ثنائيات رباعية في العلوم النقلية و العقلية (5)صحة الفهم و حسن القصد

الحمد لله القائل ( من يهد الله فهو المهتد ، و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) ، و الصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين القائل في سنته المطهرة ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ، و على آله و أصحابه الغر الميامين ، و بعد :
فقد قال ابن القيم في كتابه القيم ( إعلام الموقعين ) و هو يشرح كتاب عمر في القضاء :
) صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا ، بَلْ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِمَا يَأْمَنُ الْعَبْدُ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُمْ وَطَرِيقُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ ، وَيَصِيرُ مِنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أَفْهَامُهُمْ وَقُصُودُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَصِحَّةُ الْفَهْمِ : نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ ، وَيَمُدُّهُ : حُسْنَ الْقَصْدِ، وَتَحَرِّي الْحَقَّ، وَتَقْوَى الرَّبِّ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَة ، وَيَقْطَعُ مَادَّتُهُ : اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَإِيثَارَ الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مَحْمَدَةِ الْخَلْقِ، وَتَرْكَ التَّقْوَى ( .
و كثير من شباب المسلمين اليوم آفتهم سوء الفهم و الجهل و قلة العلم ، و قد يجتمع مع ذلك مع الحماس و الغيرة و الاندفاع التي توقعهم في الظلم و العدوان .. ( و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..( و بعضهم قد يكون لديه مع الحماس و الاندفاع سوء القصد و خبث النية .. ( و الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون ) .
و بناء على ذلك فإن الناس من حيث الفهم و القصد قد انقسموا إلى أقسام أربعة:
الأول : من صح فهمه و ساء قصده
و هم علماء الضلال ، و تجار الدين ، الذين يعرفون الحق و يكتمونه ، و يلبسون الحق بالباطل و هم يعلمون ، و هؤلاء أشبه باليهود ( المغضوب عليهم ) ، و يصدق فيهم قول الشاعر :
ذئب تـــــــراه مصلياً *** فإذا مــــررت به ركع
يدعو وكل دعــــــائه *** مـا للفريســــــة لا تقع
عجل بها عجل بـــها *** إن الفـــؤاد قد انصدع
فإذا الفريســة أوقعت *** ذهب التنسك والـورع

الثاني : من ساء فهمه و صح قصده
وهم المتصفون بالحماس و الغيرة و الصدق ، مع جهل و قلة علم ، مثل الخوارج و إخوانهم ، و هؤلاء أشبه بالنصارى الضالين الذين عبدوا الله بالجهل فضلوا و أضلوا ، و يصدق فيهم قول القائل :
وكم من عائب قولا صحيحا *** و آفته من الفهم السقيم
هؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، يفسدون أكثر مما يصلحون ، ويضرون أكثر مما ينفعون ، و من العسير تصويب أخطائهم ، و تصحيح مفاهيمهم ، و ينطبق عليهم قول القائل :
وإن عنــــــــاء أن تفــهم جــــــاهلا ***فيحسب جـهلا أنه منك أفهم
متى يبــــــلغ البنيان يــــوما تمامه ***إذا كنت تبنــيه وغيرك يهدم
متى يرعوي عن سيء من أتى به ***إذا لم يكن منه علـــــيه تندم
و هذا الصنف مغرر به ، مفتقر إلى العلم و سلامة الفهم ، قليل المعرفة بأصول الدين و قواعد الشريعة ، منخدع بالشعارات البراقة ، و من السهل التلاعب به ، و هو لا يعرف حقيقة من يقوده و لا إلى أين يقوده ، و أكثرهم غير مستعدين للتراجع طبقا لقول القائل :
ومن البلية عذل من لا يرعوي * عن غيه وخطاب من لا يفهم
و من النماذج الواضحة لهذا النوع الذي يعاني من التشوهات الفكرية ، و الخلل المنهجي بسبب قلة العلم و ضعف الفهم ؛ شخصية عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي ، و هو من زعماء الخوارج ، فقد كان ابن ملجم فارسا شجاعا شارك في فتح مصر، وكان من العُبَّاد المتألهين، ومن قراء القرآن المشهورين، قرأه على معاذ بن جبل رضي الله عنه وبلغ من إتقانه حروف القرآن أنّ عُمَر رضي الله عنه كتب إِلَى عَمْرو بْن العاص: أنْ قَرّبْ دار عَبْد الرَّحْمَن بْن مُلْجم من المسجد ليُعَلِّم النّاس القرآن والفقه ، فوسَّع له مكان داره ،
قال ابن حبان رحمه الله تعالى: فَخرج عَبْد الرَّحْمَن بْن ملجم وَمَعَهُ سيف مسلول حَتَّى أَتَى مَسْجِد الْكُوفَة، وَخرج عَليّ من دَاره وأتى الْمَسْجِد وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس، الصَّلَاة الصَّلَاة، أَيهَا النَّاس: الصَّلَاة الصَّلَاة، وَكَانَت تِلْكَ لَيْلَة الْجُمُعَة لسبع عشرَة خلت من رَمَضَان، فصادفه عبد الرَّحْمَن بن ملجم من خَلفه ثمَّ ضربه بِالسَّيْفِ ضَرْبَة من قرنه إِلَى جَبهته... فقال علي رضي الله عنه: احْبِسُوهُ وأطيبوا طَعَامه، وألينوا فرَاشه، فَإِن أعش فعفو أَو قصاص، وَإِن أمت فألحقوه بِي أخاصمه عِنْد رب الْعَالمين، فَمَاتَ عَليّ بْن أبي طَالب غَدَاة يَوْم الْجُمُعَة. و صدق أبوحيان الأندلسي حين قال :
يظُنُّ الغمرُ أَنَّ الكُتبَ تـهدي * أَخا فــــهم لإِدراكِ العُـــــــلومِ
وَما يَدري الجَهولُ بِأَنَّ فيها * غَوامِضَ حَيَّرت عَقلَ الفــهيم
إِذا رُمتَ العُلومَ بِغَيرِ شَـيخٍ * ضَلَلتَ عَن الصراطِ المُستَقيمِ
وَتلتَبِسُ الأُمورُ عَليكَ حَتّى * تَصيرَ أَضلَّ من تُـوما الحَكيمِ
ضُرب بتوما الحكيم المثل فى الجهل , قرأ حديث ( الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء ) ، فقرأها بالتصحيف الحية السوداء ، وكان يداوى بذلك فهلك على يديه نفر كثير .
و أهل البدع و المحدثات يندرجون تحت هذه الطبقة ، لذا تجدهم متعصبين لبدعهم مع مخالفتها لشرع الله ، و كل مجتهد مخطئ يدخل تحت هذا النوع من البشر ، لكن أهل الاجتهاد خلقهم التواضع ، و سمتهم الأدب ، و ديدنهم الرجوع إلى الحق متى ما اتضحت معالمه .
الثالث :من ساء فهمه و ساء قصده
و هؤلاء هم المنافقون الذين جمعوا بين قلة العلم و مرض القلب و نزل فيهم و في أباههم قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) محمد16 . و يلحق بهؤلاء العلمانيون و الليبراليون و الماسونيون و العصرانيون و الحداثيون ، و سائر إخوانهم ، الذين جمعوا بين الجهل و خبث المقصد فهم يستغلون أخطاء الاسلاميين ، و يتصيدون عثرات المتمسلمين و يتاجرون بها ، و يطيرون بها كل مطار ، ويستثمرونها لتشويه الدين و الطعن فيه و في رسوله صلى الله عليه و سلم ، و ينشرونها في كل المواقع و المحافل .
الرابع : من صح فهمه و حسن قصده
و هؤلاء خير الناس و هم الذين ( أنعم الله عليهم ) ، الذين تعلموا قبل أن يعملوا ،فساروا على هدى و بصيرة ، و جمعوا بين العلم و العمل ، و هم المذكورون في قوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، و هذا الوصف ينطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، خير جيل عرفه التاريخ ، و يشاركهم في هذا المدح من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، فهم الذين عرفوا الحق و اتبعوه ( و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير )
فعلى كل مسلم أن يعرف موقعه من الإعراب بين هذه الأنواع المختلفة من البشر .
و قد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري ، فذلك العالم فاسألوه ؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري ، فذلك غافل فنبهوه ؛ ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري ، فذلك جاهل فعلموه ؛ ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ، فذلك أحمق فاجتنبوه . هذه الأقسام يشترك فيها الرجال و النساء ، و رحم الله امرءا عرف قدر نفسه .
نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم ؛ صراط الذين أنعم عليهم ؛ غير المغضوب عليهم و لا الضالين .