كانت أول محاولة لي في الرواية بدأتها وأنا في عمر 19
ورغم بعد منهجها قليلا عن الرواية إلا أني اعتمدتها للقضية التي تعالجها والثقافة التي تتضمنها
محاكمة وامرأة---------------------------------------------
في عالم لم يعهد لأحد العيش فيه على أرضية الواقع، أين تتجلى الطبيعة بشتى معالمها الخلابة؛ بين زهور مختلفة العطور والأشكال، وجداول وأنهار متباينة الأذواق والألوان، وأشجار وارفة الظلال، تتمشى رونق تلك الفتاة الحالمة الشابة منبهرة في أسمى معاني الجمال، وإذا بها تتعثر في صخرة قاسية، فترفع النظر إليها وتنفض عنها غبار السنين، فتتبدى لها رموز غريبة تجهل معناها.
تتمعن رونق تلك الرموز بشغف والفضول يسيطر على تفكيرها، وفجأة يبرز رجل غريب تظهر على ملامحه الجدية والوقار، فيمضي الرجل في طريقه دون أن ينتبه إليها.
تستوقف رونق الرجل الغريب مستفسرة، وتسأله معنى الرموز المبهمة، فينظر إليها بكثير من الدهشة، ثم يقول: هي تعني أيتها الساذجة "مرحبا بك في عالم الأقساط".
تقول رونق في حيرة من أمرها: عالم الأقساط، وأين هو؟
الرجل الغريب: نعم عالم الأقساط، وقد تجرأت على دخول القسم الخاص بالرجال، وهي جريمة في عالمنا هذا.
رونق: أرجوك سامحني فأنا غريبة عن هذا العالم...
الرجل: لا بأس، ولكن لا بد أن تسرعي في مغادرة هذا المكان.
رونق : وأين سأذهب إذن؟
يجيبها الرجل وهو ينفض سترته: إلى المكان الخاص بالنساء.. أين يتجمعن، هيا بنا، أسرعي فقد اقترب موعد المحاكمة..
تنظر إليه رونق نظرة إبهام والحيرة تستبد بها: تجمع النساء... ومحاكمة...؟!!
يتوقف الرجل لحظة ثم يقول: يبدو أنك فقدت ذاكرتك تماما إذ لم تتذكري هذا اليوم العظيم.
تمضي رونق في طريقها وهي تكلم نفسها: ما أعجب هذا العالم! لم أعلم قبل هذا اليوم أن الدول والقارات والعوالم أصبحت تقسم على أساس الذكورة والأنوثة...
يردد الرجل بصوت خافت: اتبعيني بسرعة.
وفجأة تسمع رونق ضجة وهتافات وأصوات متزاحمة فيعتريها شيء من الفضول لمعرفة سبب هذه الفوضى..
تقتحم رونق ذلك الازدحام فيغيب عن أنظارها الرجل الغريب تبحث عنه وتلتفت يمينا ويسارا دون أن تجده، فلا تكترث لأمره كثيرا وهي تتسلل بين جمع كبير من النساء يحملن رايات ويهتفن " معا لتحقيق النصر في المحاكمة" ، "لتحيا المرأة وليسقط الرجل".
تنبهر رونق، وتفضل الملاحظة، وإذا بامرأة تبدو عليها ملامح الكبر والأناقة تتصدر الجمع وتصعد على المنصة، ورونق تزداد دهشة وتساؤلا عن ماهية هذه المرأة.
تندلع أصوات التصفيق، ثم يعم الصمت أنحاء ذلك المكان، فإذا بالمرأة تبعثر أوراقا، وتتهيأ للكلام فتقول:
" بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد،
يا مجمع النساء، ها قد جاء اليوم المشهود الذي عانت لأجل وجوده آلاف النساء، وكابدت الآلام بغية قيامه، وضحت بالنفس والنفيس آملة تحققه.
إنها محاكمة المرأة ...المحاكمة الفاصلة بين ميلاد المرأة المستعبدة وتحررها، وسنقطع شوطا طويلا من هذه المحاكمة إذا اخترنا المرأة التي ستمثلنا فتحد من كلام المستغلين، وتصنع من قيودهم أغلالا تعلقها على رقابهم.
آه، يبدو أن الكلام أخذني حتى نسيت التعريف بنفسي، ومع هذا لا أظن واحدا في البشرية جمعاء يجهلني، أو لم يسمع عني، فقد تداولتني ألسنة الناس منذ خلق آدم، وتناولتني الكتب بشتى أنواعها وأبرزها كتب التاريخ والشعر والأدب فضلا عن الكتب المقدسة.. فكنت المرأة النموذج في عالم النساء، ودليل ذلك أن الصحف إذا أرادت جمع النساء في كلمة واحدة نطقت باسمي: حواء.
وكلّ صورني على هيئة: فالصنف الأول رآني أم البشر وخالني رمز للعطاء والحياة، والصنف الثاني وصفني بمحرضة آدم، فكنت برأيه أشبه للشيطان من الإنسان، أما الصنف الثالث فجعلني الأنثى الضالة بين الجنة والأرض..
وما كان مجيئي إلى هذا الكوكب الكبير في هذا اليوم الذي سيظل بصمة على سطور التاريخ إلا لتدشينه رفقتكن يا فلذات كبدي، وأمنيتي الوحيدة أن تبقين على متنه فتتوجنه بحكمتكن وتنرنه بحسنكن، ولا يخفى عليكن أن هذا الكوكب هو جائزة معتبرة للفائز في هذه المحاكمة.
رونق (متمتمة): إذن هذا التقسيم مؤقت..
ثم تسأل امرأة بجانبها، هل لك إخباري عن مصير الخاسر في المحاكمة؟
فتصرخ المرأة في وجهها غاضبة:صه، سوف تعرفين لاحقا.
وتكمل حواء خطبتها:
"فإذا كنا نحن النساء الفائزات في هذه المحاكمة، ظفرنا بنيله والتربع على عرشه مدى الحياة، والتمتع بما فيه من خيرات ونعم، وكأنه الجنة التي خرجنا منها، وهذا مبتغانا الأول والأخير.
أما إذا خسرنا – لا قدر الله – فما لنا إلا أن نجر أذيال الخيبة راجعات إلى الأرض نجد ونكد فيها لتحصيل لقمة العيش.
فلنحرص إذن على نيل هذا الكوكب المثالي، ونتشبث بحقوقنا ومبادئنا لتحقيق مرادنا، فنضع نقطة نهاية على سطور التضحيات.
عفوا، لقد خرجت عن موضوعي الأول، والمتعلق بتدشين هذا الكوكب المقترن بمحاكمة المرأة، والتي ستتم يوم الجمعة أي بعد غد.
فبعد أن أعلن الرجال محاكمتنا محاكمة لا بد من فوزها، بدأت في حملتي التوعوية التي تضم الحق في كل ما نمهد له ونخطوه... ولم أقبِل على هذه المحاكمة إلا لتحقيق الحق وسحق الباطل قدر ما استطعت، ولأجل هذا الحدث الجليل سنقوم بامتحانات في كل مكان من هذا الكون الذي يضم جميع البشر من أبيكم آدم إلى آخر مخلوق من هذه السنة – سنة الخير والبركة – 3000 للميلاد.
زمرد: سمعنا أن أبينا آدم سيقوم بمثل هذه الحملة التحسيسية، فهل سننجح في اختيار محامية تمثلنا؟
حواء: ولم لا يا صغيرتي؟ فنحن لا ننقص الرجال حكمة ورصانة وقوة عقل، ضفي إلى ذلك عاطفة إنسانة جياشة وعطاء مثاليا..
رونق: أماه، إن كوكبنا كبير، كيف سيتم الامتحان؟
حواء (مبتسمة): إن هذا الامتحان يا بنيتي كباقي الامتحانات التي كنتم تجرونها في المدارس والجامعات، غير أن هذه الأخيرة شهدت بعض مظاهر الغش والمصالح التي تداولها مجتمعنا الإنساني، ولتفادي مثل هذه الآفات أمرنا القاضي بوضع آلات تختبر كل ما في أذهان الممتازات منكن، ولعل هذا أفضل لبلوغ الهدف المنشود ألا وهو سيادة العدل.
بال: أنا وغيري نتساءل إن كان الرجال سيقومون بمثل هذه الاختبارات، فما رأيك يا أم البشر؟
حواء: نعم، لأن هذه الاختبارات من أوامر القاضي، ولأننا عندما فتحنا هذا الكوكب جعلنا له اسما يتعدى كل ظلم وباطل، أليس عالم الأقساط؟
ثم تضيف وهي على وشك الانصراف: إذن يجب عليكن التهيؤ لامتحان الغد، الامتحان الذي سيغير مجرى التاريخ، ويمسح كل مظاهر الشر من نفوس البشر.
وفي تلك اللحظة اعترضتها رونق بسؤال آخر: رويدك أم البشر، هل لنا أن نعلم ماهية القاضي؟
حواء (وهي تضع يدها على رأسها): آه، كدت أن أنسى، إن القاضي يا بناتي ولتجنب كل ما يزرع الشك في نزاهة المحاكمة، مخلوق ما شابهه بشر، بديهي النزعة، محق القول ذو عقل جامح وذاكرة خلاقة....
تهمس فكتوريا كاترين مبارحة مكانها السابق، "هيا بنا إلى اجتماع الرجال علنا نعرف موقفهم من هذا الحدث العظيم".
ثم تتسلل الفتاتان بين أشجار كثيفة لتبلغا مكان اجتماع الرجال، فتقف كاترين وراء صخرة كبيرة وتنادي فكتوريا قائلة:" هيا أسرعي في الاختباء وإلا تفطنوا لوجودنا" وهي تحاول استراق السمع والنظر.
تقول كاترين وهي تطبق رأسها: اقتربي بهدوء، لا زالوا في اجتماعهم السخيف.
ثم يبرز آدم مرفوع الرأس متقد العينين على منصة عالية مزينة بألوان قوس قزح، وهو يقول:
إنني أناشدكم تفويض رجل لنصرتكم في هذه المحاكمة، كي نحقق أحلامنا وآمالنا المنصبة حول امتلاك هذه الرياض الفسيحة الأرجاء، وطرد النساء منها لسيادة العالم الكامل.
حاتم (بصوت عال): بعد أن أنهيت كلامك يا أبا البشرية، أريد سؤالك مسبقا عن نسبة نجاح النساء في المحاكمة.
آدم (وهو يقهقه): نجاح النساء..؟!! لا أظن ذلك أبدا، فنحن من سيكلل بتوجيه الاتهامات، والنسبة ضعيفة لا محالة إن قورنت بنسبتنا، وسننتظر هذه النتيجة بفارغ الصبر، غدا تعلّق نتائج الاختبار وبعدها تحين المحاكمة.
وبعد إجراء الامتحانات بوضع آلات زودت بطاقة كبيرة تكشف مدى قدرة المترشحات والمترشحين الفكرية تحت إشراف القاضي، يخاطب آدم القاضي قائلا:
" .. انتهت العملية بنجاح، ولكننا حصدنا مجموعة من الرجال الذين بلغت نسبة ذكائهم الذروة، فما هي الخطوة التالية؟"
القاضي: فلننتقل إلى المرحلة الثانية وهي الاقتراع السري والمباشر حسب بنود قانون عالم الأقساط، لأن الوقت لن يتسع لإجراء امتحان آخر، وأعلم الجميع أن الاقتراع سيتم من الساعة السابعة صباحا إلى الثامنة مساء، كما يجب جمع المعلومات التي تخص كل مترشح ومترشحة ضمن استمارات بذكر اسم المترشح، وإلى أي عصر وبلد ينتمي..
وبعد انتهاء الإجراءات الانتخابية تم فرز الأوراق فإعلان النتيجة.
تبرز حواء بفستان أبيض طويل تداعب أذياله زهور الياسمين فتمشي مشية ملكة على بساط أبيض إلى أن تصل إلى مكانها الأول، وهي تحمل بيدها جملة أظرفة وأوراق، وعلامات السرور تعبث بمحياها فتقول:
" بعد أن تمت الانتخابات نزيهة لنا الآن إعلان اسم المرأة الممثلة للنساء في محاكمة المرأة، إن المرأة التي ستتحمل عبء تمثيلنا في محاكمة المرأة هي.. هي:
رونق فلتتفضل تحت تصفيقاتكن إلى جانبي للتعريف بنفسها"
ثم تبرز رونق حائرة وتقول متلعثمة: "أنا.." ثم تضيف " هل تقصدينني يا أم البشر؟"
حواء (مبتسمة): نعم يا بنيتي تقدمي إلى هذه المنصة لإلقاء كلمة تبرز أهدافك.
فتتقدم رونق وهي تلتفت خائفة ومحرجة فتقول في نفسها: " كيف سأتكلم بين جميع هؤلاء؟" ثم تستجمع قواها متمتمة: "لا بد من المحاولة".
تستعد رونق استعداد من يقدم مرغما على حرب ضروس، فتوجه كلامها إلى النساء وهي تصطنع الابتسامة:
"السلام عليكن يا أخواتي، إنه ليشرفني أن أرفع راية تمثيل المرأة في هذا الحدث الهام، ولا تكون هذه المهمة إلا عبئا ثقيلا عمن يقوم بها، فهي تكليف قبل أن تكون تشريفا.
وبعد أن ملت الأقلام والأوراق هذه المسألة العويصة التي راحت ضحيتها آلاف بل ملايين النساء وجب علينا مناقشتها مناقشة حضارية عادلة..، ثم أ لم تكن المرأة ضحية طوال عصور التاريخ؟
فابنة الجاهلية وئدت وهي قطعة لحم، وكم استنجدت باكية قلوبا ثكلتها وهي في التراب دفينة، لكن هيهات لها من مجيب، فضلا عن ابنة العشرين التي كانت توهب لنهر النيل خوفا من هيجانه، وما نسيت لن أنسى أجمل الجميلات التي كانت ترمي للبركان تحاشيا لثورته لتتلقاها حممه فترحب بها الترحيب الذي يليق بملكات الجمال، وبعبارة مختصرة كانت المرأة بين سطور التاريخ "كبش فداء".
ثم تتنهد بعمق وتضيف: " هذه بضع أمثلة اختصرتها من سجل التاريخ وغيرها الكثير الكثير كن تحصيل حاصل لنوبة جنون أو لجهل يهز وجدان كل امرأة لتثور وتنادي معا لتحقيق النصر في محاكمة المرأة.
وحينها تزدحم أصوات النساء وتصفيقاتهن إعجابا بكلمات رونق.
تتم رونق كلامها: أنا كما تعلمن يا حاضرات أدعى رونق، جئت من العصر الحديث وتحديدا من الألفية الثالثة، عشت حياتي في بلد نامية آنذاك.
درست الحقوق وتعلمت كيف تستطيع المرأة المطالبة بحقوقها من خلال القانون الوضعي والدين الإسلامي.. كنت كاتبة وشاعرة، وطالما كرست دواويني للمرأة بصفة عامة، والمناضلة بصفة خاصة.
أنا لا أنكر أن عصرنا لم يحلل وأد البنات، ولا كان يعمد إلى قتل السيدات، وأن قانوننا جعل من المرأة كيانا إنسانيا له بعض الحقوق، ولكن شتان بين وضع القانون وتطبيقه، فعلى الرغم من كل هذه الامتيازات إلا أن نظرات المجتمع بقيت تلاحقني على أنني ضعيفة لا حول لي ولا قوة، هذا عدا عن إلصاق التهم بي وجعلي المذنبة الأولى والأخيرة في ذلك الكون.
ومن أبرز مظاهر استهجاني أنه إذا تأخر ميلاد حامل الاسم العائلي ورزق الله رجلا مولودة كان لها من الأسى النصيب الأكبر فقط لأنها أنثى، وهذه أول إدانة للمرأة.
وحينها ترصدتها كلمات امرأة تجهلها: وما الإدانة الثانية يا ممثلة النساء؟
رونق: أما الإدانة الثانية التي تطاردها أينما كانت وكيفما كانت وضعيتها الاجتماعية، هي أنها تحتاج إلى من يعيلها وينفق عليها، لذا فهي تخضع مجبرة لقانون العائلة دونا عن القانون المطبق في المحاكم والذي يدرس في الجامعات، ويبيح هذا القانون للرجل أن يضرب أخته ويوبخها ويحتقرها دون مراعاة لفارق السن، وكان للأب أن يأخذ أموال ابنته دون رضاها أو استشارتها، وكذا يفعل الزوج وكل من تخضع لسلطته لا يفوّت فرصة التجبر عليها.
وكل هذا لا يساوي إلا قطرة في بحر عميق؛ بحر جشع وتسلط واستبداد، فكان لا بد من وجود هذا اليوم الذي يحد من اتهامات الرجال، وسنحرص على الانتصار لنختتم المعاناة بالتحرر من قيود حقيقية ووهمية وضعها المجتمع وطبقت على المرأة دون استفتاء.. إلى لقاء يجمعنا في الغد القريب في محاكمة المرأة.
وحينها علا التصفيق تلك الساحة الكبيرة تشجيعا لرونق.