أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: ما أبعد ما فات 2

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 57
    المواضيع : 21
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي ما أبعد ما فات 2

    رحل الحمار بغير ذنب اجترحه ، ولم يبق من ذكراه سوى جملة ضمنها
    مؤلف كتاب مدرسي تتلمذتْ عليه أجيال ما بعد سلسلة إقرأ التي رصّع بها أحمد بوكماخ سجله الحافل بالانجازات التربوية والعبارات العميقة معنى ومبنى خاصة تلك التي اختارها هذا الرجل الفهيم العليم بعجَر التربية وبُجرها عتباتٍ لنصوصه الموجهة للصغار ، وقد شاخ بعضهم ولم تمحي من ذاكرته مثل : " الله يرانا"- أحمد والعفريت "- أيام الجد والنشاط"- " الثرثار ومحب الاختصار "، تلك القصص التي لم تفارق يوما ذاكرة زيد وأقرانه.
    أما العبارة التي يستعيد بها زيد زمن الحمار الممدود أرضا ، فقد حفظها عن كثير من الصغار الذين نشأوا في زمان غير زمانه ، وهي :
    : " كان لنا حمار نربطه أمام الدار " ***
    باع أبي الحمار *** لماذا باع الحمار ؟.
    ربما باع أبوه الحمار ، فحزّ في نفسه أن يباع الحمار יִ ، أما حمار جارتنا الصريع فلم يجد أحدا يرثيه أو يبكي عليه ، أو يحدث نفسه أو يسائل الضمير الغائب في مجتمعه :
    لماذا قتل الحمار ؟ ، أليس جديرا بالحياة ، أليست فيه كبد رطبة ؟ .
    قد يكون قتل حمار أخف ضررا من قتل بشر ، لكنها الحرب و الحظّ العاثر ساق كثيرا من البشر يومها الى حتفهم ، كما يسوق اليوم أمثالهم في مواطن شتى الى المصير نفسه .الحرب مجنونة ملعونة إلى يوم القيامة ، تمتم زيد وقد زارته أطياف ذكرى تلك الحرب الأليمة التي راح ضحيتها " سعيد " ابن العمة الذي يتحدث الناس عن مروءته وشهامته و قوة عضلاته التي استخدمها أعواما في جلب الماء في جمرة الصيف وحر القيظ من مضانّه الشحيحة زمن الترحل في الصحراء، ثم سطا به التطلع الى تبدل حال الشظف إلى حال الرخاء ، فأصر على جده – وقد تربى في كنفه لما انفكت عروة العشرة بين أمه وأبيه- وهو شيخ القبيلة وأوجه أعيانها أن يأذن له بالانخراط في الجيش ، فأشفق عليه لمَا علمه من غدر الحرب ، وللجدّ سابقة في الجيش ، وإنما خرج منه كفافا لا له ولا عليه كي يستفرغ جهدا في إصلاح شأن القبيلة . غير أن الفتى المتوثب المندفع أصر أن يذهب الى المعسكر و نفسُ جده غير مطاوعة ، وكان بذلك لرغبته مطيعا ولنصيحة جده مضيعا ، ولم يدر أن لشَرْخ شبابه شرّة ، ولرَحى الحرب غِرّة ، وما هي إلا أيام بعد فراغه من التدريب حتى نشبت أولى المعارك بوادي " كسات " ، وكان لها طحينا יִ.فبكته أمه بكاء شديدا حتى عميت ، وعاشت بقية حياتها تلعن الحرب التي أطفأت نور عينيها وذهبت ب " نوّارة حياتها " و توأم روحها ، إذ لم تحبل قبله ولا بعده ، أما بعض العوائل من الجيران فقد عيل صبرها ، سمع زيد كبارهم وصغارهم يبكون فامتقع وجهه ، وانتظر عودة أمه من بيتهم ، فسألها سؤال الصغير الواجف المتشوف للكشف والاستكشاف : أمي ، لماذا يبكون ، هل قتل منهم أحد ؟ ، فأجابت : بل قتلوا شقيقان من أبناء عمهم " بوجمعة " ، بقروا بطن الأول و أردوا الثاني قتيلا رميا بالرصاص رغم استعطاف زوجته لهم ألا يفعلوا יִ...، سمع زيد أيضا عن قصص نجاة مثيرة ، سمعهم يتحدثون عن شيخ شديد التبتل أرغموه على الركوب في إحدى مركباتهم أسيرا ، فاستعطفهم ، فأبوا أن يتركوه ، فركب على مضض وطفق يتلو بعض التعاويذ ، فتعطلت المركبة وعجزت عن الانطلاق ، فأشار عليهم أحدهم أن يخلوا سبيل هذا الشيخ الهرم لئلا تصيبهم بسببه مصيبة ، فأنزلوه قهرا وقد كالوا له التهم بالكهانة יִ ، سلم الشيخ من الاذى يوم الكريهة ، وهو غير محارب ، لكن لم يسلم كثير من غير المحاربين مثله ، منهم حفّار الآبار " حميد " ، الأجير الذي قدم من الشمال وأقام سنين بآسا بالجنوب ، وحفر آبارا كثيرة في تلك القرية الصحراوية الوادعة التي يخترقها نهر كبير ، وتجري بها عيون رقراقة من أشهرها عين " تكردات " التي تحكي كتب التاريخ عن نزول أول مسلم بها عام 130ه قربها حيث أقام مسجده المسمى باسمه / جامع سيدي محمد الشبكي ، وظل يدعوا الوثنيين من اذاوقيس إلى التوحيد .
    كان آخر عهد حميد بعائلة الصغير أبي زيد عصر يوم فراغه من حفر البئر ، حيث جلس مستوفزا يتناول خبزا وشاياً وزيتاً ، وأعطاه بعض أجره وواعده بدفع ما تبقى بعد أجل مسمى بينهما ، و ناشده على سبيل المضايفة والمجاملة أن يبيت عنده ، فاعتذر ، ، ، وكان من قدر الله وجَدّ حميد ( حظه)أن ألقي عليه القبض واقتيد أسيرا ، وظل والد أبي زيد يذكره بخير ويسأل بعض أهل العلم عما يفعل بما بقي في ذمته من أجره ، فأشاروا عليه بالتصدق بها عنه ليبلغه أجرها حيّا كان أو ميتا .
    حين يُذكر الأجير حميد ، يستيقن زيد أن الأرزاق كما الأعمار بيد الله ،وأن بعض الرجال بحظوظها وجُدودها لا بعرَقها ونصبها ، وبقدر ما كان حظ حميد زهيدا ما كان أفظع من حظ الجندي الذي لقبه أهل الحارة " ريال أحمر "- ربما لشدة حرصه على الرزق وكدّه لتحصيله وتحصينه رحمه الله- فقد تناول العشاء في ضيافة شيخ القبيلة والد زيد ، وكان يكتب على ضوء شمعة باهت رسالة كي يبعثها إلى أهله ، ولم يجُل في خلده أنها ستكون رسالة الوداع وأن العشاء الذي تناوله كان الأخير أيضا ، لم يسمع هسيس القيامة ، ومن مات قامت قيامته ، أو لعله تحسسها حين سمع حسيس الحرب ، و إن حسيسها لم يكن يبعد سوى أميال عن القرية ومن فيها ، فدعا بالقلم والورق ليزرع آخر فسيلة قولٍ في حياته ، وإذا حان الحيْن حارت العين יִ ، ..لقد مضى حين انتصف الليل إلى خندقه في ضواحي القرية حيث يتحصن العسكر، وحصدته سكين الغدر في فحمة الظُّلمة...
    كانت روح الحرب المدمرة الخبيثة تغشى أديم الصحراء ، وتلقي بظلالها القاتمة الداكنة على كل أحاديث الناس وشؤونهم ، و تسيطر على مشاعرهم ، فهذا عمر الصبي الذي بدأ ينطق كلماته الأولى، ينبس بعُسر بين الفينة والأخرى : أْسْ ، أْسْ ، حْسْ الكُورْ أي صه ، صه ، أصمتوا ، أنصتوا ، أسمعُ صوت القنابل יִ. وما كذب الصبي شقيقُ زيد الأصغر ما توهم سماعَه ، فقد كانت تنهمر القذائف على القرية من بعيد ، أي من التخوم التي يتحصن بها المهاجمون ، ولم ينعم الناس بالأمن والطمأنينة أياما بل أعواما ، فقد كانوا يخشون عودة " هيف لأديانها " ، وظلوا يتوجسون خيفة من هجوم مباغت ، وهم في ذلك كمن يأتيه الموت من كل فج ، وقريتهم ذات فجاج وجبال قد يأتي منها المكروه ، فهي جاثمة عند قدم جبل واركزيز على مرمى حجر من مدافع الهاون التي تمطر القرية بين الفينة والأخرى بشهب الرعب.
    وبعد أيام عصيبة، وضعت المعركة أوزارها ، وأمِن الناس قليلا على أموالهم وأنفسهم ، بيد أن روح الحرب لم تبرح أحلام الأطفال وخيالاتهم ، بل تسللت إلى ألعابهم ، فلا تجد زيدا وأترابه يلعبون إلا متسايفين بالعيدان ، وكأن حالهم يقول : "حارِب ولو بِعُود יִ "، وكثيرا ما يحاكون أرتال العسكر ، ويصنعون دباباتهم من " عُلب السردين الفارغة " יִ ، يُكنون أكبرهم " كولونيل " ، وأصغرهم سنا أدناهم رتبة عسكرية ، ولهذا كان زيد يحفظ أسماء الأسلحة ويعرفها كما يعرف والده وجدّه ، من " البيتيب " إلى الماك والفال وماص 36 ، وعيار 106 المحمول على عربة عسكرية سمع الناس يقولون أنه تعطل بفعل السحر يوم المعركة ... יִ، يوم احترقت المدرسة بفعل رصاص طائش لا يفرق بين الأهداف كما في الحروب المعاصرة التي انسلخت عن قيم الشهامة יִ كانت الشهامة قديما تعني أن تقتل عدوك المبارز المحارب ، وأصبحت الشهامة في حروب العصر أن تطيح بكل شيء بارز شجرا كان أم بقرا أم بشرا...
    انتهت الحرب ذات مساء ، وانصرم الصيف وأفَلت شمسه الحارقة ، ولم يعد زيد يصطحب أشقاءه وأبناء حارته إلى المرعى ، يسوقون غنيْمات يبتغون بها شعف جبال باني و بطون أودية السدر التي تنتشر بها أشجار الطلح وسدر كثير ، فهو مقبل على الدراسة من جديد ،..
    1

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    جميل هو سردك عن قصص الحرب وآلامه وماتخلفه من جراح , تنفع أن تكتب رواية , فنفسك طويل ولغتك قوية راقية
    تحياتي

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    سرد مسهب لكنه ممتع
    للحرب وأوزارها تأثير على الكلمة والمشاعر
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 57
    المواضيع : 21
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    ممتن لكما براءة و بدرانة ، سعيد جدا بانطباعيكما حول هذا النص، وللحرب كلفة إنسانية أضخم من خسائرها المادية ، والنصوص المتممة لهذا النص تحمل بين احشائها بعضا مما أبقته أيام الحرب قائما ماثلا في ذاكرة السارد .
    حياكما الله وبيّاكما وحماكما من لهيب الحرب

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    سرد جميل لفكرة طيبة نجحت بتوصيلها مؤثرة نابضة برغم الإسهاب

    دمت بخير


    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6
    الصورة الرمزية نداء غريب صبري شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الشام
    المشاركات : 19,096
    المواضيع : 123
    الردود : 19096
    المعدل اليومي : 3.80

    افتراضي

    الحرب لا ترحم بشرا ولا شجرا
    الحرب لا تعرف رحمة ولا عدلا

    سرد جميل ممتع
    وقصة رائعة

    شكرا لك أخي

    بوركت

  7. #7
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    جميل بسره وفكرته رغم وجع تخلفه دائما الحروب وراءها
    بوركت واليراع أديبنا الفاضل
    ومرحبا بك في واحتك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. أبعدُ من الأمل ِ..!
    بواسطة منى الخالدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 23
    آخر مشاركة: 28-03-2023, 11:54 AM
  2. ما أبعد ما فات 3
    بواسطة بوزيد مولود الغلى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04-12-2015, 11:00 PM
  3. صورة أبعد… وخطاب أشد
    بواسطة رمضان عمر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-07-2010, 10:20 PM
  4. فالشعر أبعد عن أقوال شرذمة...
    بواسطة محمد الأمين سعيدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 18-06-2007, 11:49 AM
  5. أبعد الله الغمام .. وأنار الأفهام!
    بواسطة د. ندى إدريس في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 14-12-2003, 02:07 PM