أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: السبحة

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2018
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 79
    المواضيع : 21
    الردود : 79
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي السبحة

    السبحة

    تأمل أسراب السيارات التي تمرق عبر الشارع الطويل، تنساب كما لو أنها كريات صغيرة. لم تكن لها ألوان ولا أشكال مميزة، مجرد كريات مستديرة تتدحرج بسرعة في اتجاه مجهول.
    الناس أيضا يتحركون مثل كريات في خيط سبحة، تتقاطع اتجاهاتهم كأنها مرسومة سلفا، ومحددة خارج اختياراتهم.
    يعلو الغبار في الأفق، تزداد ملامح الأشياء قتامة، فتصبح هلامية. تذكر سبحة جده، كان يحرك خرزاتها ما بين السبابة والإبهام بسرعة مذهلة، يعلو محياه خشوع، وتتحرك شفتاه متمتمة في همس غير مسموع. كان يشعر أن هذه السبحة تملك قوة سحرية لا يدرك كنهها إلا صاحبها، لم يشاهدها قط إلا مع الشيوخ، فكان يجلس قبالة الجد بصمت يتأمل حركاته وتمتماته، حاول قدر الإمكان تبين حقيقة ما ينطق به بلا جدوى، سأل الأطفال عما يقوله الكبار وهم يحركون خرزات السبحة، فكان النقاش يفضي إلى مواضيع تعجز عن فك رموزها عقولهم الصغيرة.
    تذكر يوم نسيها الجد فوق "الزربية" فنط بحركة بهلوانية إلى مكان جلوسه، حاول تقليد حركاته وتحريك حبات السبحة، فكان يفشل كل مرة، ولما اعتراه اليأس حولها إلى لعبة يرمي بها في الهواء تارة، ويضعها حول عنقه تارة أخرى، ومن حيث لا يدري انفرطت السبحة، تناثرت خرزاتها في كل الاتجاهات، باءت محاولاته لإعادة جمعها بالفشل، فكانت ليلة نال فيها عقابا اختلط فيه الصفع والضرب على الأيدي...
    وبقي سر السبحة مكنونا، بلا تفسير.
    ومن فرط اندهاشه بسر الكريات، تعلم الحساب في المطبخ، بجانب أمه وهي تفسخ حبات الحمص وتفصل عنه الجلد بحركاتها السريعة وكذلك فعل مع حبات البازلاء، والعنب، والطماطم... وما شابه ذلك.
    وعشق الكرة لحد الجنون، كان يقضي يومه مع الأطفال سعيدا، مزهوا بإصاباته الرائعة، ولما يحين موعد غروب الشمس يجلس وحيدا يتأمل قرصها وهو يختفي ببط في الأفق ويعود إلى المنزل، مدركا أن ًزردةً *العصا في انتظاره.
    وفي الفصل كان يقضي وقته في تأمل رؤوس أصدقائه، مدققا في تضاريسها، فلا يعود إلى الواقع إلا بعد أن تهوي عصا المعلم فوق رأسه. أما درس الكواكب والنجوم فكان لحظة متعة بلا حدود، الأرض تدور والكواكب تدور ...
    والرأس، يدور، ويدور، ... والزمان يدور ...
    انتبه إليها تجلس بجانبه، أسبلت عينيها بغنج ودلال، نظر إليها بإمعان، الرأس العينان، الثديان كل شيء مدور ومكور ... . وابتسم، ...
    ردت له الابتسامة وسألته عن عمله، ابتسم وقال:
    -أنا كاتب.
    عقدت المفاجأة لسانها وقالت:
    -كاتب عمومي
    فقال:
    -لا ... أنا أكتب الروايات والشعر، والقصص ....
    فانفجرت ضاحكة وقالت:
    -هل لك أن تحكي لي واحدة من قصصك.
    أجابها قائلا:
    -قصصي تقرأ ولا تروى.
    فردت والابتسامة لا تفارق شفتيها:
    -وأين أجدها؟.
    وبجدية واضحة، أخبرها أن لديه منها الكثير في منزله، ولا يحمل معه إلا قصة قصيرة لا زال لم يكمل كتابتها بعد، أعطاها ورقة أخرجها من جيبه، وأحس بالدوار، يده ترتعد ، أصوات تتقارع في رأسه، آلام حادة ... ثم الظلام والسكون.
    لما استيقظ في الصباح، وجدها ممدة إلى جانبه، ثوب نوم شفاف، تضاريس جسدها أعادته إلى فكرته، إلى هوسه برؤية الأشياء مدورة مكورة، والرأس يدور ويدور ... والزمان يدور...
    عاد إلى النوم من جديد، بينما استغرقت هي في قراءة قصته:
    "تأمل أسراب السيارات التي تمرق عبر الشارع الطويل ... .
    انتبه إليها تجلس بجانبه ...".
    تساءلت بعد الانتهاء من قراءتها:
    -ترى متى كتب هذه الأشياء؟
    نهارا أم ليلا؟ قبل اللقاء، أم بعده؟.

    حسن لشهب
    *زردة : بالدارجة المغربية تعني وجبة دسمة

  2. #2
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2018
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 79
    المواضيع : 21
    الردود : 79
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    "تأمل أسراب السيارات التي تمرق عبر الشارع الطويل ... .
    انتبه إليها تجلس بجانبه ...".
    تساءلت بعد الانتهاء من قراءتها:
    -ترى متى كتب هذه الأشياء؟
    نهارا أم ليلا؟ قبل اللقاء، أم بعده؟.

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    طفل هو .. ولكنه وصل بفطرته إلى أصل الكون ـ فكل شيء في الكون يدور
    من أول الألكترونات، كوكب الأرض ، نظامنا الشمسي، حتى الشمس في دورانها حول نفسها
    قال تعالى: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل)
    جاء التكوير صفة لكل من الليل والنهار ـ وفي تكورهما إشارة إلى كروية الأرض.
    كل شيء في القصة هو أيضا في حالة دوران ـ حتى إن النهاية هى إكمال للدائرة
    التى كانت في البداية .
    مبدع أنت في رسم صور تطرب لها النفس، وتحلق في عوالمها
    نص تألق ـ ونبض فلسفي يتسرب عبر حروفك إلى عقل القاري فيشجيه
    دام ألقك وإبداعك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    ملحوظة : الزردة في اللهجة الليبية تختلف عن المغربية
    فهى تعني الرحلة جبلية كانت أو إلى الغابة أو إلى البحر ..


  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2018
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 79
    المواضيع : 21
    الردود : 79
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    الأستاذة نادية
    أثارتني إشارتك إلى معنى كلمة زردة باللهجة الليبية، والتي تعني الرحلة سواء للجبل أو الغابة أو البحر .
    في المغرب نسمي الرحلة إلى الغابة أو الطبيعة مع الأكل والغناء : النزاهة.
    هذا يبين كثيرا من الأمور والتقاطعات الدلالية في لهجاتنا العربية.
    مجرد إشارة قبل الإجابة على تعليقك الثري على هذا النص المتواضع.
    شكرا

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2018
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 79
    المواضيع : 21
    الردود : 79
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    الأديبة نادية
    ميزة القصة القصيرة أنها فضاء يعكس صورا ولحظات ننتقيها من حياة الإنسان والأهم هو تصورنا لوظيفة الحكاية التي قد لا تكون هي المستهدف من الكتابة، بل ما نريده منها وما نقرأه من خلالها.
    أصبت كبد النص ومفاصله من خلال تحليلك الثري المفيد.
    شكرا سيدتي .
    كل التقدير لك.