونة باللون الأخضر في حين اختير الأحمر للطاولات. يذكرني الأخضر والأحمر بعلم مدينتي المقرفة. المقهى مكان عادي جدا. لاشيء فيه يستحق أن يجلب زبوناً محترماً إلا من وقع بالخطأ في مثل هذا المكان، مثلي تماماً، أو من أراد أن يتحصن من مجهول يتعقبه، مثلي أيضا.
    يتقدم منا نادل طويل القامة وقح النظرات، رقيق العظم، غليظ الأنفاس. رائحته الكريهة استطاعت تعكير كل أجواء حواسي. هناك أشخاص هكذا، مجرد رؤيتهم تجعلنا نسقط في شراك فتنتهم وتأثيرهم فنحبهم، (أعترف أني لم أجد أحداً بعد)، وهناك الآخرون الذين يمرقون دون أن نسمع لخطوهم وقع، ودون أن يخلفوا وراءهم أثراً أو ذكرى كهذا الشاب تماماً.
    ثم هناك أشباه هذا النادل، الذين ما إن تصطدم بهم حتى تعاود اكتشاف القرف.
    مذ وطئت قدماي هذا المكان، واستقبلتني هامته المنحنية ووجهه الذي تنط منه بلادة صافية حتى تسرب إلى مسامي شعور بالضيق والانقباض. كان من الممكن أن أنزع نظارتي لكني آثرت الاحتفاظ بها حتى أمنح لعيني راحة غابت عن نفسي. أخمن أن هذا النادل الغبي يتمتع براحة نفسية كبيرة لعمله، وينام قرير العين. هو بلا شك يقتطع أجزاء كبيرة من إيراد المقهى لجيبه المخروم، ولعاهرة تسد رمق كبته.
    أخرج من حقيبة يدي الصغيرة صورة صغيرة لزوجي، أمدها إلى الشاب قائلة:
    - هذه لزوجي الذي حدثتك عنه، والذي أشك أنه يخونني. أعتمد على سرية عملك وكتمانك.
    فكرت مضيفة وابتسامة واسعة تستلقي على عيني المختفيتين خلف النظارة الكبيرة، ككل الأمور الأخرى الخاصة بك. العادة السرية مثلاً.
    بدا عليه الحماس وهو يقلب الصورة بعينين خبيرتين في حين منحت لنفسي حرية غابت عنها طويلاً لاكتشاف المكان الذي كان ممعنا في هدوئه حد الريبة، كوجه ذاك الرجل الشارد، الذي بدا أنه لم ينم منذ الأزل. نظراته فارغة جداً. وقميصه الأبيض غير مكوي. يكتب بالشراهة نفسها التي يدخن بها. تابعته مذ كان عائداً من المرحاض. لاشك أن سيلان البول يمنعه من النوم ليلا. فكرت أنه عاشق به لوثة في دماغه إذا كان مايزال مؤمناً بجدوى رسائل الحب والشوق في زمن لايعترف إلا بالمنفعة والمصلحة. أعرف حالته جيداً، إذ كادت ترديني مثيلتها إلى موت رأيته في ماضيَ البعيد. كنت على عهدة الحب وزميل لي في مقاعد الجامعة والأرصفة والحدائق العامة والوهم. خانني المأفون واختار أخرى. ظللت مدة طويلة سجينة مماطلته وضغط والدي علي. كان والدي يريد أن يوثقني بفاشل مثله. حاولت مرة أن أنقل لحبيبي الجبان ما كان يدور في بيتنا. لم يمهلني فرصة لأكمل حديثي، إذ عبر إلى الجهة الأخرى مهرولاً. حاولت تعقبه والإبقاء على ما كان بيننا بيد أن السيارات المارقة من هناك بجنون منعتني كما حذائي القديم وخطواته المسرعة. رأيت إحدى تلك السيارات تصدم كلبا وخشيت على نفسي إذ كنت متوهمة أن بإمكاني اللحاق به. ولم أكن أدري أنها المرة الأخيرة التي أراه فيها. حاولت جاهدة الالتقاء به، إلا أنه قام بكل شيء ليتفاداني. كتبت له رسائل بعدد المرات التي قال فيها أحبك، وما أظنه قرأها إذ حسبت أنها ضاعت في الهوة التي خلفها فراره وهبلي. كنا نؤمن بأن طريقينا تتقاطعان هناك حيث الحب. سرت حيث من المفروض أن نلتقي فلم أجد غير الفراغ والغياب.
    بعد فترة وجيزة، لمحته ينط من قناة المدينة كمقدم للأخبار، وعلمت من صحف أخبار النجوم أنه تزوج من عجوز ثرية. خمنت أنها تملك علاقات نافذة، وأكثر من حذاء وأقنعة شتى مثله تماما.
    كانت أحلامنا بسيطة جداً ولاتحتمل أن يبيع نفسه بتلك الطريقة. لربما العيب في نظري الضعيف وشوقي له. قد يكون اختلط الأمر علي، ولم يكن هو فتى الأخبار، ربما حتى أجد لنفسي عذراً لسقوطي المفاجئ.
    لست أدري لمَ انتابتني رغبة ملحة في أن أقوم إلى هذا العاشق المأزوم لأقول له ألا فائدة ترجى من رسائلك الكثيرة. لاترهق نفسك وتستهلك قواك. ستطل عليك حبيبتك الخائنة يوما ما من جهاز التلفاز كمقدمة للنشرة الجوية، حين سيسقط قناعها الحقيقي، وينحسر وجه الحب المشوه. حينها سترغب عن مشاهدة التلفاز وستوليه ظهرك كما صرت أفعل منذ مدة طويلة.
    أتساءل دوماً هل كان كل ذنبي أني جمعت الفقر والحب في طبق واحد حاولت اقتسامه مع حبيبي الوغد؟ أكان كل ذنبي أني ابنة رجل فقير، جندي سابق في جيش تحرير المدينة من الغزاة إلى الغازي، حمل السلاح وخرذة من الأفكار للدفاع عن مدينة عاهرة؟
    كبرت وأنا أرى المرارة في عينيه هالة تتمطط كل يوم لتشمل حيزاً أكبر. حمل السلاح شاباً وقاوم الغزاة وساهم في طردهم، وشكل ذلك مفخرة للعديدين ومعرة له. كان يردد كل يوم تقريبا:
    - لوعلمت أن مآلها سيصير هكذا لما قاتلت. الغزاة كانوا أرحم بنا من أبنائها.
    أبصر رفاق الأمس يتحولون عن مبادئهم وشعاراتهم إلى تسابق محموم نحو الكراسي الوثيرة والمنازل الفخمة والأرصدة المكتنزة والنساء الشقراوات بعدما تخلوا عن رفيقات لهم سابقات كما تخلوا عن أحذيتهم العسكرية المغبرة.
    كان صمته يغدو مرضيا مع ارتفاع أصوات رفاق الأمس ينظّرون للمرحلة ويطبلون للعهد الجديد.
    أخطأته رصاصة في الجبهة، وأصابوه في القلب، ودمروا كل أحلامه الجميلات كما نسف حبيبي الجرو كل أوهامي القديمات.

    انتشلتني خطوات حارس مرآب السيارات، وجعلتها مناسبة لأختلس النظر إلى عينيه. أكتشف أنهما مضمختان بحزن أعرفه جيداً. لاشك أنه يتحدر من عائلة مقاوم فعلي حرر المدينة مع من فعل وقدمها قربانا لغاز جديد سيورثها إلى ابنه ومنه إلى ابنه إلى... هم في النهاية متشابهون. ما أسوأ أن يحكمك شخص واحد طيلة حياتك! تذكرني عيناه بأخي الذي تركته في مدينة الجحود المزمن.
    كان شاباً بطموحات أدبية معلنة، ولم يجد فرصة لإبرازها. كتب قصصاً فاشلة ومسرحيات سمجة لم تجد خشبة وممثلين ليجسدوا تفاهته فيها.
    يذكرني جلوسي بهذه المقهى البئيسة بجلساتنا الصافية وأحاديثنا الودية في البيت وفي مقاهي مدينتنا التي أجبرت على تركها. لم يكن بمقدوري أن أستمر هناك. رأيت المدينة تباع بكل ما حوت، بأهلها وتاريخها وحضارتها ومستقبلها، لرجل واحد ودفعوا الثمن. حيثما وليت وجهك فثم وجهه. التطبيل بمناسبة وبدونها. كرهت كل الآلهة التي تشبهه. كرهت كل مدينة تشبه مدينتي في استكانتها. وكرهت كل شعب مستسلم يشبه شعبها، سواء أقبل اليد أو الأنف أو الإست.
    أشعر ببعض الحرج إذ ألمح حارس المرآب يرميني بنظرة وكأنه اكتشفني في وضع مخل، خاصة أنه الوحيد الذي رآني أصل وحيدة بسيارتي. لاشك أنه سيفترض، كالآخرين تماماً بأني على موعد غرامي مع هذا الشاب الوسيم الذي اضطرني إلى انتظاره خمس دقائق كاملة، قبل أن يصل على دراجته الهوائية. فكرت حينها أنه لايملك قوة كافية ليصل في موعده المحدد. كل قواه استهلكها في رياضة أخرى يمنحها كل وقته. لاشك أني منحرفة قليلاً لأفكر بالعادة السرية مجدداً.
    بعد حبيبي الوغد برئت من الحب وتبرأت منه. تركت كل شيء خلفي وقررت أن ألا أعاود النظر إلى الماضي، كما تركت كل أوهامي التي أنجبتها منه. حلمت به دوماً فارسا يأتيني كل ليلة على حصان أبيض لينتشلني إلى جنته الخضراء، ولم أكن لأفاجأ إن تعسرت عليه سبل إيجاد وسيلة نقل ملائمة وحضر على دراجة هوائية بلا لون. ما آلمني في تصرفه أنه خلاني وحيدة في صحراء جرباء تذروني الرياح من كل جانب.
    تركت بيتنا حتى لاتفضحني بكارتي أمام عريس فاشل من طينة والدي يرى العذرية كل الشرف. يأتي ليلة الدخلة ليصنع الدهشة بينما به أمراض جنسية لاقبل لها بالعلاج. بعد البيت اتخذت قراري الحاسم. لامكان لي في مدينتنا.
    كانت حقيبة سفري حفنة من الذكريات الموجعة، وأسف على عاطفة بئيسة استهلكتني وأحالتني كائناً مفزوعاً يستكين للطرقات. جعلت الوجهة المجهولة تختارني، ورفعت أشرعتي للريح تسوقني حيثما تريد. قاومت أكثر من رغبة، ورددت أكثر من دعوة صريحة ومضمرة. كنت في ميعة الشباب لكن بكسور تشق لملمتها. أقسمت ألا أعاود السقوط مجددا، وقررت الانتقام من جسدي بأن أجعله لعبة بأيدي أجساد دائمة الزغب والشبق. كنت مستعدة للسقوط عند أول منعرج قاتل، بيد أني رأفت لحاله ولم أحمله مسؤولية ما حدث معي. أخذته معي في شرودي إلى الأمكنة حتى ألفينا نفسينا في بلاد الثلج والبياض. حدث كل شيء بسرعة لم أتخيلها، وأنصفتني الأقدار لأول مرة. لم أضطر للنوم في الطرقات والعراء، إذ ما إن وطأت المدينة ذاك الصباح الماطر حتى انفرجت أمامي سماء يشع منها ضوء بلون الأمل. كان الجوع يخز أمعائي، وكنت أملك لاشيء. وقفت أمام واجهة مقهى أرقب زبناءها المرتكنين إلى دفئها. لم أستطع أن أقاوم جوعي والبرد فقررت الدخول، والاعتصام بها. استقبلني النادل بابتسامة واسعة رأيت أنه بالغ فيها. رحب بي بلغة مدينة الثلج والبياض التي لم أجد صعوبة في فهمها إذ كانت تخصصي في سنوات الدراسة الجامعية. قادني بخطوات منضبطة إلى حيث يجلس كهل أنيق المظهر. مد لي يده فناولته يدي التي لثمها قائلاً:
    - تأخرت كعادتك عزيزتي.
    همست بلغة مدينتنا قبل أن أترجم ما قلته بلغتهم:
    - عفوا.
    ابتسم بود وهو يدعوني إلى الجلوس قائلا شيئاً مثل أني لن أتغير أبداً، وأنه لا علاج لي.
    وددت أن أشرح له أنه ربما أخطأ، وأن في الأمر لبس سينجلي عما قريب، بيد أن النادل الذي لايشبه في شيء هذا الذي أمامي هنا، منع عني ذلك حينما وضع أمامي، بحسبه، ما تعودت أخذه كإفطار. أرجأت شرح وفهم كل ما يقع لحين إخراس جوع بطني الذي ما عاد يقاوم.
    راقبني أجهز على ما قدم لي صامتاً. كنت أختلس النظر إليه مفتعلة ابتسامة بلهاء. كنت أخشى أن يكتشف خطأه قبل أن أنتهي فيطردني دون أن أكون قد بلغت شبعي، لكني استبعدت ذلك حتى لو كشفني، إذ بدا لطيفا جدا، بعينيه الزرقاوين اللتين يشع منهما صفاء طفولي، وخديه الموردين كعروس خجلى في مدينتنا، وشاربه الأبيض الخفيف كشعر رأسه المصفوف بعناية إلى الخلف. كان يرشف من فنجان قهوته السوداء، متطلعاً إلى تقاسيم وجهي بهدوء أربكني، ما جعلني أطلب إذنه للذهاب إلى الحمام حيث جعلت أرقب وجهي في المرآة. لا يمكن أن أكون أخرى. فأنا أحمل الوجه ذاته منذ رأيته يتشكل أمامي. ولايمكن أن أشبه أحداً آخر غيري. عدت والربكة تمتطيني بعدما وضعت في الحسبان مجموعة من السيناريوهات العاجلة للتخلص من ورطتي إن كشفت. دفع الحساب وهو يقول إننا تأخرنا وإن الآخرين ينتظروننا. ها في الحكاية آخرون إذن!
    أسلمت له نفسي بعدما خبت جذوة مقاومتي. صعدنا سيارته واتجهنا صوب مكان سأفهم لاحقاً أنه مسرح المدينة. كان عبارة عن بناية عظيمة استقبلنا حارسها هاشا، ولحظت أنه أحنى لي رأسه مبتسما بود. خمنت أنه خدع في شخصي أيضا، وتوقعت أني ما أفتأ أتورط في هذه الشخصية حتى تظهر الأخرى الحقيقية، واتهم بالخداع. كنت يائسة ومستعدة لفعل أي شيء مشين إلا أن أخدع مثل هؤلاء الناس الطيبين. على خشبة المسرح وجدنا أعضاء فرقة يتدربون. أوقفوا تدريباتهم لما لمحونا ندخل. عاملوني باحترام مبالغ فيه، ما زكى لدي فكرة أن الشبه كبير جداً بيني وبين الأخرى الحقيقية حد أنه أعمى أعينهم عن تلك التفاصيل الصغيرة التي تميز هذا عن ذاك.
    ردد أمامي اسم الأخرى الحقيقية فقبلت أن أستمر في لعب دور الأخرى الحقيقية. ألم نكن على خشبة المسرح؟ حتى المخرج الذي كان يقف خارج دائرة لعبهم ويوجههم انخدع في شخصيتي. حمدت الصدف مرة أخرى التي جعلتني أتعرف على المسرحية التي كانوا يتدربون عليها. كنت قد لعبتها صغيرة في المدرسة رغم أني لم أمل للتمثيل، إذ اعتبرني كل معارفي أحمل بذرة الشعر ستكبر لتغمر كل مدن الأرض. فهمت منهم أن الليلة ستكون أول ليلة تلعب أمام الجمهور بعد تحضير دام ثلاثة أشهر. انغمست في الدورين معاً، ونلت تصفيق المخرج والكهل الذي صحبني ذاك الصباح إلى المسرح. انتهينا من وضع اللمسات الأخيرة على العرض، وذهبنا إلى أحد الفنادق للغداء. بعدها صحبني الكهل الأشيب إلى مكان قال إنه منزلي. طوال تلك الفترة كنت أتساءل من يكون؟ وما الذي يلزمه بصحبتي؟
    وصلنا إلى المنزل. كان بناء جميلا من طابق واحد. تركني عند الباب وقال إنه سيدعني لأرتاح ساعتين قبل أن يعاود المرور، ليأخذني إلى المسرح. عاتبني مازحاً:
    - أليس من الأفضل أن نسكن معا حبيبتي، فتعفينني من عملي كسائق خاص.
    جلست على الدرج المفضي إلى الباب بعد أن غادر. سيكتشف أمري لامحالة. وصلت إلى مدينة الثلج والبياض هذا الصباح فقط، ومهما كان الشبه الذي يخدع أبصارهم، كيف يمكنني أن أحتل مكان سيدة أخرى، وفوق كل هذا ممثلة مسرحية معروفة. انزلقت من الشارع أكثر من سيارة، ومرت سيارة شرطة في دورية، جعل سائقها ينظر إلي فارتجفت في مكاني. لاشك أنه سيكشف أمري احتكاماً إلى حاسته البوليسية. سيتساءل حتماً ما الذي أفعله أمام بيت أحدهم في هذا الطقس البارد؟
    قمت من مكاني. نزلت الدرج محاولة أن أختفي إلى الأبد. شيء ما أوقفني عند نهاية خطوتي الثالثة، وأعادني إلى فوق في مواجهة الباب. وما إن وضعت يدي على مقبض الباب حتى فتح لمفاجأتي الكبيرة. دخلت الشقة بحذر شديد. حاولت أن أكتشف المكان. استقبلتني صورة كبيرة لشابة فاتنة. كانت شقراء بعينين خضراوين وجيد بارز ووجه أبيض بشفتين دقيقتين. كانت فاتنة حقا. خمنت أنها الأخرى الحقيقية. لم تكن تشبهني البتة.
    دخلت غرفة النوم فإذا أحدهم مسجى على سرير وثير. اقتربت أكثر محاولة ألا أثير حركة تجعل صاحب الجسد يستيقظ. ضوء كاب عفت عنه ستائر مخملية لنافذة تطل على الشارع جعلتني ألمح وجه الجسد النائم الذي كان نفسه الذي رأيت قبلا على الصورة مع اختلاف ظرفي بسيط. هي إذن نائمة ولابد أنها ستستيقظ ليعرف الجميع أني كنت أخدعهم. مهما يكن، فأنا لم أدع شيئاً، وهم من أرادوا أن ينخدعوا، ولاشبه بيننا البتة، على الأقل من وجهة رؤيتي الشخصية. حزمت أمري على المغادرة مخافة الانغماس أكثر في هذا المطب الذي ألفيتني داخله دون أن أخطط لذلك، بيد أني لم أستطع إذ صدرت عن الجسد حركة مفاجئة ما جعلني أختار التواري في زاوية مظلمة بالغرفة. أخذت الأخرى تتمطى، وهي تشرع عينين مثقلتين بالنعاس، ثم ذرعت الغرفة بخطى وئيدة. تسمرت في مكاني، وجمد الدم في عروقي وأنا أسمع صوتها تدندن بأغنية أحفظها جيداً. عندما استعدت أنفاسي وبعضاً من هدوئي حاولت التسلل، ليس فقط لأغادر بيتها، بل والمدينة أيضاً، إلا أني اصطدمت بها تخرج من الحمام عارية. كانت قد كفت عن الكلام. انتصبت أمامها مباشرة، متوقعة أن تسألني من أكون؟ وما الذي أفعله في بيتها؟ أو أن تصرخ طلباً للنجدة أو تهجم علي، بيد أن شيئاً من كل ذلك لم يحدث، بل مرت أمامي حتى دون أن تنظر إلي. خالجني شك قلق بأنها لم ترني، لكني بحجم كيس بطاطس، وشغلت حيزاً مهماً من الردهة، ثم إني قلت ربما هي لاترى. لكن كل شيء كان يوحي بأنها سليمة النظر بدليل أنها لم تتعثر في مشيتها ولم تجعل يدها إلى الأمام كما يفعل فاقدو البصر عادة في الأفلام. ولو أنها كانت لاترى بالفعل، لما تعذر عليها أن تشعر بوجودي من خلال أنفاسي وخوفي وبقايا عطري. أمسكت بمقبض باب غرفتها الذي تركته مواربا خلفي.
    حاولت تفادي طرح الأسئلة العقيمة ومحاولة الإجابة عنها، وقصدت باب البيت عازمة على الخروج مستعينة بالحذر نفسه الذي رافقني في الدخول. أخذت نفساً عميقاً عندما صرت في الشارع، وأقفلت الباب ورائي. استدرت لأفتح عيني دهشة حين وجدت الكهل ينتظرني بسيارته، وهو يقول:
    - على غير عادتك. لم تتأخري هذه المرة.
    ثم غمز لي بعينه.
    جلست جواره مستسلمة لهذا الاحتجاز الجميل. تحدث عن مسرحية جديدة يكتبها، وسأكون كالعادة بطلتها. كنت شاردة في كل ما يحدث معي فقدر أني أنصت لما يقول، فأفاض في الحديث عن دوري والحبكة حتى وصلنا المسرح. قادني إلى مقهى مرفقة بالبناية حيث جلس أعضاء الفرقة من ممثلين وفنيين وكذا المخرج والمنتج الذي فهمت أنه الشخص البدين. لماذا هم بدناء دوماً؟
    كان الجو ودوداً وبدوا مرحين جداً ربما للتخلص من ضغط العرض الأول. أما أنا فانقبضت في مكاني مفكرة في طريقة للتسلل من هذا الكابوس الذي أمسك بخناقي دون أن يقرر تركي. لاأستطيع أن أستمر في خداعهم هكذا، وعلى هذا الكهل أن يعود إلى الشقة لجلب الأخرى الحقيقية. ربما ستأتي من تلقاء نفسها حالما تنتهي من تغيير ملابسها وإعداد زينتها. كنت أتوقع أن تدخل في أي لحظة، وظل بصري مشدوداً إلى الباب. لكنها لم تحضر. في أثناء حديثهم قال أحدهم معلقاً على حالتي بأني لن أتغير أبداً، فأنا أعيش الدور يومين قبل يوم العرض الأول. أضافت أخرى:
    - حد أنها لم تغير ملابسها منذ يومين.
    لم يضحك أحد على تعليقيهما، وإنما اكتفوا بهز رؤوسهم لتأكيد ما قيل. بدوا يحترمونها جيداًُ، وهو ما زاد الأمور تعقيداً علي. كنت أدرك أنه إذا لم تدخل هي لتكشفني فسيتكفل بي عرض تلك الليلة. فعلى الرغم من أنه سبق لي أن مثلت في سنوات الدراسة الأولى، إلا أن جمهورنا كان من الأطفال والآباء الذين كانوا يتغاضون عن هفواتنا الكبيرة، ويتجاوزون عنها، أما الآن فسأكون على المحك.
    أخذت هواجسي تتقاذفني، وتلعب برأسي المتعب الذي لم أضعه على وسادة منذ يومين. أخذتني غفوة إذ تذكرت النوم. لم أستفق إلا في سيارة الكهل وقد حل ظلام كثيف لم يمنعه من الحديث عن إجادتي في الأداء، وكيف أني أتقنت تجسيد دوري، وأن المسرح وقف الليلة تقديراً لموهبتي الكبيرة، وأن المعجبين تدافعوا نحوي لأخذ توقيعي. و... استسلمت لحديثه ولطلبه بدعوتي على العشاء في أحد المطاعم الراقية.
    كنت شبه غائبة عن الوعي، ولم أستطع مسايرة ما يقوله خاصة أنه تحدث عن حب كبير يجمع بيننا، ومشاريعنا الفنية والشخصية المشتركة وأحلامنا المقتسمة.
    اعتذرت بلطف حين وصلنا إلى ما يعتبره بيتي، وأراد الدخول ليشرب معي كأساً كما قال، مخافة أن يفتضح أمري، لكنه لم يقبل اعتذاري بل فاجأني عندما أخرج مفتاحه وأعمله في الباب ليفتح. كنت شاحبة جداً وساخنة ومنفعلة أنه أخذ راحته في الكلام بصوت مرتفع. خشيت أن يوقظ الأخرى الحقيقية التي تنام الآن بلا شك في غرفة نومها. ألا تفعل شيئاً غير النوم والذهاب إلى الحمام والخروج منه عارية؟
    صب لنا كأسين، وأنا بالكاد أتابع ما يجري حولي. أمسك بخصري وقبلني قبلة طويلة تفاجأت أني اندمجت فيها بحرارة حتى كدت أنسى من أكون فعلا. همس أحبك جداً. ولم أقو على قول شيء. أخذني إلى غرفة النوم. فتح الباب. تسمرت مكاني وأنا أرى الجسد ذاته مسجى على السرير. قلت هامسة:
    - سأشرح لك كل شيء.
    لكنه لم يهتم بقولي، وأخذني إلى السرير وكأننا وحيدين في الغرفة. نمنا جوارها. مارسنا الحب جوارها. كنت أحاذر أن ألمسها حتى لاأوقظها. نومها ثقيل وهي لاتصدر حركة أو صوتاً أثناء سباتها العميق. استغربت أنه لم يلحظ وجودها حتى عندما أضاء ضوء الأباجورة وغادر إلى الحمام. استطعت التغلب على انفعالي دون أن أتمكن من استمراء اللذة التي استشعرتها أثناء ممارستنا. بدا جسده أليفاً وأحسستني أعرفه معرفة عميقة.
    استسلمت للنوم قبل أن يعود من الحمام.
    داهمتني استفاقة مبكرة على صوت الأخرى الحقيقية تستيقظ من نومها. كنا وحيدتين على السرير، وتأكدت أنها لاتراني ولاتشعر بوجودي في حيزها. أزاحت الستائر وفتحت النافذة. التقطت ورقة من منضدة مجاورة. ألقت عليها نظرة وأفرج وجهها عن ابتسامة رضى. كنت محتاجة للنوم فانزلقت إليه مجددا.
    هل أبالغ إذا قلت أني لم أتذوق نوماً بمثل ذلك الطعم والعمق طيلة حياتي السابقة؟
    لست أدري لكني أكاد أجزم أنه كان لذيذاً كقبل الأشيب الوسيم. وجدتني أفكر فيه مذ شرعت عيني. ألقيت نظرة على الورقة التي أخذتها الأخرى الحقيقية صباحا. قرأت فيها: "أيتها العذبة الرقراقة. إبقي دوماً مشرقة بسمائي. البارحة أيضاً أريتني جنتك التي لاتنبت تفاحاً. كم أعشقك! "
    قبلت الورقة ووضعتها على صدري. أيعقل ما يحدث؟ هل وقعت في حبه؟ لكني لاأعرف شيئاً عنه. حتى اسمه لاأذكر أن أحداً ناداه به أمامي. الأخرى الحقيقية قرأت الورقة أيضاً وابتسمت. لاشك أنها حبيبته، وأنها ظنت أن الورقة كانت لها وليست لي.
    غادرت السرير، والهواجس تتلاعب برأسي. غادرت مدينتنا إثر خيبة حب مزمنة. وفي أول ليلة لي بهذه المدينة الحالمة أسقط في حب كبير أنساني الأول. لكنه حب مستحيل. هو مبني على سوء تفاهم وخلط في الأشخاص. ثم إنه بلا شك يقصدها هي بمشاعره على الرغم من أنه قاسمني البارحة أوقاتاً ممتعة. لاأريدني أن أكون مجرمة وأفرق بين قلبين متحابين إرضاء لأنانيتي. قاسيت جداً من الحب، ومستعدة لتحمل هذه الضربة الجديدة.
    بعدما أخذت حماماً أنعشني وساعدني في الوصول إلى قراري الأخير، قصدت دولاب ملابسها. لابأس أن أستعير منها شيئاً فملابسها كثيرة وهي لن تلاحظ ذلك. فرحت جداً لذوق الأخرى الحقيقية. كنا متشابهتين إلى حد ما. فأنا أيضاً أعشق الأحمر والأسود، وأحب أن أزاوج بينهما فيما أضع من ثياب. أخذت حذري هذه المرة، فالمطر لاينقطع في هذه المدينة، وربما هذا يفسر أن زجاجة ويسكي لاتكاد تبرح منضدة الأخرى الحقيقية. قصدت الباب بعدما ألقيت نظرة أخيرة على البيت الذي احتضن البارحة ليلة من أغرب ما قد يصادف إنسان. حاولت فتحه بيد أني لم أستطع فعل ذلك. أعيتني المحاولات، ولم أستطع فهم هذا البيت الذي يمكنني فتحه من خارجه بينما يقفل علي من الداخل. انتهيت إلى أنه يتوجب علي ترك هذا البيت الذي صار أشبه بسجن. فكرت أن النافذة تركت مشرعة. عدوت باتجاهها، وشعور متناقض يتلاعب برأسي، فقد كنت فرحة أني سأستعيد حريتي أو تشردي، ولكن على الأقل سأمسك بقدري من جديد، وحزينة لأني لن أراه مجدداً إذ عزمت على ترك المدينة.
    حاولت أن أنط من النافذة بيد أني وجدت سيارة الشرطة نفسها التي رأيتها أول مرة مركونة قبالتي تماماً. وعلى الرغم من انهمار المطر، فقد تمكنت من رؤية وجه الشرطي بابتسامته نفسها. أنا سجينة إذن. استلقيت على السرير متعبة أعمل فكري، وشاخصة في الأحداث منذ بدايتها. في الحقيقة لم أنعم بخلوة أبداً، فمنذ أن سلمني خطوي وجوعي ونصبي والبرد إلى تلك المقهى، وأنا أسيرة في هذه المدينة. هل إلى خروج منها من سبيل؟
    كنت مرتكنة إلى هواجسي عندما سمعت باب البيت يفتح. قررت أن أبقى في مكاني المكشوف حتى يُفضح كل شيء، وأستطيع التحرر من كل هذه القيود التي بدأت أمل منها، ولو إلى السجن. دخلت مسرعة إلى غرفة نومها. أغلقت النافذة، وأعادت الستائر إلى مكانها دون أن يبدو عليها أنها لحظت وجودي. الأمر واضح إذن. هي لاتراني، وهو لايراها عندما يكون معي. فتحت دولابها، أخذت تبحث عن لباس تضعه. بحثت كثيراً، ثم زفرت بقوة، وجلست جواري واضعة رأسها بين يديها. كانت غاضبة من أمر ما. صبت لنفسها كأساً أفرغتها في جوفها في جرعة واحدة، ثم سمعتها تقول بصوت مسموع كأنها تحدث شخصاً غير مرئي:
    - هذا لايحتمل. سأرحل عن هذه المدينة إلى الأبد.
    فكرت في استغلال الوضع أيضا والرحيل معها. ذرعت الحجرة محاذرة أن أصدر صوتاً. وجدت المفاتيح قرب الباب لكني لم أستطع الحركة إذ فتح على الأشيب الوسيم. حبيبي.
    ارتميت عليه وقبلته بحرارة. قال وهو ينظر إلى عيني:
    - شكراً لأنك وضعت الثوب الذي أحب.
    تذكرت الأخرى الحقيقية. تذرعت بإحضار شيء من غرفة نومها. تفاجأت أن النوافذ مشرعة والستائر مزاحة والدولاب مفتوح دون أن يؤخذ منه شيء، والسرير فارغ. اقتربت أكثر من النافذة. كانت سيارة الشرطة قد غادرت.
    تساءلت لوقت طويل عن السبب الذي أجبرها على الرحيل، لكني خمنت أنها ربما تذمرت من شيء. أمضيت كل حياتي المتبقية بمدينة الثلج والبياض. بعد مدة قصيرة انتحر حبيبي لأسباب مجهولة، وترك في أحشائي قطعة منه. فتاة منحتها كل وقتي وحبي. غامرت كثيراً، وأحببت في كل مرة شخصاً مختلفا. ازدادت نجوميتي، واستقرت بي أشرعة الحب في مرفأ أحدهم. كان لطيفاً جداً، ولم يبال بفارق السن الذي كان بيننا.
    لم أشأ أن أغير بيت الأخرى بعدما أصبت شهرة ومالا، لأن غرفة نومها، وتحديداً سريرها كان جسراً يمكنني من خلاله رؤية ما حدث معها، فقد أخذتها ظلالها المفزوعة، وألقت بها وليداً في حياة أخرى لم تعهدها من قبل. حانات ومواخير وأجساد رجال. وضعت أربعة أبناء لم تعرف لهم آباء. اكتشفت يوما أنها تملك عائلة في المدينة التي استقرت بها. لم يستغرقها وقت طويل لتعلم لغة تلك المدينة. أودعت أخاها أبناءها ورحلت في أعقاب رجل آخر قرر خيانتها. كانت بلا مال، وكان الجسد المقابل الوحيد لكل ما يمكنها الحصول عليه حتى كرهته. أضحى سلعة موحدة تتقاضى من أجلها أوراقاً نقدية ملونة وبلا لون، مكتوبة وغير مكتوبة، سليمة ومزورة. بعدما أدركها الوهن فكرت في قبول عرض أحد المخصيين. كان العرض بسيطاً وواضحا. كان يريد امرأة يداري بها خيبته الكبرى. هو أيضاً اشترى جسدها بقسيمة زواج، وبمباركة الله.
    كان يعلم أنها تخونه كلما استبد بها الشوق إلى إذلال وتعذيب نفسها، ولم يقل شيئا. أخذ يطلب منها أن تساعده في صفقاته، موظفة رأسملها الوحيد، جسدها، والحصول على حصتها.
    رأيت في الأخرى الحقيقية ما كان ينتظرني، وعشت معها كل دقائق حياتها. تألمت معها حين كانت تتألم، واقتسمت معها أويقات سعادتها. أحسست أنها تعرف بأمري كما أعرف بأمرها. لكنه سرنا، وحديقتنا الخلفية المشتركة التي نسيج فيها أغراسنا. من يدري، ربما كنا شخصاً واحداً انشطر نصفين ليعيش في مكانين مختلفين، حتى إني أحكي حكايتها.
    أردت نجدتها وحضرت هاهنا لمعرفة تحركات الخصي، بخصوص أحد المشاريع الكبرى حين وصلها أنه يريد الاستئثار بها دوناً عنها.
    ألحظ حركة غريبة. يشير لي التحري السري إشارة خفية بعينه في اللحظة نفسها التي ألمح الآخرين يحولان عنايتيهما خارج المقهى. تشرع عيناي دهشة لما اصطدمت به. كان زوجي أو زوج الأخرى الحقيقية يتعقب فاتنة تمشي خلف أمها بينما يتبعه حارسه الشخصي كظل ممسوخ.

    أزدرد ريقي بصعوبة بالغة. الأمر فاق شكوكي إذن، فهو لم يكتف فقط بمحاولة الاستئثار بصفقة لوحده خلافاً لما اتفقنا عليه من قبل، بل هو يدبر لإيجاد شريكة جديدة، ويسرق مني تعب السنين. أتابعهم حتى يبتلعهم المدخل الخلفي لتلك العمارة التي دخلوها، بينما التحري السري يزفر بارتياح لأن مهمته أنجزت في زمن قياسي. بقي علي الدفع الآن. أتساءل:
    - كيف يحب أن يقبض الثمن؟

  10. #10
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    --------------------------------------------------------------------------------
    6
    ماذا عساني أفعل أو أقول لها؟ مطب حقيقي ألفيت نفسي داخله، ويشق علي شرح الأمر وتفسيره لها، وبالتالي التخلص منه.
    لبست اليوم أجود ما أملك، وكأني أقصد عملي المؤقت، وهو كل عملي، في انتظار الحصول على عمل رسمي، على الرغم من أني كنت متجهاً إلى عمل لايمت بصلة إلى أي منهما.
    حدث كل ذلك عندما هاتفتنا سيدة تطلب تحر خاص بحسب ما أفهمني مدير الوكالة الجشع الذي أمسك بذاك الخيط ليعوض كساد مشروعه.
    افتتح حديثاً وكالة ولم ينل زبونة واحدة. وددت أن أقترح عليه أن تدشن امرأته الوكالة ليتيسر لأمثالي العمل قليلاً، ولطرد النحس من على عتبات وكالته، فأخرج معها لليلة واحدة وأصحبها إلى أي مكان تشاء، لكني ما كنت أظنه يقبل ذلك خشية دفع التكاليف من جيبه.
    كانت المرأة المتصلة مخطئة بالفعل، فالدار التي بت أنتمي إليها في انتظار تحقيق حلمي في الحصول على وظيفة لاأراها بعيدة عن خشبة المسرح، إذ أني أحلم بالحصول على دور كبير في مسرحية كبيرة أو صغيرة، تقوم بكراء شبان لنساء راغبات في رفقة علنية، ولم يعمد الجشع إلى الاعتذار لها أو تصويب مقصدها بل أخذ منها موعداً وأوصاني أن أحصل منها على دفعة أولى لزوم العمل، وأرسلني للقائها في الخارج بناء على طلبها.
    ركبت دراجتي وهي الرابعة، ولست أدري ما الذي يغري اللصوص ليسرقوا دراجاتي السابقات وأنا بعد غير مشهور. ستساوي قيمة كبيرة طبعاً عندما أصير نجماً في سماء المدينة. أخمن أن اللص واحد، وأنه يتوقع نجاحي في المستقبل القريب، وهو بلا شك يعمد إلى تخزينها لأنها ستساوي ثروة كبيرة.
    تخرجت من معهد الفنون الجميلة بمدينتنا القبيحة ولم أجد عملاً، فالفرق المسرحية في المدينة فرقة واحدة، وهي تحتل المسرح المديني، ويشق على شاب مثلي بلا ظهر أوسند الحصول على دور هناك. قلت لنفسي مراراً، هم لايعلمون ماذا يضيعون؟ لكني عزمت على الصبر والانتظار. فالمسرح قدري وسيعلمون ذلك في وقته وأوانه.
    قصدت المرأة المنتظرة حسب العنوان الذي ناولنيه الجشع. حالما رأيتها علمت أنها كانت المتصلة ليس لموهبة دفينة أو لدقة في الملاحظة بل فقط لأنها كانت الوحيدة المتواجدة في مرآب السيارات والدراجات أيضاً. لمحت الحارس فأدركت أني لن أفقد دراجتي الرابعة هذا اليوم. الشكر للأقدار!
    دعتني السيدة إلى مقهى صغيرة. دخلناها فإذا هي هادئة متواطئة مع رغبتي الأكيدة في البوح. نعم وددت أن أغتنم أول فرصة لأصارحها بأنها تعرضت للخداع من قبل مدير الوكالة البشع.
    كانت سيدة أنيقة جداً، وبدت متألقة أيضا. فكرت أن هناك زيف يربض دوماً خلف البريق. وعلى الرغم من أنها لم تشأ أن تزل نظارتيها لكنني استطعت النفاذ إلى عينيها لألمح بؤسها الكبير.
    يتقدم منا نادل طيب. ملامح وجهه تمنحني الشعور بألفة غريبة. يعود ليضع ما طلبناه منه فأهتدي لسر تلك الألفة. كان يشبه والدي جداً.
    تحملني صغيراً، ودفع نفقات المعهد والدراجات. جل الذي أتمناه أن أحصل على دور لأقوم بتسديد كل فواتيره ولأرد له الدين بأفضل منه.
    أحاول أن أمثل الدور بشكل جيد، وأظنني تركت انطباعاً طيباً لدى الزبونة، فقد حرصت أن أبدو هادئاً لحين بروز فرصة أنفذ منها إلى زاوية الاعتراف والتحرر من عذاب الضمير، وليكن بعد ذلك ما يكون.
    مدير الوكالة الشره يعرف ملكاتي في تشخيص وامتطاء الأدوار ودراجاتي. قال لي:
    - إعتبر أنك على خشبة المسرح، وتؤدي دور تحر خاص.
    وعلى الرغم من أني لم ألبس ثياباً خاصة للدور إلا أني وضعت قناعا يناسبه تماما. ما يضايقني فعلاً هو أننا لم نجد ما نقوله إذ استلقى الصمت بيننا غافيا. كان صوت شخيره أقرب إلي من صوتها المضطرب حين حيتني في بداية لقائنا.
    كان صمتنا يشبه صمت مقدم الأخبار الذي لم يفلح صوته في مغادرة الجهاز المقابل لي تماماً، بينما انطلق فالس شجي لايتفق والمشهد الذي كنت بطله الوحيد. أعرف صوت قارئ الأخبار جيدا. سمعته في سنوات ماضية قبل أن يجود علينا اللاقط الفضائي بأصوات أخرى متنوعة. هو بلا شك ينتمي إلى فصيلة المعمرين في بعض الأماكن. بحركة مباغتة تلتقط حقيبة يدها الأنيقة. تفتحها. أخمن أن صمتي أصابها بالملل أو أنها كشفتني، وأنها ستدفع الحساب والمغادرة، حسناً تفعل رغم أني كنت أنوي مصارحتها لكني لم أملك الشجاعة لذلك. عوض أن تخرج ورقة نقدية، تخرج صورة صغيرة تمدها لي قائلة:
    - هذه لزوجي الذي حدثتك عنه، والذي أشك أنه يخونني. أعتمد على سرية عملك وكتمانك.
    أفتعل اهتماماً. الصورة لرجل. من يكون؟ ما المطلوب مني؟ قتله أم اختطافه؟ أود أن أطرد ترددي. أقرفص على عتبات أول فرصة لأبوح لها وأتخلص من هذا الكابوس. تطالعني صورة صاحب الوكالة غاضباً وهو يشير بسبابته إلى الباب. تزيحها صورة والدي الطيب الذي تشبه ملامحه ملامح النادل الطيب. تعدو صورة دراجتي التي يقف إلى جانبها حارس المرآب الذي لاأراه يصلح للتمثيل أو حتى لقراءة الأخبار لنفسه. تنتصب عوضها الصورة الصغيرة التي أمامي. كانت صورة وجه ممتلئ يدل على أن صاحبه يرفل في نعمة وعافية. يطل نزق من عينيه. كل الوجوه تتشابه في النهاية وإن كان لكل واحد منها بصمة خاصة. وأكثر ما شدني في وجهه، أنفه. كان أنفاً رومانياً عظيما. أفلت العنان لمخيلتي، وأتصورني أستعير أنفه الضخم ذاك وأضعه عوض أنفي الصغير في ملحمة مسرحية كوليزيومية.
    أفتح عيني دهشة. إنه هو. وجه بدا لي مألوفاً جدا. ليس لأن ملامحه تتقاطع وملامح والدي الطيب. وعلى الرغم من أنه غير معروف بالنسبة للكثيرين إلا أني عرفته. علي أن أقوم لأحييه وأعرفه بنفسي. هذه هي فرصتي التي انتظرتها ليس للاعتراف للزبونة. فلتذهب إلى الجحيم هي وصاحب الصورة، وليتبعهما مدير الوكالة الجشع. نعم، هذه فرصتي التي انتظرتها دهراً وحلمت بها طويلا. غير معقول، وأمر لايصدق. كنت أعلم أن القدر يعد لي مفاجأ سارة، لكني لم أكن أخالها بهذ الروعة.
    أن أجلس قرب أستاذ أشهر من وشم على جسد. الكاتب المسرحي المعروف الذي لم أعد أذكر اسمه. أراه منهمكاً في التحديق في أوراقه. أخمن أنه موثوق إلى عمل مسرحي جديد. سأقوم الآن وأعرفه بنفسي. أعلم أنه يملك عينا خبيرة. لاأجد بأساً إن طلب مني تأدية مشهد أمامه ليتأكد من مواهبي. هو لايعرفني في النهاية بيد أني أكيد من أنه سيقتنع بي في الأخير كممثل وكنجم قادم، وربما سيكتب دوراً على مقاسي. أفكر من الآن أن أرفضه إن كان لايناسبني. فأنا لايناسبني غير دور البطولة.
    أسمع النادل الطيب يهمس له:
    - المطب.
    نعم، لاشك أنه عنوان مسرحيته الجديدة التي ستعرض طيلة السنة في المسرح المديني الوحيد.
    نعم، إنه المطب. سأخبره أني كنت في مطب حقيقي طيلة حياتي، قبل أن ألقاه.
    نعم، كنت في مطب فعلاً لأني لم أنل شرف لقائه قبل اليوم.
    نعم، أنا في مطب حقيقي مع سيدة أرتجل دوراً لايناسبني، ولايتفق وطموحاتي وإمكاناتي وهو الدور الذي سأرفضه لأعانق الخشبة والأضواء والجمهور والشهرة والثروة والنجومية.
    ألمحه يحول ناظريه خارج المقهى. أتعقبهما. تصطدم عيناي بظلال أربعة. فتاة جميلة تملك وجه ممثلة، وعجوز لاتصلح إلا للموت وشاب نزق لايملك دراجة هوائية ورجل ضخم يحمل وجهاً مألوفاً. يستدعيني أنفه الروماني العظيم.
    نعم، إنه هو. صاحب الصورة، أو لعله يشبهه إلى حد بعيد. على أي هما يملكان الأنف نفسه. أغمز للزبونة بعيني مشيراً إلى الخارج. أرى الدهشة ترتسم على ملامح وجهها ونظارتيها. أزفر بارتياح وأنا ألمحهم يدلفون من مدخل خلفي لعمارة سامقة. هذه إشارة رائعة من قدر قرر أن يبتسم أخيراً في وجهي. ربما هذا معناه أني لن أصلح لأي شيء آخر، وإنما سأكون تحر خاص ناجح جداً. أفكر من الآن في مهمتي القادمة. البحث عن سارق دراجاتي. شكراً لك أيها القدر!

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. المطب
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 19-06-2013, 10:52 PM
  2. الصراع الايقاعى فى رواية العابرون لمحمد ابراهيم طه
    بواسطة جمال سعد محمد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 16-03-2006, 12:40 AM
  3. قراءة في رواية الينابيع و حوار مع كاتبها
    بواسطة نزار ب. الزين في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-03-2006, 02:02 AM
  4. الألفة والرووووح الحية في رواية " جبل السُماق "التاريخية ..
    بواسطة ريم مهنا في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 11-02-2006, 03:29 PM
  5. (( دمعة على أنقاض قرية ))..... رواية
    بواسطة الميمان النجدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 08-08-2003, 11:17 PM