تعرض لهذا الموضوع الشيخ عبدالقاهر الجرجاني وذكر أمثلة منها هذا المثال العجيب وهو شاهد نحوي موجود في كتب النحو وتكلم عنه النحاة :
قد أصبحت أم الخيار تدعي
علي ذنباً كلُّه لم أصنع
برفع كلمة كله فتعرب مبتدأ والجملة الفعلية بعدها خبر ومفعول الفعل أصنع محذوف وتقدير الكلام كله لم أصنعه .
النحاة عندهم عدم التقدير أولى من التقدير أي تقدير محذوف كما احتجنا في هذا البيت أن نقدر محذوف ليكون مفعولا به فلايصح أن يبقى هذا الفعل بلا مفعول به ولءلك قالوا كان الأولى أن ينصب الشاعر كلمة كل لتكون هي المفعول به فلايحتاج الى تقدير مقعول به برفع الكلمة .
وهذه المسألة هي مسألة تقديم المفعول به على الفاعل والفعل فإذا أبقيناه منصوبا لانضيف شيئا مثل : ضرب زيدٌ عمرا نقدم المفعول فنقول : عمراً ضرب زيدٌ لكن إذا رفعنا المفعول به سيصير المفعول به مبتدأ وبالتالي نحتاج الى أن نجعل ضميره مفعولا به : عمروٌ ضربه زيدٌ الهاء في ضربه هو ضمير يعود على عمرو .
تعجب علماء النحو من أن الشاعر رفع كلمة كله ولم ينصبها وليس الموضع موضع ضرورة أي الضرورات الشعرية .
وتعجب الشيخ عبدالقاهر من ذلك لأن المعنى برفع كله غير المعنى بنصبها :
بنصب كله يصير المعنى : لم أصنع كله يعني أنه صنع بعضه مع زيادة معنى بتقديم المفعول أما برفع كله يصير المعنى : كله لم أصنعه يعني لم يصنع منه شيئا .
إذا نصب فإنه ينفي العموم وإذا رفع فإنه يعمم النفي ونفي العموم غير عموم النفي لأن كلمة كل تعني العموم فإذا وقعت في نفي فالنفي يكون إما نفي للعموم وإما عموم للنفي بحيث يشمل جميع أجزاء هذا العموم تقول :
ماضربت جميع القوم
تنفي العموم يعني ضربت بعضهم
وتقول : جميع القوم ماضربت أحدا منهم
تعمم النفي على جميع القوم ولذلك قلت أحدا منهم لأنك تعمم النفي على جميع أجزاء القوم أي لم تضرب أي شخص منهم .
حسب نظرية النظم الشاعر رفع كلمة كله ولم ينصبها لأنه توخى معنى في رفعها ليس موجودا في نصبها .
وهنا لابد أن نتساءل لماذا علماء النحو لم يعرفوا هذا وعرفه الشيخ عبدالقاهر الجرجاني .
وحتى تتعجب أكثر أقول لك ماقاله ابن جني عن المسألة حيث قال بأن الشاعر رفع كله ولم ينصبها فاستعمل ضرورة حيث لاضرورة لأنه أراد أن يمهد للشعراء استعمال الضرورات الشعرية وابن جني هذا عالم جهبذ له كتاب لامثيل له في العربية اسمه الخصائص لم يسبق ولم يلحق وهو الذي قال عنه المتنبي ابن حني أعلم بشعري مني لما وضح للمتنبي شيئا في شعره يجهله المتنبي فتعجب المتنبي وقال هذه الكلمة وكذلك له كتاب يشرح فيه أبيات المتنبي التي فيها إشكال .
أعتقد أنك الآن أيها القارئ قد عرفت قيمة ابن جني وزاد تعجبك لأن المعنى واضح في البيت .
إنها طريقة التفكير فالنحاة يفكرون تفكيرا نحويا يصححون القاعدة النحوية ويثبتون المعنى ولكن لايتعمقون في المعنى لكن الشيخ عبدالقاهر يفكر بطريقة نظرية النظم والمعاني النحوية فعرف أن الشاعر لم يرفع كلمة كله ضرورة ولكنه توخى المعنى النحوي الذي في رفعها .
وهذا مثال قد يوضح الموضوع ان شاء الله
من أهم الأشياء في تحليل النصوص هو الإعراب فذات مرة في منتدى سأل أحدهم عن إعراب ثلاثة في هذا البيت :
ثلاثة يذهبن مابي من حزن
الماء والخضرة والوجه الحسن
فأجابه نحوي ذو علم غزير أن إعرابها مبتدأ.
هذا صحيح وكذلك يجوز أن تعرب خبرا وهي تعرب مبتدأ لأن كلمة ثلاثة في الأصل نكرة والنكرة لايبتدأ بها فلاتكون مبتدأ لكن لما وصفت بحملة يذهبن مابي من حزن تخصصت فقل إبهامها فصار يجوز في علم النحو أن تكون مبتدأ .
لاحظ تفكير هذا النحوي يفكر حسب قواعد النحو بدون أن يهتم بصنعة الشاعر وبلاغته .
إعراب كلمة ثلاثة مبتدأ صحيح من خلال علم النحو ولكنه غير صحيح من خلال صنعة الشاعر وبلاغته لأن الشاعر إنما قدم الخبر ثلاثة لغرض التشويق ولذلك وصفه بجملة فيها تشويق يذهبن مابي من حزن ليشوق القارئ لمعرفة ماهي وإعراب ثلاثة مبتدأ ليس فيه هذا المعنى .
والله أعلم