الخـــــــــبر
====
دائما ما يجلس على ذات المقعد، ينتظر الباص. لا يعرف كم من الوقت يمر عليه، وهو يقبع عاقدا رجليه في ذات المكان كعادته. يسند حقيبته بجواره، ويقلب صفحات الجريدة التي يمسك بها بلا اهتمام. لا يعنيه ما يدور حوله من أحداث أو أخبار.
حياته يدور فلكها بين العمل والبيت. لا علاقات. لا أصدقاء. لا أقارب. لا أحد يهتم به، ولا يهتم بأحد.
أحيانا يجلس على المقهى المجاور لبيته، فيقعد منزويا في ركن بعيد، يرتشف كوب الشاي ببطء شديد وكأنما يود أن يظل بين يديه لساعات. لا يكلم أحدا، وإذا طلبه أحدهم لمشاركته اللعب يرفض.
لم يتزوج، ولم يرغب في الزواج أصلا، وكأنما استهوته العزلة والوحدة.
في المكتب لا يختلط بزملائه، وينكب على الأوراق من أول لحظة حتى نهاية العمل، ولا يجيب على من يسأله إلا بكلمات مختصرة.
كثيرا ما كان يسمع تعليقاتهم عليه، وعلى ملابسه الغير مهندمة. على حياته، وتصرفاته. يسخرون منه، ويقذفونه بأبشع الكلمات، لكنه لا يهتم ولا يعبأ بما يقولون، وكأنهم غير موجودين، أو هو غير موجود بينهم. سخر أحدهم منه ذات مرة قائلا:
- الحي الميت!
فضحك كل من حوله، ولم تظهر عليه أي علامات تأثر أو حزن.
الحياة بطولها وعرضها لا تعني له شيئا. هي مجرد حياة وجد نفسه فيها؛ فيعيشها بقدر ما يجعله موجودا فيها.
قلب صفحات الجريدة، لفت انتباهه خبر وفاة مكتوب بالبنط العريض "وفاة إبراهيم ممتاز الكاتب الصحفي". شده الخبر. شعر بالقلق والخوف يتسللان إلى قلبه.
تعجب من نفسه. لم؟! لم أعتد هذا الشعور من قبل. مئات الناس سمعت بخبر وفاتهم، وكثيرا ما رأيت جنازات، ولم ينازعني الخوف للحظة واحدة.
ربما يكون شعورا مؤقتا على زميل دراسته في الثانوية العامة والجامعة.
لكنه نفض الشعور عن جسده، وحاول أن يعود لطبيعته، غير أنه عاود مطالعة الخبر بقلق أكبر.
وضع إصبعه على أرنبة أنفه، وحركها يمينا ويسارا. نظر في ساعته، وقال لأول مرة باستياء:
- تأخر الباص.
تهادى إليه شبحه يأتي من بعيد مخلفا وراءه عاصفة ترابية اختلطت بأشعة الشمس الصفراء التي تهبط رويدا رويدا خلف التلال، ساحبة خلفها أذيال نهار طويل، ويختفي ضوؤه تحت سطوة ليل بشع.
هيأ نفسه، وحمل حقيبته.
لم ينتظر حين وقف أمامه الباص. دفع جسده بسرعة داخله، تاركا خلفه جريدته على المقعد مفتوحة على خبرة وفاة زميل دراسته.
25/06/2013