تمهـــــــــــيد :
الحمد لله و كفى ، و الصلاة و السلام على نبيه المصطفى ، و آله المستكملين الشرفا ، و بعد :
علم القراءات من العلوم الجليلة الشريفة لتعلقه بأشرف الكتب و هو القرآن الكريم ، ( و شرف العلم بشرف المعلوم) ، و له صلة وثيقة بفهم القرآن ، و معرفة معانيه ، و الوقوف على إعجازه و مراميه ، و مع ذلك فهو مجهول لدى أكثر المسلمين ، مهمل لدى غالب القارئين و الدارسين . و هذه بعض الإشارات المهمة ، و القواعد النافعة ، و الأصول الجامعة ، في هذا العلم الجليل ، بأسلوب مبسط ، و منهج ميسر ، بعيد عن التعقيد و التطويل ، تفيد المقتصد و لا يستغني عنها المجتهد ، ترشد المبتدي و تفيد المنتهي .
من القواعد و الأصول في علم القراءات :
- أنزل القرآن إلي سماء الدنيا جملة واحدة فكان في بيت العزة ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، و في ذلك مساواة للكتب السماوية السابقة ، ثم فضل عليها بإنزاله منجماَ (مفرقاً) . و من الأدلة على نزول الكتب السابقة مفرقة أن المشركين طلبوا نزول القرآن جملة كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الفرقان32 فجاءهم الجواب ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) ، ولو نزلت مفرقة لكان الرد عليهم : أنه نزل كسابقه من الكتب ، و يؤيد هذا المعنى أن المشركين عندما قالوا (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) الفرقان 7 ، جاءهم الرد (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ) الفرقان20.، و نظير هذا أن الكفار لما اعترضوا على بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم بقولهم ( أبشر يهدوننا) و بقولهم ( و لئن أطعتم بشرا مثلكم ..) ، جاءهم الرد ( قل ما كنت بدعا من الرسل) . ونظير الرد عليهم عندما قالوا (أبعث الله بشرا رسولا) فقال الله لهم (و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) ، وكذلك حين قالوا (كيف يكون رسولا ولا هم له إلا النساء) أتاهم الجواب: (و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم ازواجا وذرية).
- القراءات توقيفية تؤخذ بالآثار والأحاديث الصحاح لا بالآراء و الأهواء ، ويكفر من زاد اونقص حرفا متعمدا كما قال ابن حزم ، و إضافة القراءات إلى من أضيفت إليه إضافة اختيار ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد ، فيقال قراءة نافع ، و قراءة أبي عمرو ، و قراءة حمزة .
- أركان القراءة الصحيحة ثلاثة :
أولا : موافقة اللغة العربية
ثانيا : موافقة رسم المصحف العثماني
ثالثا : تواتر السند
و إذا فقدت هذه الأركان أو بعضها توصف القراءة بأنها شاذة ، و هذا معنى قول ابن الجزري رحمه الله :
فكل ما وافق وجه نحوِ * و كان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآنُ * فهذه الثلاثة الأركـــــــــــانُ
و حيثما يختل ركن أثبتِ * شذوذه و لو انه في السبعةِ
- القراءة الشاذة لا تعتبر قرآنا ، و لاتكتب في المصحف ، و لا يقرأ بها في الصلاة ، و إنما يستفاد منها في التفسير، و لها حكم تفسير الصحابي ، مثل قراءة ابن عباس ( و كان وراءهم ملك) من سورة الكهف ، قرأها ( و كان أمامهم).
- اختلاف القراء في القراءات ليس كاختلاف الفقهاء في الأحكام ؛ فهو كله حق و صواب ، أما اختلاف الفقهاء في الأحكام فهو اجتهادي فيه الخطأ والصواب .
- أنزل القرآن أولاً بلغة قريش ، ثم تكرر نزوله ببقية الأحرف السبعة ، ومن الأدلة على ذلك ما جاء في الحديث عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : (سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة فتربصت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : كذبت ، أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرها ما قرأت ، فانطلقت ، به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال له : أقرأ ياهشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال كذلك أنزلت ، ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤا ما تيسر منه) البخاري .
- اختلف العلماء في معنى الأحرف السبعة ، لكنهم متفقون على أنها ليست هي القراءات السبع ، لأن أول من جمع القراءات هو أبو بكر بن مجاهد ، و حصرها في سبعة قراء تيمنا ليوافق الأحرف السبعة ، أو اتفاقا من غير قصد ، قال ابن تيمية (بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة بـبغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات (الحرمين) مكة والمدينة ، (والعراقين) البصرة والكوفة والشام ؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة من القرآن وتفسيره والحديث والفقه ، من الأعمال الباطنة والظاهرة وسائر العلوم الدينية ) فالقراءات أكثر من ذلك ، و المتواتر منها عشر ؛ سبعة جمعها ابن مجاهد و شرحها الإمام الشاطبي ( لذا اشتهرت عند الناس بالقراءات السبع) ، و ثلاثة زادها ابن الجزري و تمم بها العشر .
- تعددت أقوال العلماء و تفرعت في معاني الأحرف السبعة إلى ما يقرب من أربعين قولا ، لكن أوضحها و أقربها إلى اتساق الأدلة و اجتماعها هو أنها (الاختلاف في أوجه سبعة من أوجه القراءة) و هذه الأوجه السبعة هي :
الأول: اختلاف الأسماء من إفرادٍ، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث، مثاله قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. قرىء هكذا: {لأماناتهم} جمعاً وقرىء {لأمانتهم} بالإفراد.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارعٍ وأمر. مثاله: قوله تعالى: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} قرىء هكذا بنصب لفظ "ربنا" على أنه منادى وبلفظ "باعِدْ" فعل أمر، وقرىء هكذا {ربُّنا بعَّد} برفع "رب" على أنه مبتدأ وبلفظ "بعد" فعلاً ماضياً مضعَّف العين جملته خبر.
الثالث: اختلاف وجوه الإعراب ، مثاله قوله تعالى: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} ، قريء بفتح الراء وضَمِّها ، فالفتح على أن "لا" ناهية ، فالفعل مجزوم بعدها ، والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أنَّ "لا" نافية، فالفعل مرفوع بعدها.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة ، مثاله قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} قريء بهذا اللفظ وقريءَ أيضاً "والذكر والأنثى بنقص كلمة "ما خلق". وهي قراءة شاذة .
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير: مثاله: قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت} وقريء "وجاءت سكرة الحق بالموت".
السادس: الاختلاف بالإبدال ، مثاله قوله تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} بالزاي وقريء "ننشرها" بالرَّاء.
السابع: اختلاف اللغات "اللهجات" كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك، مثاله قوله تعالى: {بلى قادرين} قريءَ بالفتح والإمالة في لفظ "بلى".
- كل قارئ من القراء العشرة له اثنين من الرواة ، فالقراءات عشر و الروايات عشرون ، و تفصيلها كالاتي :
1- نافع: وهو أبو رؤيم قارئ المدينة من تابعي التابعين توفي في المدينة 196هـ ، و راوياه: قالون وهو عيسى بن مينا المدني ، و ورش عثمان بن سعيد المصري.
2- ابن كثير: و هو عبد الله بن كثير قارئ مكة تابعي توفي بمكة سنة 120هـ.
راوياه: البزي: أحمد بن محمد بن بزة المكي ، وقنبل: محمد بن عبد الرحمن المكي.
3- أبو عمرو: زبان بن العلاء البصري توفي بالكوفة سنة 154هـ
رواياه: الدوري ( حفص بن عمر ) ، والسوسي( صالح بن زبان ).
4- ابن عامر: عبد الله بن عامر تابعي دمشقي توفي بها سنة 118هـ
راوياه: هشام بن عمار الدمشقي ،و ابن ذكوان( عبد الله بن أحمد القرشي ).
5- عاصم بن أبي النجود: تابعي قارئ الكوفة وبها توفي سنة 128هـ
راوياه: شعبة أبو بكر بن عياش الكوفي ،و حفص بن سليمان البزاز الكوفي.
6- حمزة بن حبيب الزيات من قراء الكوفة سنة 156هـ
راوياه: خلف بن هشام البزار ، خلاد بن خالد الصيرفي.
7- الكسائي: علي بن حمزة النحوي من قراء الكوفة توفي سنة 189هـ
رواياه: أبو الحارث الليث بن خلد ،و حفص الدوري (الراوي عن أبي عمرو(.
8- أبو جعفر : يزيد بن القعقاع تابعي مدني وبها توفي سنة 128هـ
راوياه: ابن وردان عيسى بن وردان المدني ، و ابن جماز سليمان بن جماز.
9- يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري توفي بها سنة 205هـ
راوياه: رويس محمد بن المتوكل اللؤلؤي ، و روح بن عبد المؤمن البصري.
10- خلف بن هشام البزار البغدادي بها توفي سنة: 229
راوياه:إسحاق بن إبراهيم الوراق ، و إدريس بن عبد الكريم الحداد.
- يقال في القراءة قراءة فلان ، مثل قراءة نافع ، و قراءة عاصم ، و قراء حمزة ، و قراءة أبي عمرو و نحوها ، أما الرواية فيقال فيها رواية فلان عن فلان مثل رواية رواية حفص عن عاصم ، و رواية الدوري عن أبي عمرو ، و رواية ورش عن نافع ، و رواية خلف عن حمزة و نحوها . هذه بعض الإشارات الموجزة في هذا العلم الشريف نفعني الله و إياكم بها .