أتى اليوم المشهود، إنها محاكمة المرأة، التف جميع البشر حول تلك القاعة الجميلة المزخرفة بشتى أنواع المجوهرات، التي تتسع لكل البشر بما يحملون من معتقدات وتقاليد ولغات وديانات.
لم ينتظر القاضي كثيرا حتى حضر كل الأطراف الممثلين، وكذا الشهود دون نسيان آدم وحواء ضيفا الشرف في هذه المحاكمة، وقبل بداية المحاكمة سأل القاضي الطرفين الصلح قائلا:
" لا أستطيع تفويت فرصة سؤالكما نسيان الضغائن، والتسليم بالصلح لتعيشا معا حياة سعيدة على متن هذا الكوكب المثالي، فلا تشوهه أحقاد ولا تلوثه طبائع البشر، فما رأيكما؟
يقول حاتم – ممثل الرجال – في تكبر مبالغ فيه: ليس سهلا أن نعود أدراجنا بعد كل الخطوات التي مررنا بها.
ثم يضيف: آسف، لا صلح في لحظة كهذه.
القاضي مخاطبا رونق: وما رأيك يا ممثلة النساء؟
فتجيب رونق بهدوء: أنا أرى أن هذا السؤال شكلي لا مضمون له، وأظنك تعلم يا سيدي القاضي أن الصلح في مثل هذه الحالة من طرف واحد يدعى استسلاما، وهذا ما لن يكون أبدا.
ثم تقول بصوت تملؤه الثقة: إن كل الآمال معلقة على هذه المحاكمة فأنى لنا محوها بكلمة واحدة؟
يقرر القاضي افتتاح الجلسة الأولى والأخيرة ، فيقول وهو يغلق أزرار مئزره:
نقرر الآن افتتاح جلسة المحاكمة في هذا الموضوع الشائك الذي قاده الجهل إلى بيوتكم، وحركته العصبية والتشدد المزروع في معتقداتكم، وطورته عادات وتقاليد لا تزال مستوطنة فيكم، وبعد أن أخفقت أنامل الاتهام في حصده، وراح ضحيته العديد من البشر قررنا أن نضع له حدا.
وشاء القدر أن يكون حاتم ورونق من نفس العصر ألا وهو العصر الحديث، فرونق دارسة حقوق وشاعرة، أما حاتم فهو أستاذ أدب ولغة، ملم بالتاريخ، وكذا الشريعة فليتفضلا إلى مكانهما...
ثم يضيف: أرجو من الحضور التزام الصمت أثناء المحاكمة احتراما لقواعد قانون الأقساط، وإلا اضطررت إلى طرد المثيرين للضجة.
وبعد أن حبست الأنفاس، وتراكضت النبضات، وتراكمت الزفرات فتحت الجلسة، فاستهلت بصوت مطرقة القاضي التي تعودنا سماعها، وكان الطرفان يخمنان في الطريقة السهلة للفوز بالبراءة ونيل وسام الكمال، وتملك الجائزة المعتبرة.
على أن القاضي لم يفضل أحدهما بأولوية الحوار إقرارا لمبدأ المساواة المتبنى في عالم الأقساط، فبدأ الطرفان بالتشاجر والسبب أن كل واحد منهما يريد افتتاح الحوار، استند حاتم على مبدأ القوامة ظنا منه أنه يؤهله بداية سرد الاتهامات، أما رونق فتمسكت بالمبدأ الغربي القائل: "النساء أولا"، فسادت الضجة أرجاء القاعة الواسعة إلى أن طرق القاضي على مكتبه قصد إعادة الصمت إلى المحاكمة.
لم يتمكن القاضي من زج أحد الطرفين في السجن بتهمة الإخلال بالنظام العام وعرقلة سير المحاكمة، لذا ابتدع حيلة تخرجه من هذا المأزق، فأخذ قطعة نقود وقال: "إذا أسفرت هذه القطعة النقدية على رسم رجل سيبدأ حاتم الحوار، والعكس صحيح.
رمى القاضي القطعة النقدية ولسخافة الموقف انهال كل من حاتم ورونق لتصيدها، فوقعت على الأرض وجاءت برسم رجل.
أصرت رونق على إعادة القرعة مرة، اثنان وثلاثة..، فتوالت الكرات ونفس الرسم يجتاح القرعة إلى أن شكت رونق بنزاهتها، وأبت إلا رؤية القطعة النقدية، وبعد اطلاعها عليها اكتشفت أنها لا تحمل رسم امرأة، وحينها عم الصفير القاعة، فالمحاكمة كادت تبدأ بخدعة بريئة.
استاء القاضي مما ظهر عليه من تحيز غير مقصود فاخترع حيلة جديدة علها تعينهم في بداية المحاكمة، وتمثلت هذه الحيلة في تعداد الرجال والنساء المتواجدين بين جدران القاعة، على أن تكون الأولوية للأغلبية.
ولكنه استعان بمعادلة غريبة حيث جعل امرأة + امرأة = رجلا ، ولأن عدد الحاضرين هائل أتى القاضي بآلة ووضعها على الجانب الأيسر، أين كانت تجلس النساء، فأعطته العدد
بالملايير، وكذلك فعل مع الرجال، ثم قارب العددين فإذا بعدد الرجال أزيد من عدد النساء – حسب المعادلة السابقة – برجل واحد.
وهكذا بدأ حاتم بسرد اتهاماته بعد أن أذن له القاضي بذلك ليقول:
"سيدي القاضي، لقد عاني الرجال من صنف النساء معاناة لا حدود لها، ولعل أبرز قصة نخرجها من سطور التاريخ هي قصة شجرة الخلد، فمن لا يدري أن أمها حواء ساهمت في خطيئة أبينا آدم، بل أقول أنها من وسوسه للخروج من الجنة ونعيمها، ليورثنا الأرض بجحيمها وفنائها، بعد أن عجز الشيطان عن إغواء آدم بقطف التفاحة من تلك الشجرة المحرمة عليهما.
ثم يضيف بتهكم: نعم عجز الشيطان وأفلحت المرأة المخلوقة من ضلع الرجل، وقد صدق المثل القائل أن الشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة.
ودون أن يتم حاتم حديثه تعالت أصوات الرجال الضاحكين المستفزة للنساء، وفي نفس الوقت كانت رونق تفكر في حل يخرجها من قفص الاتهام.
استرسل حاتم في اتهاماته حيث قال أن المرأة جعلت من الرجل لعبة تلهو بها متى تشاء، وتصنع منها ملاذا لعقدها وأمراضها النفسية، أليست من أقام حروبا عمرت عشرات الأعوام، وساهم بدمار ما بعده دمار؟؟ وأرى أن حرب البسوس خير دليل على ذلك، فمن لا ينكر أن المرأة أودت بتلك القبيلتين المتشابكتين إلى حرب ضروس لم نعرف نهايتها إلا بعد أربعين عاما.. أربعين عاما من الخراب والمعارك التي أراقت أنهار دماء وكادت أن تحكم على الحياة بالانقراض.. أبعد كل هذا تنكرين كونك مجرمة، وتريدين الخروج من دائرة التجريم خروج السالم من المعارك؟ أي سخافة هذه؟؟
وبعد أن أتم حاتم كلامه منح القاضي لرونق الحق في الدفاع قائلا:
" ما رأيك يا ممثلة النساء في الاتهامات الموجهة إليك؟"
رونق: كذب وافتراء يا نصير العدل.
القاضي: أتني إذن ببراهين تجسد قولك هذا.
فقالت رونق وهي تحطم جدار الخوف بعد أن كان طاغيا عليها:
ماذا أقول يا سيدي القاضي، لا أحد أنصفني في تاريخ امتد طويلا وكنت على مرّه الضحية الأولى والأخيرة.
القاضي: فلتثبتي صدق ما تقولين إذن.
رونق: زعم الرجل أنني أو بالأحرى أمي الأولى مخرجة سيدنا آدم من الجنة... وأنني أرغمته على الأكل من تلك الشجرة الملعونة، فلِم كان قول القرآن مخالفا لذلك؟
ألم يقل جل وعلا: "فأزلهما الشيطان عنها.." ثم تضيف والسخرية تطغى على كلامها: وإن كنت لا تعلم تأويل "فأزلهما" يا أستاذ اللغة العربية، فالضمير المتصل "هما" وجد لكل من المرأة والرجل، وقلت أنني من وسوسه فلم يقول تعالى "فوسوس إليه الشيطان"، وأظن أنني لا أدعى بالشيطان يا أيها الرجل.
القاضي (مقاطعا إياها): يبدو أن لك خلفية لا بأس بها في مداعبة الكلمات وإعطاء الحجج والتحليلات، فلتكملي ردودك على اتهامات حاتم.
تستدير رونق قليلا إلى الوراء كأنما تبحث عن شيء ما ثم تعود إلى أجواء المحاكمة قائلة: سمعا وطاعة يا سيدي، ثم تخاطب حاتم بقولها:
أما عما زعمته عن كوني أستلذ بعذاب الآخرين وأنني مريقة للدماء، آسفة أن أقول أنك مخطئ.
وأظن أنك لا تعرف من حرب البسوس سوى اسمها، فلو تمعنت في صفحات التاريخ لوجدت أن من قام بها رجل لا امرأة، وقد كان يدعى بالمهلهل أو الزير سالم، فبدل أن يقتل رجلا واحدا فداء لكليب قتل العشرات، ومن جملة ما نظمه قوله وهو يتهدد بني شيبان:
لما نعـى الناعي كليبــا أظلمت شمس النهـار فمــا تريد طلوعا.
قتلوا كليبا ثـم قالــوا: "ارتعوا: كذبوا، فقـد منعوا الجيـاد رتوعـا.
كلا و أنصاب لنــا عاديـــة معبــــودة قـد قطعـت تقطيعـا.
حتـى أبيــــد قبيلة، وقبيلة و قبيلة، وقبيلتيــــن جميعــا.
وتذوق بأسا آل بكر كلهـــا، وانهــد منهـا سمكهـا المرفوعا.
حتـى نرى اوصالهم، وجماجما، منهــم عليهـا الخامعات وقوعـا.
ونرى سبـاع البر تنقر أعينـا، و تجــر أعضـاء لهم وضلوعـا.
ألا ترى أن هذه الأبيات تبرز مدى شراسة الرجال وحبهم لسفك الدماء والتنكيل بالمبادئ السامية واستمرار الحياة؟؟
كما أن عدد الرجال السفاحين هائل لا حصر له، وعدّ معي – إن استطعت – أسماء بارزة في تاريخنا الذي لم يحرف بعد.
فها هو قابيل يقتل أخاه هابيلا، فيعلم البشر ماهية الجرائم بجنايته العظمى، ثم أ لم تصل إلى مسامعك جرائم فرعون، ذلك الطاغية المستبد، الذي كان يقتل الأولاد خوفا على عرشه وملكوته الزائل، وضف إليه نابليون بونابرت الذي كان يجمع أكبر عدد من الأراضي على حساب دماء الآخرين، وكذا هتلر الذي شن حروبا ومعاركا من أجل إعلاء راية النازية، ولكي يسود العالم الجنس الآري على حد تفكيره، ومن لم يشهد بوحشية رئيس الوزراء اليهودي شارون الذي نكل بالفلسطينيين أشد التنكيل، وأخذ في التوسع شيئا فشيئا في البلاد العربية مستعملا أخطر التقنيات، مدعيا أن الشعب اليهودي هو شعب الله المختار.
تتنهد رونق بعمق ثم تكمل: وبعبارة موجزة أقول أن نسبة النساء القامعات هي 0.1 بالمائة من نسبة الرجال، إن صح تقديري، وأعطني أدلة تخالف قولي هذا إن كنت تريد الاستمرار في
المحاكمة، وإلا فلتأت براية تنبؤ باستسلامك أيها المدعي.
ثم تذكر متداركة: آه، نسيت أن أضيف أن كل الرجال العظماء الذين تفتخر بهم أنت وأبناء جنسك كانت وراءهم نساء عظيمات لم تدخل معظمها كتب التاريخ، لكنها بقيت على ألسنة الناس، فمن لم يشهد بعظمة خديجة زوجة الرسول – صلوات الله عليه – وأم المؤمنين؛ ألم تساند زوجها في حمل ثقل الرسالة السماوية التي كلفه الله بها، ناهيك عن آسيا عقيلة فرعون التي ساندت كلمة الحق رغم شراسة زوجها وحبه لإراقة الدماء، رضوان الله عليهن، والأسماء كثيرة لولا ضيق الوقت لذكرتها.وقد صدق أحمد أمين الكاتب الفذ عندما قال: "أ تعلم المرأة لما خلقها الله؟ خلقها لتجعل من الرجال عظماء".
وخلاصة القول: وراء كل رجل عظيم امرأة ..
تحفز حاتم للكلام ثم أخذ يتمتم ساخرا: نعم وراء كل رجل عظيم امرأة شريرة... تسحبه إلى الخلف.
القاضي: ما أنت متمتم أيها الرجل؟ أنا لم أعهد هذا الجبن في الرجال من قبل..
رونق: أظنه ذكرني، لكن صوته كان خافتا جدا..
ارتبك حاتم قليلا ثم استجمع قواه قائلا:
... لقد كنت أقول أن هذا لا يمنع من وجود بعض النساء الشرسات، المحبات لخطف النفوس، وإدانة الأرواح، وكم جميل أن أرى بين صفحات التاريخ امرأتي لوط ونوح، واسمهما كما أظن: والهة ووالغة، هما مثال حي على النساء اللواتي سكنهن الشيطان وتولى مهنة قيادتهن، والدليل على ذلك أن الله ذكرهما في القرآن الكريم..
ثم يضيف: ثم من لم يسمع بفضاعة ما فعلت هند ابنة الجاهلية حين حرضت رجلا لقتل حمزة، المسلم الأبي، وأوصت بالإتيان بكبده تلوكه وتستلذ برؤيته منفصلا عن جسده، أي وحشية تفوق هذه الوحشية؟
إن حب المرأة للدماء فاق كل التصورات، وعرض العالم للدمار في كل لحظة..
يقول القاضي وقد تملكته الرغبة في معرفة دفوع رونق:
"هيا يا ممثلة النساء، ادفعي بالتي هي أحسن.."
رونق: أنا لا أنكر أن بعض النساء كنن عدوانيات، وحق لهن ذلك.. ودون أن تنهي رونق كلامها سادت الضجة ثنايا القاعة السحرية المرصعة بألوان الجواهر المتلألئة، فقالت امرأة:
"أ عيناك ممثلة لنا كي تشتميننا؟"
وقالت أخرى: "تبا لك أهكذا يكون الدفاع عن الحقوق؟"
لم تكترث رونق لكلماتهما وقالت: "أنظروا مبتغاي لا كلماتي"
ثم أتبعت الزفرات وأتمت حديثها: إن ذلك يا ندي الرجل كان بسببك أنت...
فيقاطعها حاتم قائلا: وما دخلي أنا في جرائمك؟ ألا تستطيعين الكف عن إلصاق التهم بالأبرياء يا أيتها المرأة.
القاضي مخاطبا حاتم وعلامات الغضب تستبد بوجهه:
من سمح لك بالكلام، أم أنك خلت نفسك القاضي؟
حاتم: آسف سيدي.
القاضي: إذا أعدت تدخلاتك هذه مرة أخرى سوف أعاقبك عقابا شديدا.
ثم يلتفت إلى رونق ويقول: لتكملي كلامك أيتها المرأة..
رونق: حاضر سيدي..
وتوجه كلامها مجددا لحاتم: نعم أنت من أراد أن يفرض سيطرته وتسلطه علي، ولأنني لم أستطع الصراخ في وجهك والتحرر من قيودك عمدت إلى طريقة أخرى تشفي غليلي منك.
وأود أن أبدأ من أين انتهيت: هند، ابنة الجاهلية، من قتل لها حمزة أباها وأخاها.. أرادت أن تثأر لهما، وأنا أشهد للرجال بغباء لاذع، فأنتم مجرد وسيلة أستعملها ،أنا المرأة، للوصول إلى غايتي وهذا ما حدث، أما عن نساء الأنبياء فهن طفرة في تاريخي الحافل بالتضحيات، ثم إن ما تلحقه بالمرأة من اتهامات هو رد فعل لهمجيتك وحبك للتملك واستبدادك.
أتنكر أن المرأة كانت على مر العصور ضحية لغرائزك العدوانية؟ فلقد حرمتها الحياة يوم كنت تدفنها في التراب، وهي لم تلقى ترحيبا أحسن من هذا الترحيب في عصور أخرى.
أما عن العصر الحديث وما قبله بكثير ومع أن الله منع وأد البنات إلا أن البنات كانت توأد. سلني كيف وسأخبرك...
حاتم (متهكما): وكيف ذلك يا حضرة الفيلسوفة؟
رونق: أنا لم أوجد هنا لأكون فيلسوفة بل محامية عن بنات جنسي دافعة للاتهامات الموجهة ضدهن.
وأتمت رونق كلامها:
إن وضعية البنات عند الجاهلية كانت أحسن من وضعيتهن بعدها، أنا لا أتكلم عن العصر الإسلامي، بل بعدما أخذ الرجال من القرآن ما لا يلبي رغباتهم، فكلما بُشر أحدهم بأنثى أصبح وجهه أسودا سواد معتقداته البالية، فيكون جاحدا لمعروف ربه ورافضا لمشيئته.
آه، يا سيدي القاضي ما نسيت لن أنسى قصتي التي بقيت محفورة في وجداني، وأبت إلا أن تختلجني بين اليوم والآخر، فقد واجهت صعوبات جمة وليست النظرة العنصرية التي آلمتني، بل الحياة التي بعدها هي التي أردتني بلا موت، فأبي لم يرضى بي بعد أن كان معلقا آماله على ابن ذكر، وإزاء خيبة أمله تلك، ترك أمي في المستشفى وغادر بيتنا ليتركني يتيمة وهو حي يرزق، فقد سافر إلى بلد أجنبية، وبعد آونة لا بأس بها سمعنا أنه كوّن أسرة أخرى، هذا عدا عن تهربه من نفقتي، ولذا اضطرت أمي بعد أن التأمت جراحها على العمل عند جارة لنا كخادمة في بيتها، وكانت تجني بعض المال يحمينا من تسول قوتنا، كما أصرت أمي على أن أدخل المدرسة وأتعلم، وكم رددت على مسامعي أن الشهادة الجامعية سلاح ضد الظروف التي تتعرض لها المرأة في هذه الحياة، إلى أن أصبحت طالبة في الجامعة، ولأن أمي كبرت وتعبت كثيرا وقعت فريسة داء عضال أودى بها إلى الحياة الأخرى، وبقيت وحيدة لا أملك من يعيلني ويساعدني كي أتم دراستي، فكرت كثيرا ثم قررت بيع البيت الذي نشأت فيه وحملت منه ذكريات كثيرة.
تسكت رونق قليلا والحزن يفتك بها وقد غالبتها دموعها ثم تكبت إحساسها وتضيف:
اشتريت بيتا صغيرا وأقمت في الجامعة تفاديا لكثرة المصاريف، هكذا إلى أن أنهيت دراستي. وقد تذكرت بيتين كنت أحفظهما أيام دراستي ومفادهما قول الشاعر:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليـــلا.
إن اليتيم من تلقـــــى له أما تخلت أو أبا مشغــولا.
فأبي شغل في حالته هذه بالمعتقدات البالية التي ورثها عن العصور القديمة، فقد كان الشاعر إذا أراد هجاء أحدهم ذكره باسم أمه ولا أعيبه فالفيلسوف القدير أفلاطون كان يأسف من كونه ابن امرأة وهو ذو العلم الجليل.
وحينها قاطعها حاتم: أظنها محاكمة موضوعية لا ذاتية، ولا يحق لك سرد حكاية شخصية.
رونق: بل أنا عينة حية من مجتمع النساء، والدليل ما قلته قبل حين.
ثم تنهدت بعمق وقالت: إن حكايتي يا سيدي القاضي ويا أيها الحضور الكريم ما هي إلا جرعة من كؤوس بؤس النساء، ولقد تذكرت حكاية أخرى ستدمي قلوبكم وتروع وجدانكم.
يقول حاتم ساخطا: هيا أسرعي، إنها ميزة النساء ثرثارات ولا يمللن من الكلام الفارغ.
رونق: بل من الكلام الهادف الذي يذر حكما، ثم أتمت سردها قائلة:
ذات يوم ذهبت لزيارة جارتي في المستشفى فرأيت نساء مجتمعات ينتظرن مولودا جديدا، وعندما دخلت عليهن بعد الولادة رأيت ما لم يخطر ببالي ولا ببال أحد.
القاضي: وماذا رأيت يا بنيتي؟
تقول رونق وعلامات الحزن بادية عليها: رأيت نساء يبكبن بكاء يذرف جل دموع العين، سألت عن السبب ظنا مني أنهن يبكين لفقدان الطفل أو أمه. ثم تنبعث من عمق أشجانها آهة ممزوجة بالألم كادت أن تزعزع قلوب الحاضرين.
فسألها القاضي فزعا: ما دهاك يا بنيتي؟ ماذا حدث؟
تقول رونق والدموع تستوطن عينيها المتلألئتين بالعزم والأمل: آه يا سيدي القاضي لو فقد المولود وأمه لكان أهون مما سمعت.
فقاطعها حاتم مجددا: وما سمعت يا امرأة؟
وحينها ثارت ثائرة القاضي فرمى كوبا كان بقربه وأخذ يوبخ حاتم قائلا:
يبدو أنك لن تعرف حدودك إلا بعد أن أطردك من المحاكمة وأقضي بفوز النساء..
طأطأ حاتم رأسه خجلا وسط ازدحام الأصوات والهتافات، فنادى رجل بضرورة استبدال حاتم لأنه متهور ولا يليق بأن يكون ممثلا للرجال، فيما صرخ آخر بانحياز القاضي للنساء، وهذا ما لا يقبل أبدا.. وهكذا إلى أن أصبحت أجواء المحكمة مخضبة بالضجيج والأصوات المستهجنة والضجرة.
بيد أن القاضي لم يجلس مكتوف الأيدي؛ فقد طرق بمطرقته مرة واثنان وثلاثة.. إلى أن عم الصمت مجددا أجواء المحكمة، وعندها صرخ القاضي وهو يتأمل وجوه الحاضرين: " حقا لا يليق بكم العيش في هذا العالم الجميل، لأن دناسة أفكاركم لن تغادركم أبدا...
والآن إن لم يسد الصمت سوف أنسحب من هذه المحاكمة وأترككم مثقلين بعبء اختيار قاض آخر عله يكمل عني هذه المحاكمة السخيفة..
خوفا من كلمات القاضي ساد صمت منقطع النظير، فأمر القاضي رونق بإتمام ما أتت به فقالت وهي تخاطب نفسها وتضع يدها على رأسها قصد استرجاع أين وصلت:
ماذا كنت أقول؟؟ تذكرت، وصلت إلى سبب بكاء النساء في ذلك اليوم المعتم.
ثم أطردت حديثها بحزن شديد: سمعت أن المرأة أنجبت طفلة، إن هذا الحدث كان يحزن حتى في العصر الحديث...
وريثما هدأ القاضي من سخطه خاطبته رونق قائلة:
لن أكثر من الكلام لكنني تذكرت نقطة يجب أن أضع يدي عليها.
القاضي: وما تلك النقطة يا محاربة الرجال؟؟
يتمتم حاتم بلهجة الاستياء: لا أظن هذه محاكمة للمرأة بل محاكمة للرجل.
رونق وقد سمعت ما قاله: إنها محاكمة ومن يجب أن يحاكم فيها سيحاكم.
ثم تعمقت في حديثها قائلة: سيدي القاضي إن مأساة المرأة لا تنتهي في السلوك الأول الذي تشهده وهي في المهد رضيعة من استهجان لها وكره لمجيئها على أرض الله الواسعة، بل يمتد ذلك إلى معاملتها فيما بعد فهي تعامل شر معاملة إن قيست بمعاملة الرجال، ورحمها الله إن لم يكن لها أخ أكبر أو أصغر منها.
القاضي مستفسرا: وما تقصدين بقولك هذا؟؟
رونق: إن المرأة في نظر البشرية ذليلة مستعبدة بغض النظر عن كونها ابنة، أختا، أو زوجة، وقد امتد الاستعباد للأم في بعض الأحيان.
القاضي: استعباد للأم؟؟ ماذا تقولين؟؟ صدقا أن لك أسلوبا يضخم الأمور بشكل رهيب.
تقول رونق دون أن تولي كلام القاضي أي اعتبار:
كلنا يعرف أتم المعرفة أن البنت تابعة لوالدها، حسب الشرع الإسلامي، فضلا عن معتقداتنا وتقاليدنا.. ولك أن تلقي معي نظرة عن وضعية المرأة عند اليهود؛ وذلك من خلال أول شاهدة تكون معنا.
القاضي: فلتتقدم المرأة الشاهدة إلى الأمام للإدلاء بشهادتها.
المرأة: تحية خالصة للحضور الكريم، إن ديانتنا يا سيدي كانت مجحفة حق الإجحاف بالمرأة، ولست أدري إن كنت تتصور ما كانت تجسده من مبادئ ومعتقدات وأفكار يتلعثم اللسان مشدوها عند الإدلاء بها، ومن ينكر أنها وهبت للأب الحق في تجريد ابنته من الميراث، ولا يكون لها نفس الحق إذا تعلق الأمر بالابن، وذلك طبقا للمقولة الشائعة: "الرجل يحجب المرأة في الميراث"، هذا عدا عن منحها الحق للرجل ببيع ابنته القاصر كالرقيق، فهي عندنا تساوي الأمة أو العبد، فضلا عن بعض المعتقدات التي تترجم في قولهم أن البنت معرة لأبيها.
كما أنكرت ديانتنا حق المرأة في إبداء رأيها وذكرت أن كل من يأخذ بنصيحة زوجته مأواه جهنم..
القاضي: أ لهذه الدرجة؟؟
المرأة: وأكثر يا سيدي، فالمرأة لا شهادة لها عند الربانيين بخلاف القرائين، وقد جردت أيضا المرأة من حقها في إرث زوجها، وكل مالها بعد موته مؤخر الصداق. وهي إن عثرت على لقية تكون من حق زوجها مادام قائما بما عليه من واجبات.. هذه بعض مظاهر تعاسة المرأة في ظل ديانتنا يا سيدي.
القاضي: هل أتممت كلامك؟؟
المرأة: نعم.
القاضي: فلتعودي إذن إلى مكانك السابق.
حاتم: أ لي أن أستأذنك أيها القاضي لقول جملة قصيرة جدا؟؟
القاضي: لك ما تريد.
حاتم: إن هذه المرأة لم تؤدي اليمين القانونية حسب شروطها في عالم الأقساط.
القاضي: يبدو أنك على حق هذه المرة، ثم يهتف على المرأة اليهودية:
"من فضلك العودة إلى مكان الشاهدات لأداء اليمين.ّ
المرأة اليهودية (وهي تطبق أوامر القاضي): أقسم بالله العلي العظيم أن أقول الحق ولا شيء غير الحق والحق وحده.
القاضي: لا بد أن نغير في حالتك هذه اليمين لتصبح: أقسم بالله العلي العظيم أن كل ما قلته حق ولا شيء غير الحق والحق وحده.
فتعيد المرأة مقولة القاضي ثم تنسحب وسط الازدحام.
رونق: أعلم أنك ستدفع يا ندي الرجل بأن هذه الديانة محرفة، ودليل ذلك ما أتى به القرآن بين طيات سوره وآياته، فقد أقر الإسلام بمساواة الرجل والمرأة حينما قال جل وعلا: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى".
كما جعل معاملة النساء معاملة حسنة طريقا إلى الجنة، حيث قال محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة"
القاضي: وهل أنت متأكدة من هذا الحديث؟؟
رونق: يقال أنه نقل على لسان أبي سعيد الخدري.
القاضي: فليحضر إذن أبو سعيد الخدري إلى جانبي لتأكيد صدق ما تذكره رونق.
فيبرز بين الجماهير رجل ذو لحية بيضاء، يمشي مشية عالم في تأن ووقار إلى أن يبلغ المكان الذي أعد للشاهدين.
القاضي: هل أنت أبو سعيد الخدري؟
أبو سعيد: نعم سيدي.
القاضي: وهل أنت من ذكر هذا الحديث؟
أبو سعيد: نعم سيدي.
القاضي: هل سمعته عن رسول الله أم عن غيره؟
أبو سعيد: سمعته عن رسول الله عليه أزكى الصلوات على ما أذكر.
القاضي: إذن هو صحيح على ما تقول.
أبو سعيد: نعم.
القاضي (مخاطبا رونق): وأين سمعته أنت؟
رونق: في الحقيقة أنا لم أسمعه بل قرأته في كتاب من الكتب التي كانت متداولة في عصرنا.
يلتفت القاضي إلى أبي سعيد الخدري ويقول: شكرا لتعاونك معنا، ولتتفضل إلى مكانك السابق.
فينقضي أبو سعيد وفي وجهه نور يضيء كما يضيء القمر سماء الليالي الحالكة السواد.