أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الحرفوش الصغير صائما

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي الحرفوش الصغير صائما

    الحرفوش الصغير صائما
    اعترافات اليوم الأول
    بقلم محمد نديم علي
    لم يكن الحرفوش الصغير يعرف عن رمضان سوى أغاني الأطفال وفوانيسهم ، وصوت مدفع الإفطار ، وشراب قمر الدين اللذيذ ، والعيد الذي يأتي بعد الصيام ، أما الصوم فلم يكن لصاحبنا به علاقة إلا بمشاركة الصائمين طعامهم وعيدهم.
    لم يكن قد التحق بالمدرسة بعد أوهكذا يذكر أو ربما كانت إجازة منتصف عامه الدراسي الأول ، ربما وكان الفصل شتاء ، وأرادت أمه أن تعلمه الصوم قائلة :
    كفاك لعبا ولهوا ، آن لك أن تتعلم كيف تصوم كي تتعود على صيام رمضان عندما تكبر .
    أيقظته ليلا عل غير عادته بالطبع ، فقام بمشقة بالغة ، كان نصف نائم ، يتمايل برأسه يمينا ويسارا ، أحسس بجسده كسعفة نخيل تطوحها الريح ، مغبش البصر ، ولم يدر كيف استطاعت أمه أن تغسل له وجهه ويديه ، كان مغيبا مساقا لا يدري كوعه من بوعه.
    أحس بيدها تشير إليه :
    كل ، مد يدك فالطعام أمامك .
    لا يذكر ليلتها ما كنه الطعام ، ولكن يده لم تكن لتحط في الإناء الصحيح ، فمرة في إناء العسل ، وكان يقصد غيره ، ومرة في إناء الماء ، وكان يقصد إناء الجبن ،ومرات يدس اللقمة في الفراغ.
    هكذا نصف مغمض كان، يركبه شيطان النوم ويثقل رأسه ، ويشده إلى بئر عميقة لذيذ، إذ كان يجلس فوق سريره وبين يده صينية باردة الأطراف ، ما يزعجه فيها أنها كانت باردة الملمس. فتحرك تلافيا لبرودتها ، قيل له صباح اليوم التالي أنه قد قلب الأطباق بعضها فوق بعض.فلا بقي شيء على حاله واختلط الأمر بين الماء والجبن والشاي والعسل. (ما علينا).
    المهم الآن أن تكمل صيام يومك ، وسوف تؤجر عليه في الآخرة ، ويوم العيد بعيدية مضاعفة .
    كان على الحرفوش الصغير أن يتدبر أمره في يوم طويل ، وهو الذي اعتاد فيه ألا يقر ساكنا في بقعة من أرض الله ، فلقد كان عفريتا من الإنس ، لا تراه قائما إلا وينقلب قاعدا ، ولا يقر ماشيا كثيرا،بل طائرا، إذ تراه فوق النوافذ ورؤوس الأبواب ، وأغصان الأشجار ، وأذرعة الدرج النازلة في انحناء مغر بالتزحلق .
    حركة دائبة لا راحة فيها ولا سكينة ، سوى محطة بين كل نشاط وآخر ، يركض فيها إلى مطبخ بيتهم ، ليخطف شطيرة من جبن أو قطعة من فاكهة ، أوشيئا من حلوى أو فطير، أو شربة من ماء بارد رقراق.
    المهم أن كل أعضاء جسده النحيل كانت تعمل في نشاط مبين؛ رجلاه ، أقدامه، ذراعاه ، أسنانه ، كان دائب القفز والكر والفر ، لينام قبيل الغروب كقطعة من قماش مهلهل.
    ماذا يفعل في يوم صيامه الأول ؟ بداية صحوته من نومه ، كاد أن ينسى ويشرب ماءا ، أول القصيدة نسيان ، لا يهم كانت أمه خلفه تحذره وتدفعه بعيدا عن مورد الماء اللذيذ ، وثاني الأفاعيل أنه بمرور ساعات الضحى الأولى ، وقف أمام المرآة ، ينظر إلى لسانه ، سمع من أقرانه أن لسان الصائم لونه أبيض ، أما المفطر فيكون أحمرا ، اطمأن أن لسانه كان شديد البياض ، فركض إلى حارتهم الأثيرة ، مرتع ألعابهم ومسكن عفاريت الأطفال الهائمين في لهوهم الرائع .
    ركض نحو أقرانه متباهيا بصومه ، ووقفوا جميعا في اهتمام واضح يفتشون ألسنة بعضهم البعض ، ينظرون ، يفحصون ، يقررون ، ويتصايحون ، ومن تثبت في نظر محكمتهم تهمة الإفطار عليه ، تكون فضيحته بجلاجل.

    علم الحرفوش ، بعد تقدمه في العمر أن جل أقرانه كانوا مفطرين ، حيث كانوا يشربون شيئا من لبن الحليب ، أو يأكلون شيئا من الزبادي، قبل خروجهم إلى الشارع ، وبذلك كانوا يخادعون باقي الأقران، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. وهكذا فقد شرب صاحبنا ذلك المقلب سنين عددا.

    أقترب الظهر ، ذهب إلى أمه يتلوى، ممسكا ببطنه ، مقطبا جبينه ، مستحثا نظرات الإشفاق من عينيها ، لكنها تجاهلته ، ( كن رجلا ) وانس أن ترى الطعام قبل آذان المغرب ، غافلها إلى المطبخ في ثوان ، لكنه لم يجد شيئا ذا معنى ، وكأن كل صنوف الطعام فرت من أمامه ، إذ تعمدت أمه ألا تظهر الأواني إلا فارغة، لمح إناءا صغيرا يحتوي بعض التمرات السمراء ، وفجأة صاحت به ، انتفض على صوتها : ماذا تفعل هنا؟ -
    - عطشان ، بطني تؤلمني .
    - اصبر وكن جلدا.استرح في سريرك ، إقرأ قصة ، إقرأ في المصحف ، ألم يعلمك شيخك في الكتاب كيف تقرأ كتاب الله؟
    أمسك بمصحف أبيه ، كانت نظراته الزائغة لا تمسك بحرف واحد واضح الملامح ، وكان صوته لا يكاد يخرج من بين شفتيه.حاول النوم، لكنه لم يستطع.

    فخرج بهدوء ،وساقاه بالكاد تحمل جسده الممصوص إلى بعض أقرانه يتصايحون وهم يلعبوا بالكرة ، خرج يجرجر رجليه ، متلفتا ، ليتأكد أن أمه لم تره وقد اختلس من مطبخها في جيبه تمرة واحدة، نعم .. تمرة واحدة تكفي.

    شعر الحرفوش الصغير أن التمرة كأنها حجر كبير يثقل وجدانه في قاع جيب بنطاله ،، وأحس أن كل عيون الناس بالحارة يرونها بارزة في جيبه ، قلبه يدق بعنف ، عليه أن يصبر فلم يبق سوى القليل ، فالعصر اقترب ،وما هي إلا بضع سويعات وتلم الشمس جدائلها للمغيب ، ويكون الإفطار لذيذا ، تكور فوق رصيف الشارع مشاهدا مباراة كرة القدم بين صبيان الحي ، عازفا عن المشاركة لشعوره بالتعب،فبالكاد يتردد نفسه بين جنبيه ، وكانت بطنه تقرقر وتغوص به إلى أحلام الأطعمة اللذيذة ، التي كانت روائحها قد بدأت تزكم أنفه الصغير وتداعب خياله الموجوع .
    إذ نهضت النسوة على طول الحارات والشوارع، وشمرن عن سواعد الطبخ ، وامتلأ الفضاء المحيط بأصوات ودخان وأبخرة شتى ،أدارت رأس صاحبنا ، فتسللت أصابعه الصغيرة إلى (خبيئته) تمرته المغتصبة ، تحسسها ، لفها بين أصبعين وخرج بها من جيبه ، أسند كفه النحيلة فوق ركبتيه كأنه مستند إليهما، كي لا يلفت إليه الأنظار ، ثم أسند خده على كفه فصارت التمرة بينهما ، لف وجهه يشمها ، نعم ، لكن صوت أمه ما زال يتردد صداه في إذنيه :
    اصبر علشان ربنا يحبك.
    وتناهت أغنية يرددها صغار الحي : يا فاطر رمضان يا خاسر دينك، كلبتنا السودا تقطع مصارينك .

    اهتز رعبا وندما ، وأرجع التمرة ، التي كادت أن تسقط منه أرضا ، إلى جيبه، فحمد الله على السلامة، أن لم يره أحد، وشكره على نعمة الستر ،وعدم الفضيحة.

    راحت الكرة بعيدا ، تعلل أنه سيعيدها لهم ، وغاب هناك خلف باب أحد الدور وأخرج التمرة من جديد ، كانت تداعبه ، وتغريه أن يأكلها ، كان بهو الدرج مظلما ، لا أحد هنا ، لكن الأمر لم يتم ، إذ فرت من بين يديه قطة أفزعته ، تفر من طفل شقي يركض خلفها من فوق الدرج ، فصارا (مفزوعا يخاف من مفزوع.) فسطقت تمرته في الظلام ، وخرج دون أن يفلح شيطانه في إغوائه.

    انطلق مدفع رمضان!
    شعر بالزهو والفخر الرائع حين سمع هديره، فاهتز لوقعه ذلك الحي القاهري الفاطمي القديم . صاح الأطفال والصبية صيحات الحبور وفروا كالعصافير إلى بيوت ذويهم .

    لم يصدق الحرفوش الصغير نفسه ، كان شبه مذهول . ونشوته لا توصف؛ مشى إلى بيته مرفوع الرأس ، ملتبس الخطى،خائر القوى، أحتضنته أمه في صدرها وناولته شربة ماء، غامت عيناه قليلا بمجرد ملامسة الماء لحلقه ؛لم يذق ماءا بهذه اللذة من قبل، وأتحفته بشيء من التمر الطري، كانت بطنه تقرقر ، فأجلسته لينهي مضغ تمراته في هدوء ، وأخذته إلى صلاة المغرب خلفها.

    لم يدر من أين وكيف يبدأ طعامه ، فكل الطعام كان لذيذا .
    - لا تكثر كي لا توجعك لذنك.
    لم يلق بالا لنصيحة أمه.
    فقد كان يزدرد الطعام بصوت مسموع، حتى صار كالجراب المنتفخ، وتصبب العرق من جبينه الصغير، ثم انقلب على وسادته، وسرعان ما غط في نوم عميق.
    .

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    هى ذكرى من أعمق الذكريات وأجملها في حياة كل منا ـ ذكرى الصيام الأول في رمضان
    وما صاحب ذلك من معاناة للجوع والعطش ـ ثم الشعور بالفخر إذا استطعنا المثابرة
    حتى الوصول إلى المغرب وحلاوة الطعام بعد معاناة الجوع.
    وسياسة الترهيب والترغيب التي كان يتبعها الوالدين للحث على الصيام.
    ثم كبرنا لنعيش نفس التجربة مع أولادنا لنعلمهم وندربهم على الصيام
    ونعيدها مرة أخرى باستمتاع مع الأحفاد.
    قضة ماتعة بأسلوبها الأدبي الرشيق وبوصف دقيق وصياغة محكمة
    أجدت وأبدعت انسيابا وتصويرا وأطربت الذائقة
    دمت متألقا ودام لك الإبداع رفيقا.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    نظل ذكريات الطفولة حاضرة في الوجدان، مع كل حدث إنساني نمر به، كنا قد فعلناه لأول مرة، ونحن نبدأ فاتحة الحياة ، ونستهل بها نشاطنا الإنساني. لم أتمالك نفسي من الشعور بالحنان، والدهشة معا، حين بدأت حفيدتي الصغيرة، أول تجاربها في تناول العسل الأسود. لم تكن تعرف اسمه ، فقد ذكرت لأمها أنها تريد أن تفطر على ذلك الشيء الأسود، حلو المذاق ،الذي أكلته منذ أيام ولا تعرف اسمه!
    أشياء صغيرة ربما لا نهتم بها، لكنها تمثل تراكما ثقافيا ومعرفيا للطفل ،يحمله معه في مسيرة حياته الطويلة، ويصبح جزءا من تكوينه النفسي والعقلي وجانبا من شخصيته ووجدانه.
    أ. نادية ... تحياتي بتفاعلك الراقي.
    أسعد الله أوقاتكم.