بالون الأحلام

بالون الأحلام
وسط الميدان الرئيسي لمدينتنا، وعلى طاولة مرتفعة، وبيده بوق، ينفخه بين الحين والآخر ، ويدور على كعبيه لينشر صوت البوق المزعج في الأنحاء،كان الرجل النحيل يرتدي ملابس المهرجين، وعلى رأسه قلنسوة ؛تشبه الطرطور بلغة سلطنتنا ، وعلى كتفه جراب
( خرج ) أحمر، منتفخ بما يحتويه.
وبين كل نفخة وأخرى ، كان يصيح بصوت حاد :
قرب ... قرب .. قرب .. خذ مني بالون السعادة، وحقق أحلامك، وعش حياتك.
لا تضيع الفرصة.
تووووت .... تووووت ... توووووت
قرب .. قرب ... قرب.
×××××
الناس تتقاطر إلى حيث يقف المهرج، حبا في استطلاع أمره؛ وعندما اقتربوا منه، تحلقوا حوله حتى سدت جميع منافذ الميدان وشوارعه. واحتشد الناس في ذلك اليوم الحار، يشاهدون أمرا بدا لهم جديدا في شوارع المدينة. ووقفوا يحملقون في ذلك المهرج ، الذي بادرهم بشرح المسألة:
بالون السعادة هذا، هو بالون الأحلام، تنفخ فيه بكل عزمك وقوتك ،حتى يصل الى حجم معين، فستجد نفسك داخله، نعم داخل البالون. وفيه، سترى أحلامك وسعادتك التي كنت تبحث عنها. داخل البالون ستجد كل ما تتمناه، وتفكر فيه وتحلم به، وترجوه. بشرط وحيد وبدونه لن يمكنك الدخول فيه . شرط وحيد .
×××××
هتف الناس: ماهو ...
أخبرنا به ...أخبرنا.
قل بربك .. ولا تتأخر.
المهرج: أن تكون صادقا فيما تحلم به.
الناس: لم نفهم. أوضح لنا.
إذ بدى أن الناس على وشك أن ينفذ صبرهم. خشى المهرج من أن يفتكوا به.فراح يهدئ من تسرعهم وإلحاحهم.
الشرط أن تكون صادقا .. بمعنى .. لو كنت شابا تسعى للزواج ممن تحب، يجب أن تملك النية الصادقة في أن تكون زوجا مخلصا وكريما،وأبا حنونا.
×××××
ولو كنت طالب علم وتتمنى الحصول على أعلى الدرجات العلمية ، يجب أن تتحرى الصدق في أنك تريد العلم لخدمة مجتمعك وليس لأي هدف آخر، للرياء والتفاخر والتسلط مثلا.
××××××
ولو كنت فتاة تحلمين بفارس أحلامك.. أن يكون لديك الصدق كزوجة صالحة وأم رؤوم.
×××××
ولو كنت تاجرا تريد لتجارتك أن تزدهر، فصف نيتك وهدفك ،في سبيل رقي ذاتك، وصالح أسرتك وبلدك وأن تكون تاجرا أمينا،لا في سبيل احتكار السوق ، أو التحكم في الأسعار، لتحقيق الربح الفاحش الحرام.
×××××
وإن كنت موظفا تريد ترقية في عملك، ففتش داخلك، لأي غرض تريد الترقية. لخدمة نظام الدولة وتطوير العمل، وتحقيق طموحك المشروع ،ورفع مستواك الوظيفي والمادي ،والاجتماعي، فلا ضرر منك، أم تريد السلطة لتتحكم في رقاب عباد الله والمستضعفين من الموظفين والمراجعين، وتعطل العمل بتفانينك القانونية، او تسعى لتكون مرتشيا فاسدا؟
×××××
ولو كنت فنانا ممثلا مثلا، أو أديبا، هل تريد انتشار فنك من أجل خدمة القيم الجميلة ،أم تنوى نشر الفحش والفساد والإباحية والعري والأكاذيب والأفكار الهدامة والرياء، والتفاهة في المجتمع؟ لابد أن تكون صادقا في نيتك للخير.
×××××
ولو كنت فقيرا أو باحثا عن المال والثروة، هل تنوي خدمة نفسك، وأهلك ،وجيرانك والفقراء من حولك ، وهل ستحسن كما أحسن الله إليك؟ أم ستتجبر على خلق الله وتبخل بمالك على المساكين ،وتفعل بمالك كل شر، وتنشر الفساد في الأرض؟
×××××
وأنت أيها العقيم ، وأنت أيتها العاقر، هل تريدان الذرية الصالحة، لتحمدا الله على قدرته، بتربية أولادكما تربية صالحة، أم لتنتجوا أجيالا مدللة فاسدة، أو لكي تتفاخروا بذريتكم على من حولكم ممن لم يرزقوا الولد؟
×××××
وأنت أيها الرياضي ؛يا من تحلم بتكوين جسد رياضي صحي لتنافس في مسابقات كمال الأجسام.. هل نريد البالون من أجل ان ترى قوة الله فيك وقدرته فتشكره على نعمته فيك بالدفاع عن الضعفاء؟ أم أنك تنوي التجبرعلى عباد الله في الأرض، وتنشر التنافس غير الشريف، والتناحر بين الفرق الرياضية ؟ كل منكم يصفي نيته. وينفخ في بالون الأحلام ، وكلما كانت نيتك صافية، كلما كان اختراقك للبالون أسرع، ولصار البالون متسعا لكل أحلامك وأمنياتك.
×××××
وأنت ،أيها المريض .. هل تريد شفاء يدفعك للخير أم سترتد على عقبيك ،وتتنمر بصحتك على من حولك؟
وأنت يا من تحلم بزيارة الأماكن المقدسة. هل تأكدت من أن مالك حلال؟ وأنك ذاهب إلى هناك لتتوب توبة نصوحا؟ أم رحت لسمعة ورياء؟
×××××
وأنت أيها المتمني أن تجاهد لتموت شهيدا؟ هل تريد البالون لذلك؟ أم أنك ستذهب للقتال حمية، ورياءا؟
كلكم جميعا مطالبون بتصفية النية وصقلها.
وكل حسب نيته.
توووت ... تووووت ... توووت
قرب .. قرب ... قرب ..
خد بالونك .. وجرب نفسك ؛وانفخ في أحلامك وأمنياتك ..
قرب ... قرب .. قرب .. ونجاحك مرتبط بصدق نواياك.
أو ستتحمل أنت وحدك نتائج سوء نيتك.
تووووت ... تووووت .
×××××
كانت البالونات تنفجر بعد ثوان من النفخ، وتلتصق بقاياها بوجوه النافخين فتشوهها، إلا القليل القليل منها ،فقد حلقت بأصحابها إلى عنان السماء ، وبدت ككواكب مبهرة الأضواء، وتمت لهم فرحة الدخول إلى بالون الأحلام السعيدة.
×××××
أما الملايين، فقد فشلوا فشلا ذريعا، وصاروا مشوهي الوجوه بصورة مخيفة؛ فما كان منهم إلا أن هجموا على المهرج، وداسوه بأقدامهم، وفتكوا به، واختطفوا جراب البالونات، وأخذوا يتنازعونها ويتجاذبونها بينهم؛ بحجة أن الرجل قد خدعهم ؛وزودهم ببالونات تالفة ومنتهية الصلاحية.
وكنت تشاهد على البعد ، سحابة من الغبار؛ وترى تحتها ملايين البالونات، وهي تتطاير في الأفق ،وتسمعها وهي تنفجر كالأشلاء مختلطة بصياح ، واستغاثات،وصراخ ،وألفاظ نابية، وسباب.
×××××
هربت إلى بيتي، أغلقت باب غرفتي على بإحكام. ورحت بهدوء الواثق أنفخ في بالون أحلامي. وجلست داخله، في غرفة مكيفة الهواء ، على مكتبي الفخم ،بين أوراقي الناصعة البياض، وأقلامي الحبيبة، لأكتب لكم، هذه القصة العجيبة.

أحلامنا آمالنا التي تسكننا ، بقاؤها هو بقاؤنا ، هي تمنياتنا التي إليها نطمح .. تظل تلازمنا ليل نهار حتى نعانقها ذات فرح
، نتعهدها بالصدق والاخلاص إلى أن يأذن لها المولى وتصبح حقيقة..
قصة جميل بفكرة عجائبية متميزة وفلسفة واضحة للحياةوبسرد قصي شائق
عمق في الفكرة مع طرافة في الحرف وسلاسةفي السرد
وكانت الخاتمة موفقة ـــــ تحياتي وتقديري.

أ. نادية ..
سعدت بتواجدكم العذب. ونقدمكم الواعي.وتلك سمة الناقد المتذوق، ذي الثقافة العميقة.
يعجبني كثيرا مفرداتك المستخدمة في صياغة الجمل النقدية وتوجيه النظر نحو الجوانب المتعددة للنص القصصي.تحيتي وتقديري.

ما من إنسان على وجه الأرض إلا وله أحلام وأمنيات يتمنى تحقيقها، ولكن القليل منهم
من يتحرون الصدق والأمانة طريقا لتحقيق أحلامهم.
من الفنتازيا قدمت قصتك برؤية غير مألوفة
السرد ماتع والفكرة جميلة والحبكة قوية .. فشكرا لك.

الأستاذة أسيل احمد
امتناني لتواجدكم العذب ،وتذوقكم الواعي، ونقدم الراقي.