عين الحوت الأبيض
فِي مَدِينَةٍ حَالِمَةٍ، كَانَتْ تَنَامُ عَلَى إِيقَاعِ نَبْضِ قُلُوبِ سُكَّانِهَا؛ وَفِي صَبَاحٍ هَادِئٍ مِنْ أَيَّامِ أَوَائِلِ شَهْرِ سَبْتَمْبَرَ، حِينَ بَدَأَ الهَوَاءُ يَحْمِلُ لَفْحَاتِ الخَرِيفِ الأَوَّلَ، تَمْتَدُّ ظِلَالُ أَشْجَارِ المَنْجُو عَلَى المَزَارِعِ كَأَسْرَارٍ لَا تُفْصِحُ عَنْهَا. كَانَتْ حَبَّاتُ المَنْجُو، عَلَى رِقَّةِ قِشْرَتِهَا، تَخْبَأُ فِي دَاخِلِهَا صُفْرَةَ الشَّغَفِ، تَمَامًا كَسَنَوَاتِ العُمْرِ الَّتِي نَحْسَبُهَا خَالِيَةً مِنَ المَشَاعِرِ.
عَلَى عَتَبَةِ مَقْهَى "بُوفِيهِ رَاشِدٍ" القَدِيمِ، الَّذِي يَقَعُ بِقَلْبِ الحَيِّ العَتِيقِ وَيُطِلُّ عَلَى سَاحَةٍ صَغِيرَةٍ تَعِجُّ بِالمَارَّةِ فِي هَذَا الوَقْتِ مِنَ الصَّبَاحِ، كَانَ الأَصْدِقَاءُ الأَرْبَعَةُ: رَؤُوفٌ، وحَامِدٌ، وفَاهِمٌ، وصَفْوَانُ، يَلْتَقُونَ كُلَّ صَبَاحٍ. كَانَتْ صَدَاقَتُهُمْ نَهْرًا جَارِيًا، تَفِيضُ بِالمَحَبَّةِ عَلَى ضِفَّتَيْهَا، يَغْبِطُهُمْ عَلَيْهَا الجَمِيعُ، حَتَّى إِنَّ صَفْوَانَ وَسُمَيَّةَ كَانَا يَقِيسَانِ حُبَّهُمَا بِحُبِّهِمْ.
كَانَ رَؤُوفٌ يُمْسِكُ بِقِطْعَةِ خُبْزٍ وَجُبْنٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ رَغْبَةً فِي الأَكْلِ. كَانَ وَجْهُهُ شَاحِبًا، وَتَقَلَّصَتْ زَوَايَا فَمِهِ كَمَنْ يُخْفِي سِرًّا ثَقِيلًا.
• حَامِدٌ، الَّذِي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِابْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ، قَالَ بِهُدُوءٍ: "أَرَى أَنَّ الخُبْزَ لَمْ يَجِدْ فِي جَوْفِكَ مَكَانًا اليَوْمَ. أَخْبِرْنِي، هَلْ أَصَابَكَ مَا يُصِيبُ الفُرْسَانَ قَبْلَ المَعْرَكَةِ؟"
• رَؤُوفُ (بِصَوْتٍ خَافِتٍ): "مَاشِي خَائِف مِنْ مَعْرَكَةٍ يَا حَامِد. أَنَا خَائِفٌ مِنْ غَدْرٍ يَتَسَلَّلْ مِنْ حَيْثُ مَانَعْرَفْش. أَحِسُّ إِنَّ الَّذِينَ ظَنَنْتُهُمْ إِخْوَتِي عادهم يِخْتَلُّوا. أَحِسُّ إِنَّ الأَرْضَ تَمِيلْ تَحْتَ رِجْلِي." نَظَرَ إِلَى فَاهِمَ ثُمَّ إِلَى حَامِدَ بِعُيُونٍ تَشُوبُهَا حَيْرَةٌ خَفِيَّةٌ، كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ إِجَابَةٍ لَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا بَعْدُ.
• فَاهِمٌ، الَّذِي كَانَ يَرْتَشِفُ الشَّايَ فِي صَمْتٍ، وَضَعَ كُوبَهُ عَلَى الطَّاوِلَةِ بِهُدُوءٍ. فِي عَيْنَيْهِ، كَانَ رَؤُوفٌ يَرَى حِكْمَةً مُطْمَئِنَّةً كَأَنَّهَا تَقُولُ: "إِنَّ الصَّمْتَ لَيْسَ غِيَابًا لِلْكَلِمَاتِ، بَلْ هُوَ مَلَاذٌ آمِنٌ لَهَا."
فَجْأَةً، جَاءَ صَفْوَانُ بِابْتِسَامَةٍ وَاسِعَةٍ، حَامِلًا مَعَهُ نَسْمَةً مِنَ الحَمَاسِ.
• أَلْقَى عَلَيْهِمُ التَّحِيَّةَ: "أَيُّهَا الأَصْدِقَاءُ طِبْتُمْ صَبَاحًا. رَفْرَفَ القَلْبُ نَحْوَكُمْ بِاشْتِيَاقِ. أَلَّفَ اللهُ بَيْنَنَا فَالْتَقَيْتُمْ فِي فَضَاءِ الفَضَاءِ دُونَ افْتِرَاقِ. أَنْتُمُ الحُبُّ ثَوْرَةً وَانْطِلَاقًا، يَا بُدُورَ النَّدَى وَخَيْرَ الرِّفَاقِ."
رَدُّوا التَّحِيَّةَ، فَقَالَ حَامِدٌ بِضَحْكَةٍ: "جِئْتَ فِي وَقْتِكَ، فَرُؤُوفٌ كَانَ سَيَقْضِي عَلَى بُوفِيهِ رَاشِدٍ اليَوْمَ."
• رَؤُوفُ وَهُوَ يَصُبُّ كَأْسًا مِنَ المَاءِ: "أَهْلًا صَفْوَان، تَعَالْ قَرِّبْ، وَحَشْتَنَا وَالله. فِينْ كُنْتَ يَا مُحَامِي يَا شَاطِر؟"
أَخَذَ صَفْوَانُ مَكَانَهُ، وَتَغَيَّرَتْ مَلَامِحُهُ مِنَ المَرَحِ إِلَى الجِدِّيَّةِ.
• قَالَ رَؤُوفُ بِمَرَارَةٍ: "جِئْتَ فِي وَقْتَك يَا صَفْوَان. هَلْ قَدْ حَصَلْ لَك وَحَسِّيتْ إِنَّ أَعَزَّ أَصْحَابَك قَدْ يَتَآمَرُوا عَلَيْك؟"
• صَفْوَانُ: "الغَدْرُ يَا رَؤُوفُ كَالمَوْجَةِ، يَضْرِبُ فَجْأَةً وَلَا يُخْبِرُكَ مَتَى سَيَأْتِي. لَكِنَّ الأَمَانَ الحَقِيقِيَّ هُوَ فِي القَارِبِ الَّذِي تُبْحِرُ فِيهِ. إِنْ لَمْ تَكُنْ تَثِقُ فِي نَفْسِكَ، فَثِقْ فِينَا. نَحْنُ قَارِبُكَ."
شَعَرَ الأَصْدِقَاءُ بِمَدٍّ وَجَزْرٍ فِي مَشَاعِرِ صَفْوَانَ. كَانَتْ عَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِحَمَاسِ المُحَقِّقِ، ثُمَّ انْخَفَضَ صَوْتُهُ كَمَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْ سِرٍّ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ:
"أَتَذْكُرُونَ تِلْكَ السَّيَّارَةَ السَّوْدَاءَ الفَخْمَةَ الَّتِي كَانَتْ تَقُودُهَا نَاهِدُ؟ لَمْ تَكُنْ سَرِقَةً عَادِيَةً. فَهَذِهِ السَّيَّارَةُ كَانَتْ مَعَ نَاهِدَ، وَبَعْدَ أَنْ تَتَبَّعْتُ خُيُوطَ القَضِيَّةِ، اكْتَشَفْتُ أَنَّ هَدَفَ اللُّصُوصِ لَمْ يَكُنِ المَرْكَبَةَ، بَلْ ابْتِزَازَ أَحَدِ مُدَرَاءِ الشَّرِكَةِ. كَانَتِ السَّيَّارَةُ بِمَثَابَةِ وَسِيلَةِ ضَغْطٍ لِشَبَكَةٍ سِرِّيَّةٍ وَجِهَةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ تُسَمَّى 'مُنَظَّمَةُ الظِّلِّ'. وَجَدْنَا جِهَازَ تَتَبُّعٍ مُتَطَوِّرًا، وَبَعْضَ الأَوْرَاقِ المُشَفَّرَةِ المُعَقَّدَةِ. كَانَ الأَمْرُ أَعْمَقَ مِمَّا تَخَيَّلْتُ، وَتَعَرَّضْتُ لِضُغُوطٍ كَبِيرَةٍ لِإِغْلَاقِ المِلَفِّ. أَكْبَرُ غُمُوضٍ يَحِيطُ بِالقَضِيَّةِ هُوَ دَوْرُ نَاهِدَ. لَا نَعْلَمُ إِنْ كَانَتْ مُتَوَرِّطَةً، أَمْ أَنَّهَا مُجَرَّدُ ضَحِيَّةٍ لَا تَعْرِفُ شَيْئًا عَمَّا يَجْرِي، وَالمُنَظَّمَةُ لَا تَعْلَمُ بَعْدُ أَنَّ السَّيَّارَةَ كَانَتْ بِحَوْزَتِهَا. لَكِنِّي عَرَفْتُ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ هُوَ بَوَّابَةُ قَضَايَا أُخْرَى، لَا يُعْرَفُ لَهَا مَوْضِعٌ."
• تَسَاءَلَ رَؤُوفُ بِدَهْشَةٍ: "وَمَاذَا بِتَسْوِي ذَلْحِين؟"
• أَجَابَ صَفْوَانُ، بَيْنَمَا كَانَتْ عَيْنَاهُ تُطْلِقَانِ شَرَرًا مِنْ حَمَاسَةِ المُحَارِبِ: "سَأَتَّبِعُ الخَيْطَ، وَلَوْ كَانَ يَأْخُذُنِي إِلَى نِهَايَةِ العَالَمِ. هَذِهِ القَضِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَمَلٍ، إِنَّهَا مَرْحَلَةٌ جَدِيدَةٌ."
• حَامِدٌ: "يَا صَدِيقِي، تَفَاءَلْ، فَالمُتَوَكِّلُ لَا تَهَزُّهُ الرِّيَاحُ، وَالخَائِفُ تَخْذُلُهُ الظُّنُونُ."
وَبَعْدَ صَمْتٍ قَصِيرٍ تَأَمَّلَ فِيهِ رَؤُوفٌ كَلَامَ حَامِدٍ، وَتَلَوَّحَتْ فِي ذِهْنِهِ فِكْرَةُ الغَدْرِ الَّتِي أَرَّقَتْهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ وَكَأَنَّهُ يَرْبِطُ بَيْنَ مَخَاوِفِ رَؤُوفَ وَقَضِيَّتِهِ:
"أَتَذَكَّرُونَ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَخْشَى الظَّلَامَ؟ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، وَجَدَ مِصْبَاحًا قَدِيمًا وَأَضَاءَهُ. لَمْ يَجِدْ فِيهِ كُنُوزًا، لَكِنَّهُ وَجَدَ أَنَّ الضَّوْءَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ لَا يَزُولُ أَبَدًا. لَمْ يَكُنِ الضَّوْءُ قَوِيًا، لَكِنَّهُ كَانَ كَافِيًا لِيُرِيَهُ خُطَاهُ فِي الظَّلَامِ. فَمَضَى وَهُوَ يَبْتَسِمُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ القُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ فِي حَجْمِ المِصْبَاحِ، بَلْ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الإِضَاءَةِ."
لَمْ يَكَدْ صَفْوَانُ يُنْهِي حَدِيثَهُ، حَتَّى أَوْمَأَ حَامِدٌ بِرَأْسِهِ، وَفِي صَوْتٍ هَادِئٍ، بَدَا كَأَنَّهُ يُضِيفُ بُعْدًا آخَرَ لِمَخَاوِفِ رَؤُوفَ الغَامِضَةِ وَيُعَزِّي بِهَا صَدِيقَهُ: "يُحْكَى أَنَّ مَلِكًا بَنَى قَصْرَهُ فَوْقَ أَعْلَى قِمَّةٍ لِيَكُونَ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الأَعْدَاءِ، لَكِنَّهُ نَسِيَ أَنَّ السُّطُوحَ المَكْشُوفَةَ هِيَ أَضْعَفُ مَا فِيهِ. فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، جَاءَ غَرِيبٌ إِلَى قَصْرِهِ وَأَهْدَاهُ عُصْفُورًا صَغِيرًا أَبْيَضَ اللَّوْنِ. فَرِحَ بِهِ المَلِكُ، لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ العُصْفُورَ كَانَ يَحْمِلُ فِي مِنْقَارِهِ شِفْرَةً سِرِّيَّةً، وَأَنَّ كُلَّ تَغْرِيدَةٍ كَانَتْ رِسَالَةً إِلَى الأَعْدَاءِ. لَمْ يَكُنِ الخَطَرُ فِي الخَارِجِ، بَلْ كَانَ يُرَاقِبُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ."
• ثُمَّ اسْتَرْسَلَ حَامِدٌ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الأُفُقِ البَعِيدِ الَّذِي بَدَا يُلَوِّحُهُ ضَوْءُ شَمْسِ الصَّبَاحِ المُتَصَاعِدِ: "أَتَذَكَّرُونَ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي وَجَدَ فِي صَحْرَاءَ مَهْجُورَةٍ ثَلَاثَةَ أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ؟ كَانَ اللَّوْحُ الأَوَّلُ مَنْقُوشًا عَلَيْهِ: 'المَالُ زَائِلٌ'. وَاللَّوْحُ الثَّانِي: 'القُوَّةُ لَا تَدُومُ'. أَمَّا الثَّالِثُ، فَكَانَ مَحْفُوظًا بِعِنَايَةٍ، وَمَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِخُطُوطٍ غَيْرِ مُنْتَظَمَةٍ: 'السَّعَادَةُ فِي العَطَاءِ'. فَلَمَّا تَأَمَّلَ الرَّجُلُ الأَلْوَاحَ، أَدْرَكَ أَنَّ الأَلْوَاحَ الأُولَى كَانَتْ مُعَطِّلَةً لِأَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الثَّالِثَ فِيهِ السَّعَادَةُ. لِذَلِكَ حَمَلَهُ وَجَعَلَهُ دَلِيلَهُ فِي حَيَاتِهِ. وَلِأَنَّهُ اسْتَغَلَّ قُوَّتَهُ فِي الخَيْرِ، وَاسْتَفَادَ مِنْ مَالِهِ فِي العَطَاءِ، لَمْ تَغْدِرْ بِهِ الأَيَّامُ."
• ثُمَّ ابْتَسَمَ حَامِدٌ، وَأَضَافَ: "الحُبُّ يَا صَفْوَانُ، هُوَ لَوْحُكَ الثَّالِثُ."
• قَالَ رَؤُوفُ ضَاحِكًا: "سَمُّوا بِاسْمِ الله يَا صَفْوَان، أَفْصِحْ يَا عَاشِق! هَنِيئًا لَكُم ذَا الأُنْس، مَا أَحْلَى فَتْرَةَ المُلْكَة (العقد)، لَهَا طَعْمٌ آخَر! وَأَظُنُّ إِنَّ أَصْحَابِي ذُلَّا مَا مَرُّوا بِهَا؛ لأَنَّهُم طَارُوا لِقَفَصِ الزَّوْجِيَّةِ دُونَ تَرَانْزِيت."
• رَدَّ صَفْوَانُ بِابْتِسَامَةٍ خَافِتَةٍ: "سَمِّ اللهَ يَا رَؤُوفُ وَإِنْ كَانَ بَعْضَ الحَقِّ أَصَبْتَ. وَعَلَى صَاحِبَيْكَ أَنْ يُعِيدَا الكَرَّةَ بِزَوَاجِ الثَّانِيَةِ."
ثُمَّ هَمَّ بِالرَّحِيلِ، لَكِنَّهُ شَعَرَ بِبُرُودَةٍ غَرِيبَةٍ تَتَسَرَّبُ إِلَى قَلْبِهِ. انْحَنَى بِسُرْعَةٍ، وَالْتَقَطَ جِهَازًا صَغِيرًا أَسْوَدَ اللَّوْنِ يُضِيءُ بِوَمِيضٍ خَافِتٍ مِنْ تَحْتِ الطَّاوِلَةِ. كَانَتْ يَدَاهُ تَرْتَجِفَانِ. لَمْ يُلَاحِظْهُ أَحَدٌ. إِنَّهُ جِهَازُ تَعَقُّبٍ أَكْثَرُ تَطَوُّرًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي وَجَدَهُ فِي السَّيَّارَةِ. القَضِيَّةُ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا بَعِيدَةٌ، انْتَقَلَتِ الآنَ مِنَ الظِّلِّ إِلَى النُّورِ، وَأَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ حَيَاتِهِمْ. لَقَدْ كَانَتْ عَيْنُ الحُوتِ الأَبْيَضِ تُرَاقِبُهُمْ، مِنْ تَحْتِ الطَّاوِلَةِ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَلَاذُهُمْ.
كَانَتِ الصَّدَاقَةُ بَيْنَ فَاهِمٍ وَحَامِدٍ وَرَؤُوفٍ وَصَفْوَانَ كَشَجَرَةٍ قَدِيمَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ عَلَاقَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ كَانَتْ نَسِيجًا مِنَ المَحَبَّةِ وَالثِّقَةِ وَالوَفَاءِ. كَانَ زُمَلَاؤُهُمْ فِي الشَّرِكَةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الإِعْجَابِ، يَتَمَنَّوْنَ لَوْ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ وَلَوْ جُزْءًا مِنْ هَذَا التَّرَابُطِ الَّذِي لَا تَهَزُّهُ رِيَاحُ الحَيَاةِ العَاتِيَةُ.

قرب عيادة "السنوسي"هناك حديقه صغيره تبعد عن شارع النحات بعشره أمتار، وهي نقطة التقاء آمنة لهما، كان صفوان يراجع خيوط القضية، بينما كان فواز يتفحص الهاتف المشفر الذي أحضره. قال صفوان: "الآن، جهاز التتبع يظنني حبيس خزانة الملفات. لقد اشترينا بعض الوقت." رد فواز: "بَسْ الخَطَر ذَلْحِين مَاهُو من برع. كَيْف الجِهَاز وَصَلْ لِتَحْت الطَّاوَلَة، يا صَفْوَان؟ عاد بوفيه راشد مَكَان عَام." أقر صفوان أن هذا ما أرقّه، وأن قصة حامد عن العصفور الأبيض لم تكن مجرد حكمة عابرة، بل كانت تحذيراً موجهاً إليه بأن القصر مخترق. استنتج فواز أن الخطر إذن من الداخل، فمن الذي قَدَرَه يجلس جنبهم ويلصق الجهاز دون أن يشكوا فيه؟ توقفا عن الكلام، وراح صفوان يستعرض شريط الذكريات. الضحكات، الشاي، وصوت غلام راشد وهو يضع الأكواب. "ليس بالضرورة أن يكون صديقاً، قد يكون أداة. غلام راشد، العامل الذي يخدم طاولتنا كل صباح. هو الوحيد الذي يقترب منا دون أن نأخذ حذرنا. لقد كان العصفور الأبيض الذي يتحدث عنه حامد."
أومأ فواز: "المنظمة تِشْتَغِلْ بِذَكاء. يُضَحُّوا بِعَامِل مِسْكِينْ، ويُحَافِظُوا على سِرِّهِم. يَلَّا، نُدَوِّرْ على ذَا الغُلام. لو قَدَرْنَا نِلْقَاه قَبْلَهُم، قَدْ نِلْقَى خَيْطَ." انطلقا فوراً إلى الحي العتيق حيث مسكن عمال المطعم. وجدا باب الغرفة مفتوحاً، والفراش مرتباً بعجلة، وكأن صاحبه غادر على عجل ودون نية للعودة. أدرك صفوان أن المنظمة لم تنتظر، لقد صفّت الحساب مع غلام راشد فوراً بعد انتهاء مهمته.
عاد صفوان وفواز إلى العيادة. الخطر الخارجي مُؤمَّن مؤقتاً بالخدعة، لكن الشك الداخلي يتصاعد. قال صفوان: "الخطر الداخلي ما زال حياً، ويتمثل في قلق رؤوف. لا يزال يؤمن أن هناك غدراً يتسلل إليه من حيث لا يعرف." رد فواز: "رُؤُوف مَاهُو يَتْكَلَّمْ هَلْكَة. هو رَجُلْ مَالْ، وَلَهُ عَلاَقَاتْ. قلقه ارتبط بالفكرة المطروحة لجمع المال الكبير بينه وبين حامد وفاهم. المال لا يَخْلُق الغَدْر، بَسْ يِظْهِرْهُ." تذكر صفوان الهمسة الخافتة التي سمعها من رؤوف عن تغير في سلوك فاهم. هذا التغير هو ما يزعج رؤوف تحديدًا. فاهم أصبح صامتاً وغامضاً مؤخراً، وكأنه يخفي سراً شخصياً ثقيلاً، وهذا ما يهدد الصداقة قبل أن تبدأ الشراكة المالية التي ما زالت مجرد فكرة لم تُنفذ بعد. أدرك صفوان أنه لا يستطيع اتهام صديق أصدقائه دون دليل قوي، ولذلك قرر: "أحتاج إلى أن أراقب فاهم دون أن يشعر. علي أن أجد الخيط الذي يربط تغيره العاطفي أو السلوكي بتنظيم الظل."
ناول فواز صفوان هاتفاً قديماً معدلاً ببرنامج حماية وتشفير متقدم. "ذَا هَاتِفْ نَظِيف. عاد برامج الحِمَايَة فيه مَشْفَرَة. خَلِّيه مَعَكْ، وإذا اشْتَبَهْتَ بِحَاجَةٍ، رَاسِلْنِي فِيه. الآن انْتَ مُحَقِّقْ، ما عاد انْتَ مُحَامِي. الخُطْوَة الجَايَة، خُطْوَة تَقَرُّبْ."
في صباح اليوم التالي، التقى صفوان بـفاهم في مقهى بعيد عن البوفيه. كان فاهم يبدو هادئاً، لكن عينيه كانتا تحملان توتراً خفياً. "أردت أن ألتقي بك بعيداً عن ضوضاء راشد. رؤوف قلق قليلاً، كما تعلم، إنها مرحلة جديدة في حياتكم. هل كل شيء على ما يرام على المستوى الشخصي؟ تبدو مشغول البال." سأل صفوان. رد فاهم: "بالتأكيد يا صفوان. الأمور تسير كما خططنا لها مع رؤوف وحامد. لا تقلق، لست مشغول البال، هي مجرد ضغوط عمل." أدرك صفوان أن فاهم لن يعترف بشيء، لكنه لاحظ حركة فاهم العصبية المتكررة باتجاه سترته. قال صفوان: "رؤوف يحتاج فقط للثقة في أصدقائه، أليس كذلك؟" أجابه فاهم بابتسامة باردة: "الثقة هي أساس كل شيء، وهي ما يميزنا كأصدقاء." غادر صفوان اللقاء، وهو متيقن أن خلف هدوء فاهم شيئاً ما يختبئ.
بعدَ الصدمةِ التي تم فيها اكتشافُ جهازِ التعقُّبِ الثاني تحتَ طاولتهم، تبدَّدَ سِحرُ بوفيهِ راشدٍ، وتحوَّلَ إلى مسرحٍ خفيٍّ للمراقبة. جلسَ صفوانُ ورفاقُهُ الثلاثةُ في صمتٍ ثقيل، وقدْ أدركوا أنَّ الخطرَ ليسَ مُجرَّدَ سحابةٍ عابرةٍ، بلْ مخالبٌ تَمْتَدُّ إلى حيثُ يظنُّ المرءُ أنَّهُ في أمنٍ، حتى عرشِ الصداقةِ اهتزَّ تحتَ وطأةِ الظنِّ.
لمْ يكنْ هذا الجهازُ مُجرَّدَ قطعةِ تقنيةٍ، بلْ كانَ رسالةً منْ "جهة خفيه تعمل في السر" بأنَّها تعلمُ بتحرُّكاتِ صفوانَ وتحقيقاتِهِ السريَّة، وكأنَّها تهمسُ: "نحنُ أقربُ إليكَ منْ حبلِ الوريد."
• قالَ فاهمٌ، وهوَ ينظرُ إلى الجهازِ الصغيرِ الذي يضيءُ بوميضٍ مُتوتِّر: "لقدْ انتقلوا منْ المراقبةِ إلى لغةِ التحدِّي الصارخ. إنَّهمْ يُعلنونَ أنَّهمْ يقرؤونَ أفكارَنا على هذهِ الطاولة، وأنَّ الجدارَ الذي ظننّاهُ حصيناً قدْ تهاوى."
• رؤوفٌ، الذي كانَ وجهُهُ ما زالَ مُثقلاً بظلالِ هواجسِ الغدرِ كـرُكامِ حِجارةٍ، ضَرَبَ بقبضتِهِ على الطاولةِ، فاهتزَّتِ الأكوابُ كـأجراسِ إنذار: "إنَّها عيونُ الخصمِ التي تتسلَّلُ إلى دائرةِ الثقةِ. لابدَّ أنَّ هذا المكرَ يختبئُ خلفَ أحدِنا! الخوفُ منَ القريبِ صارَ سُمّاً مُصفّىً أشدَّ فتكاً منْ سيفِ الغريب."
• نَظَرَ صفوانُ إلى صديقِهِ، عيناهُ تحملانِ اليقينَ بقُربِ الموقعة، وقدْ صارَ صوتُهُ كـهديرِ السيل: "لمْ يعدِ الوقتُ يسمحُ بالبحثِ عنِ الخائنِ هنا، بلْ بـدفعِ الضربةِ القاضيةِ لِفَكِّ قُيودِ الشبكة. الخطرُ
على سُميَّة حقيقيٌّ، وهيَ تواجهُ الآنَ ورقةَ ضغطٍ هشّةً تُهدِّدُها بها ناهد، ورقةً لا أعرفُ عنها سوى أنَّها خيطٌ رقيقٌ يُمزِّقُ النسيجَ الروحيّ."
في مكتبِها، كانتْ سميةُ تعيشُ حالةً منَ الصمتِ العاصفِ، كـنافذةٍ زجاجيةٍ صُلبةٍ تخفي خلفَها فُتاتَ انكسارٍ قديم. كلماتُ ناهدَ عنِ "الورقةِ الهشَّةِ" حفرتْ في روحِها أخاديدَ الخوفِ القديم، خوفاً لا يخصُّها، بلْ يخصُّ سِرَّ أُمِّها المريضةِ أوْ ماضيها النبيلِ الذي بنتْ عليهِ حياتها.
قرَّرتْ سميةُ أنْ تُبادرَ إلى ناهد في لحظةِ تَجَمُّدِ الخوفِ، لا لتتوسَّلَ، بلْ لتقتحمَ غرفةَ عمليّاتِ العدوِّ عنْ قُرب. وقفتْ على مكتبِ ناهدٍ التي كانتْ تبتسمُ بـانتصارٍ مُبَكِّرٍ كـغيمةٍ صيفيةٍ كاذبة.
• سميةُ (بصوتٍ منخفضٍ وهادئٍ، يُشبهُ هدوءَ البحرِ قبلَ الموجةِ العاتية): "أظنُّ أنَّ الوقتَ قدْ حانَ لتقولي لي: ما هيَ ورقتُكِ الهشَّةُ التي تُهدِّدينَ بها أشدَّ ما يُقدَّسُ في قلبي؟"
• ناهدُ رَفعتْ رأسَها، كانتْ عيناها كـثُقْبَينِ أسودَينِ لا يبلغانِ القاع. تراجعتْ ناهدُ بظهرِها إلى الكرسيِّ الجلدّي، واهتزَّتْ ضحكتُها الساخرةُ في أرجاءِ المكتب، ضحكةٌ كانتْ كالصَّدَأِ فوقَ المعدن: "أوه، لقدْ استعجلتِ قطفَ الثمرة، يا سمية. الورقةُ ليستْ هشةً بالنسبةِ لي، بلْ هيَ الخيطُ الرقيقُ الذي سيقطعُ حبلَ وُدِّكِ مع صفوانَ .إنَّها تتعلَّقُ بـكذبةٍ عتيقةٍ نُسِجتْ حولَ ماضيكِ وحقيقةِ تضحيتكِ بعائلتكِ، كذبةٍ لوْ عَرَفَها صفوانُ، لَأدركَ أنَّ قلبَكِ أشدُّ على نفسِهِ قسوةً ممَّا تخيَّل."
• سحبَتْ ناهدُ منْ دُرجِ مكتبِها ظرفاً صغيراً، لمْ يكنْ أبيضَ كسابِقِهِ، بلْ كانَ أحمراً داكناً كـوصمةِ دمٍ قديمة. "هذا الظرفُ يحوي الدليلَ القاطعَ على أنَّكِ خنتِ براءةَ ثقةِ صفوانَ الأعمى فيكِ. وهوَ دليلٌ سيُرسلُ مباشرةً إليهِ معَ بعضِ الملاحظاتِ الأدبيةِ لتناسبَ ذوقَهُ الرفيع، إنْ لمْ تنسحبي منَ الشركةِ، و... تُعيدي صفوانَ إلى حبلِ الوحدةِ للأبد."
ثم اِبْتَسَمَتْ نَاهِدُ، اِبْتِسَامَةً بَارِدَةً كَجَلِيدِ الشِّتَاءِ عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ، وَهِيَ تَلُوحُ بالظرف وملف قَدِيمٍ كَادَتْ أَوْرَاقُهُ أَنْ تَتَسَاقَطَ، وَصَوْتُهَا يُشْبِهُ صَرِيفَ المِفْتَاحِ الَّذِي يَفْتَحُ قُفْلاً مَنْسِيّاً فِي سِرْدَابِ الذَّاكِرَةِ: "أَظُنُّ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ شَامِخٍ لَهُ أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ حَيَاتِكِ، يَا سُمَيَّةُ، لَيْسَ نَبِيلاً كَمَا ظَنَنْتِ، بَلْ هُوَ وُثِقَةٌ سِرِّيَّةٌ ". هَلْ تَذْكُرِينَ السِّرَّ الَّذِي دَفَنَتْهُ وَالِدَتُكِ بِعُمْقٍ؟ سِرُّ الأَيَّامِ الَّتِي عَمِلَتْ فِيهَا فِي الظِّلِّ، لَا لِأَجْلِ النُّبْلِ، بَلْ لِأَجْلِ صَفْقَةٍ بَشِعَةٍ. إنَّهَا وُثِقَةُ اعْتِرَافِهَا بِتَسْرِيبِ مَعْلُومَاتٍ حَسَّاسَةٍ مِنْ أَرْشِيفِ الشريكة لِصَالِحِ شَبَكَة غير سوية قَبْلَ زمن، مُقَابِلَ عِلَاجٍ لَهَا... الَّتِي ظَلَّتْ دَائِماً تُسَمِّينَهُ 'مَرَضاً نَادِراً' هُوَ فِي الحَقِيقَةِ نَتِيجَةٌ لِذَلِكَ العَمَلِ. تِلْكَ الوَرَقَةُ، يَا صَدِيقَتِي، تُعِيدُ وَالِدَتَكِ مِنَ المَجْدِ إِلَى الوَحْلِ، وَتُحَوِّلُ نَبْلَكِ المَزْعُومَ إِلَى خِيَانَةٍ مُتَوَارَثَةٍ."
شَعَرَتْ سُمَيَّةُ كَأَنَّ رَمَاداً بَارِداً سُكِبَ عَلَى رُوحِهَا. لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ مُجَرَّدَ ضَغْطٍ، بَلْ كَانَ نَسْفاً لِكُلِّ مَا بَنَتْهُ مِنْ صَلابَةٍ. لَمْ يَنْهَارِ جِدَارُهَا الزُّجَاجِيُّ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ تَصَدَّعَ بِأَلْفِ شَقٍّ كَانْكِسَارِ المِرْآةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَصِيفٍ. لَكِنَّ، بَدَلاً مِنَ الِانْكِسَارِ التَّامِّ، تَلَمَّعَتْ عَيْنَاهَا بِنَارِ التَّحَدِّي المُحْتَرِقَةِ، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ الوَرْقَةَ الهِشَّةَ لَيْسَتْ ضِدَّهَا هِيَ، بَلْ ضِدَّ حُبِّهَا لِأُمِّهَا، وَأَنَّ نَاهِدَ لَنْ تَتَرَدَّدَ فِي إِحْرَاقِ ذِكْرَى الأُمِّ لِكَيْ تَهْزِمَ الابْنَةَ.
هَذَا سِرُّكَ، وَلَنْ أَدَعَ لَكِ فُرْصَةَ اسْتِغْلَالِهِ!
في تلكَ اللحظة، رنَّ هاتفُ سميةَ برسالةٍ منْ صفوان. لمْ يكنْ صفوانُ ليرسلَ إليها شعراً هذهِ المرة، بلْ كانَ الأمرُ أشدَّ جديَّة، فكانتِ الكلماتُ كـشظايا تنفذُ إلى القلب:
"لقدْ وجدتُ دليلاً جديداً يا سميّة، وعرفتُ أنَّهُمْ يراقبونني منْ مكانٍ نثقُ به. أصبحتِ في خطرٍ مضاعفٍ الآن. لا تفعلي شيئاً تندمينَ عليه. سنلتقي سراً بعدَ ساعاتٍ عندَ بابِ حديقةِ 'العروس' في الظلام. يجبُ أنْ نتَّحدَ لتفكيكِ هذهِ الشبكةِ معاً."
أدركتْ سميةُ أنَّها لمْ تعدْ وحدَها في هذا المعترك، وأنَّ الخيطَ الأحمرَ صارَ يربطُ مصيرَها بمصيرِهِ. وفي عينيها لمعتْ شعلةُ القرار، شعلةٌ تُعلنُ نهايةَ الضعفِ وبدايةَ القتال. ألقتْ نظرةً على ناهدَ، ابتسامتُها اختفتْ، وحلَّ محلَّها هدوءٌ مُخيفٌ كـالزلزالِ الكامن: "خذي ظُرفَكِ الأحمرَ، يا ناهد. سأُقابِلُ صفوانَ الليلة. فلتَنْتَظِرِ نتيجةَاجتماعِنا."
لقدْ وصلَ الخطرُ إلى ذروتِهِ: ناهدُ جاهزةٌ بـالظرفِ الأحمرِ القاتلِ الذي يمسُّ ماضي سميةَ الهشّ، وصفوانُ أصبحَ مُتيقناً منْ حجمِ المراقبةِ والتهديد.

مملكة الظل
وفي المقابل، كان هناك حسام وناهد، ثنائي يجمعهما تحالف الشر، ويوقدهما جمر الغيرة الأعمى الذي لا يخبو. كانا يشكلان ثِقلاً مهنياً وشخصياً لا يُطاق، ولولا سِتار قرابة حسام بمدير الشركة، لكان الموظفون قد أزاحوهما عن مسرح العمل. كان ترصدهما لصفوان وسمية أشبه بمراقبة صيادين لجريحين يتداويان بالحب، وكلما بزغ نور المودة بينهما، اشتعلت في أحشائهما نيران الحقد الأزلي. وفي عيني ناهد، تلألأت برودة جليد السُم المتقطر.

غُرْفة سَدَنَة الظلام
في غرفة تكسوها ظلال أثقل من الحبر، حيث تُعتبر بقعة الضوء انتهاكاً لسُلطان الخفاء، جلس حسام خلف شاشة تبكي أرقاماً، كأنها دماء تُنزف من شريان صفقة قديمة. كان هذا المكتب يتربع على قمة مبنىً يعانق الغيم، بينما بقيت الغرفة نفسها فصلاً معزولاً عن همهمة الحياة، حصناً من الصمت. كانت ناهد تقف هناك كـتمثال من اليشم البارد، تحدق في مخططات تتلوى عليها المؤامرات كـأفاعي حفل جنائزي. إنهما ليسا مجرد مُقلِّدَين لدور الموظف؛ بل هما اليد التنفيذية لـ**"الكيان المجهول"؛ الكيان الذي لا يكتفي بسرقة الموارد، بل يُعيد نحت أقدار البشر بـأصابع من دخان ووعود كاذبة**.
تَرْنِيمَة الإِفْشَال
بدأ حسام حديثه بنبرة مُصمتة كالفولاذ المُبرّد:
"هل ما زال صدى 'شركة الأفق' يرن في أذنيكِ؟ تلك التي وعدت بأنها ستكون فجراً لم يسبقه ليل على هذا العالم النائم؟"
ابتسمت ناهد بابتسامة قُحط لا يرويها وِدّ: "الفجر، يا حسام، قد يوقظ الناس على حصادنا. نحن صفّقنا بأيدينا الخفية، فتهاوى بنيانهم كـوهم بني على رمال السراب. لقد أرسلنا رسالة للعالم: حلمكم بضوء النهار ما هو إلا خديعة، وليلنا أرحم لأعينكم المُتعبة."
قاطعها حسام وهو يهز رأسه إعجاباً: "وماذا عن المهندس؟ ذلك الذي اعتبر نزاهته سِتاراً من حديد؟ هل صمد درعه أمام سهام الفضائح التي أطلقناها؟"
ردت ناهد، وهي تشير إلى ملف جديد: "لقد أريناه كيف يُمسح تاريخه من ذاكرة الحجر وكيف تسقط سمعته كـجدار قديم يسكنه المِلْح. اليوم، هو مجرد ذكرى تتضور جوعاً في صحراء النسيان. لكن، ما أبهَرَني كان الناطق الصامت... هل ابتلعت الجدران كلمته الأخيرة حقاً؟"
ضحك حسام ضحكة جافة، أشبه بـصليل الأغلال: "من هو الذي يجرؤ على تهديد عروشنا ويبقى له هيكل أو رداء؟ لقد أريناه أن الكلمات يمكن أن تُصبح لقمة سائغة في فم الفراغ. صوته الآن ليس سوى شبح يقطن كهف الصدى."
أزاحتْ ناهدُ ملفَّ المهندسِ القديمِ جانبًا. نظرتْ إلى ملفِّ صفوانَ والأصدقاءِ الجدد، ومشاريعِهِمْ التي تلوحُ في الأفق. كانَ الخطرُ الأكبرُ ليسَ في امكانيات نجاحِهِمْ الماليّ في المستقبل، بلْ في فلسفتِهِمْ القائمةِ على الشفافيةِ والثقة. هذهِ الفلسفةُ تتعارضُ مباشرةً معَ مصالحِ تحالفاتِ الظل العابرة للحدود التي تهدفُ إلى خلقِ سوقٍ قائمٍ على الشك والجهل.
"إنَّهُ ليسَ صراعًا محليًا،" فكَّرتْ ناهد، "إنَّهُ حربٌ بالوكالةِ على نزاهةِ المنظومةِ الأخلاقيةِ المحلية والإقليمية، والتي يجبُ أنْ تسقطَ ليصبحَ الشكُّ هوَ العُملةَ الوحيدةَ التي نتعاملُ بها، ويسهلُ التحكمُ بنا من قِبَلهم."
أومأت ناهد، وعيناها مثبتتان على صورة صفوان وسمية: "والآن، لدينا مهمة تتطلب نحتًا جديدًا. هؤلاء الشبان الأربعة. مشروعهم سينبض بالحياة، وكل نبضة تُصدر تهديدًا لإيقاعنا الراكد. سنبدأ بـالخيط الأكثر هشاشة؛ شغف صفوان الذي يشبه قشة في مهب العاصفة. ثم قضية السيارة. هذه القصة هي لوحتنا القادمة التي سنرسمها بفرشاة من الوشاية والحقد، كما اعتدنا أن نفعل."
ترك حسام ناهد وتحرك سريعًا إلى غرفة التحكم السريّة في أسفل المبنى.
(في غرفة التحكم السريّة. الإضاءة خافتة، حسام يقف، والمرشد يتحدث عبر مكبر صوت مُبهم)
المرشد: (صوت عميق وهادئ) حسام، نحن في مرحلة الزراعة الخفية. الأرض لم تُشترَ بعد. صفوان لم يقتل بعد. ما هي 'أبجديات الظل' التي ستضمن أن الخيانة والقتل أصبحا حتميين؟
حسام: (ببرود عملي) لقد تم تفعيل خمسة محاور للتهيئة، سيدي، لكن التحدي ليس في الخطة، بل في نور اليقين الذي نكافحه.
1. التشويه الاقتصادي (مواجهة الثقة في الإرث)
"بدأنا بـ هندسة اليأس الإعلامية. نزرع الآن في الصحف مقالات عن 'تغيرات جيولوجية محتملة'. هدفنا ليس الأرض، بل الثقة في قيمة الإرث. كل مقال كاذب هو مطرقة تهوي على سعر المتر المربع، ليس بالقوة الاقتصادية، بل بالضباب الإعلامي المصنوع. التحدي الحقيقي هو أن حامد لا يزال يرى في الأرض جذراً، لا سلعة. الـفـقـر يُصنَع، ولا يُحدَث، لكن صناعته تصطدم دائماً بقوة الإرث."
2. الملف النفسي (مواجهة قوة المحبة والوفاء)
"انتقلنا إلى الملف النفسي لصفوان. الكيان المجهول سيحول غيرته إلى سلاح مبرمج. القتل لن يكون عشوائياً. لكن التحدي هنا هو قوة المحبة بين صفوان وزوجته، سميّة. إنها جدار صلب. نحن لا نستطيع تدمير المحبة مباشرة، لكننا سنصنع ظروفاً تجعلها هي نفسها مصدر الألم. صفوان ليس قاتلاً بعد، لكنه أداة حية تحت الشحن."
3. الشركة الواجهة (مواجهة الشفافية)
"لتأمين الأموال لاحقاً، يتم تجهيز 'منائر الأفق المحدودة'. هذه ليست واجهة للبيع، بل هي مغاسل للثقة. يجب أن تكون عملية سرقة الإرث مُقنّعة. التحدي هو يقظة بعض الأفراد داخل النظام المالي الذين قد يرفضون المرآة الزائفة التي تعكس شرعية العملية. يجب أن تكون الأوراق الرسمية المزيفة جداراً لا يكسره إلا يقين الضابط مروان لاحقاً."
4. الحاجة القسرية (مواجهة قوة الترابط الاجتماعي)
"أهم مراحل التخطيط هي صناعة الحاجة القسرية. زرعنا إشاعة الفشل في مناقصة ابنه، وفشل صفقة العطور لزوجته. القاعدة الذهبية لـ الأيادي الخفية: إذا أردت السيطرة، لا تنتظر الحاجة؛ بل قم بزرعها. لكن قوة الترابط الاجتماعي بين الأصدقاء الثلاثة مزعجة. لو لم يكن هناك هذا الترابط، لكانوا باعوا الأرض منذ زمن. علينا أن نضمن أنهم يرون الخيار الوحيد كـ طوق نجاة إجباري."
5. المقر العملاق (مواجهة الوعي الجماعي)
"المقر الذي سيُقام على أرض حامد ليس مصنعاً، بل جهاز استشعار عملاق. إنه سيكون رمزاً لـ سيادة الظل المُطلَق. لكننا نرى مؤشرات وعي ذاتي ترفض هندسة اليأس. يجب أن نضمن أن هذا الوعي سيبقى مشتتاً، لأن الوعي الجماعي هو الجدار الأخير الذي قد يفشل مهندسونا في هدمه."
المرشد: (صوت يحمل شيئاً من الرضا الخبيث) أحسنت يا حسام. أنت تفهم أن عملنا ليس مادياً، بل روحي. الآن... ابدأ بتفعيل خوارزمية الشك الصحي في القطاع المجاور كتمهيد. نحن لا نسرق الممتلكات، نحن نسرق الاطمئنان. ثم ننتظر قطف الثمار.




سكرت بغير خمر
وفي صَبَاحِ يَوْمٍ معتدل، كانت الساعة السَّادِسَةِ وَالنِّصْفِ، وريحٌ عليلةٌ تَنْعَشُ الأجواءَ. دَلَفَ صفوانُ إلى مكتبِه، لكنَّه توقَّفَ عندَ العتبةِ، وكأنَّ حائطًا غيرَ مرئيٍّ قد منعهُ من الدخولِ. وجدَ طابعًا بريديًّا وحيدًا، ومُتجمدًا على عتبةِ البابِ، تتبَّعَ أثرَهُ بصرُهُ المذعورُ حتى وجدَ الظرفَ بينَ فراغِ البابِ والإطارِ.
جلسَ صفوانُ على كرسيِّهِ ببطءٍ، فتحَ الظرفَ بهدوءٍ، وبمجردِ وقوعِ بصرِهِ على ما فيهِ، انطفأتْ أضواءُ عالَمِهِ. كَانَتْ صُورَةً فُوتوغرافيَّةً لِسُمَيَّةَ وهيَ تُعانِقُ شَابًّا غَرِيبًا، وَكَأنَّ الصُّورَةَ قَدْ نُحِتَتْ بِخِنْجَرٍ فِي قَلْبِهِ. تحوَّلتْ ألوانُ الغرفةِ إلى رمادٍ، وصارَ الهواءُ كتلةً صمَّاءَ. ضربَ على صدرِهِ، وخلعَ معطفَهُ، وفكَّ رباطَ عنقِهِ، وفتحَ نوافذَ الغرفةِ بقوةٍ حتى تحطَّمَ زجاجُ إحداها. لم يكنْ يطلبُ الهواءَ، بل كانَ يطلبُ متنفسًا لروحِهِ التي تشتعلُ.
فجأةً، سمعَ طرقَ البابِ. دخلَ فاهمُ، ولاحظَ رائحةَ احتراقٍ خافتةٍ في الهواءِ.
اقتربَ منهُ وسألَهُ: "صفوان، ما بكَ؟ شكلك مبعثر كأنك سقطتَ من شاهق!"
أشارَ صفوانُ لفاهمَ أن يجلسَ، ثمَّ أغلقَ البابَ بهدوءٍ. عادَ إلى مقعدِهِ وسألَ بصوتٍ خافتٍ: "ما رأيكَ في الوفاءِ؟ هل يمكنُ أن يتغيَّرَ جوهرُ الشيءِ؟"
استغربَ فاهمُ: "افصح، لم أفهم!"
قالَ صفوانُ، والأسى يجثمُ على صدرِهِ: "أخشى أنَّ رياحًا عابرةً قد تحملُ معَها بذورًا غريبةً إلى حقلٍ كانتْ تظنُّهُ روحَهُ، وأن تلوِّثَ تربتَهُ." ثم أراه الصورة.
ابتسمَ فاهمُ بمرارةٍ، وكأنَّه يستحضرُ ذكرى بعيدةً: "تتكلم عن الوهم يا صفوان؟ إنه العدوُّ الأشدُّ فتكًا. لا يتركُ أثرًا على الجسدِ، بل ينهشُ الروحَ من الداخلِ. أذكرُ صديقًا قديماً... بنى في مخيلتِه سجنًا من الشكِّ، حتى قتلَ الحبَّ ببطءٍ شديدٍ. لم يكنْ هناكَ خيانةٌ حقيقيةٌ، بل كانتْ صورةٌ زائفةٌ بناها عقلهُ بالغيرةِ. وهمَهُ هو عدوَّه الحقيقيَّ." ثمَّ نظرَ في عيني صفوانَ مباشرةً: "هذي أوهامٌ يا صديقي، لا أساسَ لها. سميّة لديها من العقلِ والعفة ما يجعلُها فوقَ كلِّ شبهةٍ. لا تدعِ الشيطانَ ينزغْ بينكَ وبينَها."
تهلَّلَ وجهُ صفوانَ، كأنَّ غيمةً سوداءَ انقشعتْ عن وجهِهِ: "شرحتْ كلماتُكَ صدري، وأذهبتَ بعضَ وسواسي وهمِّي! هذا ما جذبني إليها، حتى أصبحتْ غيرتي عليها تكادُ تقتلني... فكيفَ لو رأيتُ غيرَ ذلكَ؟"
ثمَّ أخرجَ صفوانُ ورقةً من درجِهِ وقالَ لفاهمَ: "قبلَ هذهِ اللحظةِ، كانتْ غيرتي عليها تلتهمني، فكتبتُ لها هذهِ الأبياتِ.
ربما تشرحُ لكَ هَوَسَ العاشقِ بالتمامِ."
وقرأ فاهمُ ما كَتبَهُ صفوانُ بصوتٍ خافتٍ، كأنَّهُ يقرأُ سِرًّا:
إِنِّي أَغَارُ عَلَيْكِ كَالْمَجْنُونِ
يَا نَبْضَ قَلْبِي يَا سَوَادَ عُيُونِي
فَأَنَا المُتَيَّمُ كُلُّ حُلْمِي أَنْ أَرَى
نَسَمَاتِ حُسْنِكِ إِذْ تَهُزُّ غُصُونِي
إِنِّي أَغَارُ مِنَ النَّسِيمِ إِذَا صَبَا
مُتَلَمِّسًا خَدَّيْكِ كَالمَفْتُونِ
ناهِيكِ أَنْ أَرْضَى بِنَضرةِ طامعٍ
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يَقِظُّ سُكُونِي
لَا تَكْشِفِي هَذَا الجَمَالَ لِنَاظِرٍ
إِنِّي أَغَارُ وَغَيْرَتِي تُؤْذِينِي
تَحْتَ الخِمَارِ تَدَثَّرِي وَتَحَجَّبِي
يَا رُوحَ رُوحِي يَا دِمَاءَ وَتِينِي
أَنْتِ الجَمَالُ فَأَسْدِلِي جِلْبَابَهُ
لَا تَنْزِعِيهِ بِحَقِّ هَذَا الدِّينِ
فُتِنَ الجَمَالُ بِحُسْنِ وَجْهِكِ إِنَّهُ
مِنْ فَرْطِ دَهْشَتِهِ أَثَارَ شُجُونِي
لَوْ كَانَ يَدْرِي لَيْلُ عَيْنِكِ مُهْجَتِي
لَبَكَى عَلَى قَلْبِي بِدمعِ هَتُونِ
لَوْ يَسْأَلُ اللَّيْلُ النُّجُومَ عَنِ الهَوَى
لَرَوَى حِكَايَتَنَا بِكُلِّ فُتُونِ
وَإِذَا ترقرقتِ المشاعرُ في الدُّجَى
نَسِيَ الدُّجَى أَحْزَانَهُ بِعُيُونِي
وَإِذَا تَنَفَّسَ فَجْرُ وَجْهِكِ بَاسِمًا
خَشَعَ الجَمَالُ لِحُسْنِكِ المَكْنُونِ
انتهى فاهم من القراءة وانصرفَ تاركًا صفوانَ وحدَهُ، ولكنَّ الغبارَ ما زالَ على وجهِهِ، يلسعُهُ بينَ الحينِ والآخرِ. ظلَّ يبحثُ في ملفاتِ مخيلتِهِ عن تفسيرٍ لتلكَ "الندبةِ"، لغزِ الصورةِ الذي كانَ يلسعُهُ بينَ الحينِ والآخرِ. محتارًا، بأيِّ وجهٍ يقابلُها.
ثمَّ نهضَ صفوانُ من مقعدِهِ، وسارَ نحو النافذةِ، وكأنَّهُ يُحاوِلُ أن يُبعِدَ صوتَ الشكِّ الذي أقنعه فاهم بانه وهم للتوِّ. وفي لحظةِ تحدٍّ داخليٍّ لِما رأى، ألقى على نفسه عزمةالثبات، كتحصينٍ لِما تبقَّى من نقاءِ ذلكَ الحبِّ الذي يتمنى أن يسودَ ويقابل حبيبته لكي يتم زفافهما قبل ان ينفرط العقد بمؤمرة تزيد الطين بله:
وبعدَ صمتٍ ثقيلٍ، عادَ يفكر كيف سيكون اللقاء وكيف سيخاطب سميه والمرارة الجديدةِ التي انزرعتْ فيهِ مازال منها أثر رغم ذهاب الكثير منها بحديث فاهم، يقول في نفسه:
سَكِرْتُ بِغَيْرِ خَمْرٍ فِي هَوَاهَا...
فَكَيْفَ إِذَا تَلَاقَى النَّاظِرَانِ؟
هَوَاهَا وَالْأَمَانِي تَحْتَوِينِي...
فَمَاذَا لَوْ تَغَيَّرَتِ الْأَمَانِي؟

على الرصيف:
على رفرفٍ خضرٍ من رصيفِ بوفيَّةِ راشدٍ، التقى الأصدقاءُ الثلاثةُ كعادتِهم، لكنَّهم لم يكونوا ينتظرونَ صفوانَ، بل كانوا ينتظرونَ جوابًا.
فاهمٌ صامتٌ، يجرِّع فنجانَ قهوتِهِ ببطءٍ.
حامد (بهدوء متفائل): "لا بأسَ عليهِ، هو يستحقُّ الراحةَ. الحمد لله على سلامة القلب."
رؤوف (بشيء من الحنين والأسى، وبلسان أكثر واقعية): "والله يا عيال، كل واحد له سجنه اللي يدور فيه على حرية. أحياناً السجن يكون هو السعادة نفسها. كل ما شفت زهور صفوان وسمية تورق، تذكرت أيامي الخوالي."
قاطعهُ حامد (بتعبير متزن): "قد أخالفُكَ الرأيَ يا صديقي، فما يزالُ جسرُ حبِّي لأسماءَ قويًّا، لم تهزَّهُ الرياحُ."
رؤوف (متسائلًا بمرارة): "وهل تراها تعودُ تلكَ الأيامُ؟"
فاهم (بابتسامةٍ حزينةٍ): "ماذا يمنعُكما؟"
استحسنَ حامدُ الحوارَ: "يمنعُني خوفي من أن أكسرَ زجاجَ الوفاءِ اللي بنيناهُ معًا. ما أجرؤُ أدخل طائر غريب لقفص أحلامها. فما جدوى أن أجعلَها في قلقٍ يؤرِّقُ صفوَها؟ التهديد يمكن يكون أسوأ من التنفيذ."
قالَ رؤوف (بشكل مباشر): "أنا معك في هذي، الحريم يعتبرونه السم الناقع. يعني كلمة وحدة تكسر كل شيء."
حامد: "ولكنَّ لكلٍّ ظروفَهُ ودوافعَهُ، فأسرارُ البيوتِ لا يعرفُها سوى أصحابِها. فإذا اشتطَّ بيَ الضَّيمُ، فهي الحنونُ الودودُ، التي أحُطُّ حمائلَ همِّي بينَ يدَيها فتواسيني بأعذبِ الكلماتِ، وتمحو برقتِها عنتي."
لم يجدْ رؤوفٌ ما يقولُهُ بعدَ أن أفصحَ حامدٌ، ثمَّ عمَّ السكونُ.
رؤوف (بانزعاج خفيف): "تكلَّمْ يا فاهمُ، فقد أقلقنا صمتُكَ."
فاهم: "أصابَ حامدٌ كبدَ الحقيقةِ. حرارةُ الموضوعِ ذكرتني بأناسٍ يكسرونَ قلوبَ زوجاتِهم بـ'كلمةٍ قيلتْ ولم تُسحبْ'، كلمةٍ تهدمُ بيتًا كأنَّها لعبةُ أطفالٍ. هل كانَ يجبُ أن يكونَ الزواجُ بلا طلاقٍ؟"
حامد: "تساؤلُكَ خطيرٌ يا صديقي، ولكنه يشبهُ سؤالَ إبراهيمَ: 'أرني كيفَ تُحيي الموتى'. أنتظرُ جوابَكَ يا فاهمُ."

لم ينبس فاهمٌ ببنتِ شفةٍ، وظلَّ الصمتُ سيدَ الموقفِ بينَ الأصدقاءِ، وكأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يغوصُ في أسئلتِهِ الخاصَّةِ التي لا جوابَ لها.
وفي تلكَ الأثناءِ، بعيداً عن صمتِ الأصدقاءِ، بدأ صفوانُ يدركُ أنَّ ما يمرُّ بهِ ليسَ مجرَّدَ شكٍّ، بل هوَ بدايةُ خيطٍ يجرُّهُ إلى عالمٍ لا يعرفُهُ، عالمٌ يختبئُ في أعماقِ هذهِ المدينةِ، عالمُ... مملكةِ الظلِّ.
وفي تلكَ اللحظةِ بالذاتِ، أدركَ صفوانُ لغزَ "الندبةِ" التي لم ينسَ موضعَها في الصورةِ التي رآها. لم تكنْ تلكَ الندبةُ علامةَ عيبٍ في سميّة، بل كانتْ كلمةَ مرورٍ عاطفيَّةً. فالشابُّ الذي عانقها لم يكنْ سوى عميلٍ أجرى عمليةً جراحيَّةً دقيقةً ليزرعَ تلكَ العلامةَ تحديداً على جسدِهِ، ليُقنِعَ سميّةَ بأنَّهُ شخصٌ تعرفُهُ من ماضٍ قديمٍ وبعيدٍ، ربما كشخصٍ عزيزٍ أو مُخلِّصٍ في طفولتِها. إنَّها عمليةُ خِداعٍ نفسيٍ كاملةٍ، خطةٌ شيطانيَّةٌ من المنظمةِ لتكسيرِهِ، وتدميرِ الحبِّ قبلَ الزفافِ.
ثمَّ نهضَ صفوانُ من مقعدِهِ، وسارَ نحو النافذةِ، وكأنَّهُ يُحاوِلُ أن يُعَدِّلَ ما انهارَ من عزيمتِهِ. وفي لحظةِ إصرارٍ وتحدٍّ للمنظمةِ، ألقى على نفسه الأبياتَ التي كتبَها قبلَ الغدرِ استعادها من ذاكرته، ليُعلِنَ أنَّ هذا الحبَّ لن يُكسَر، وليزيدَ عزمَهُ على أن يقابل حبيبته لكي يتم زفافهما قبل ان ينفرط العقد بمؤمرة تزيد الطين بله:
هَلْ فِي عُيُونِكِ أَوْرَاقٌ لِتَسْقِيَهَا
بِدَمْعِ عَيْنِي وَأَجْعَلُهَا لَكِ السُّكَنَا
وَأَجْعَلُ الرِّيحَ مِزْمَارًا يُغَنِّي لَهَا
حَتَّى تَعُودَ وَيَبْقَى النَّبْتُ مُفْتَتِنَا
ثم انفض اللقاء وعاد كل الى موقعه وعاد صفوان كذلك وقد عقد العزم على سرعة إجراء الزفاف والفرح بحبيبته وايضا ليقهر من يتأمرون عليهما.

شهادة الماء
عاد صفوان إلى مكانه في ردهته، والليلُ يرتدي ثوبَ الصمتِ إلا من همسِ الشكِّ في صدره، كأنَّهُ صدى رصاصةٍ لم تُطلقْ بعد. كانت الصورةُ التي أرسلتها ناهدُ، والصمتُ الغامضُ الذي ارتدته سميةُ، أشواكًا في طريقِ الحبِّ الذي أقسمَ أن لا يذبل. لكنَّ الشاعرَ فيه لم يكنْ ليُغْلَقَ بـصورةٍ تُزيفُ المشهد، ولا بـظرفٍ أحمرَ يتَّشحُ بالدماءِ الكاذبة.
في تلكَ الساعةِ التي تَلُفُّ الأسرارَ بأذيالِ الظلامِ، أدركَ صفوانُ أنَّ الحبَّ الصادقَ لا يُنْكَرُ بـشَامَة، بل يُثْبَتُ بـجُرْح. وتذكَّرَ قولَ فاهم عن الوهم، وعادَ إلى لغزِ الندبة على ذراعِ الشابِّ في الصورة. كانتْ تلكَ الندبةُ ليستْ علامةَ عيبٍ، بل بصمةَ خِداعٍ مسروقة. لقدْ استمدتْ "شبكةُ الظلِّ" قصَّتها كاملةً منْ أرشيفِ ذاكرةِ سميةَ الطفوليَّة؛ حيثُ كانَ شقيقُها المفقودُ يحملُ العلامةَ ذاتها. كانَ الشابُّ ليسَ حبيبًا، بلْ رُبَّانَ مؤامرةٍ أُجْرِيَتْ عليهِ جراحةٌ دقيقةٌ ليزرعَ تلكَ الندبةَ المُزيَّفة، ليُقنِعَ سميةَ بأنَّهُ مُخَلِّصُها الغائبُ الذي جاءَ لانتشالِها منْ وحدتِها. كانتْ تلكَ المحاولةُ ليستْ عناقًا، بلْ اقتحامًا لـقداسةِ الذِّكرَى.
وفي ذاتِ اللحظة، رنَّ هاتفُهُ برسالةٍ صوتيةٍ منْ سميَّة. لمْ يكنْ صوتُها خائفًا، بلْ متَّشحًا بـصلابةِ الاعترافِ: "يا صفوان، ليسَ كلُّ ما في الظرفِ الأحمرِ قُبحًا. والدتي لمْ تخنِ الشريكةَ، بلْ خانتْ صمتَها. لقدْ سرَّبتْ معلوماتٍ لاَ قيمةَ لها لـشبكةٍ وهميَّةٍ، مقابلَ أنْ يُسمحَ لها بـالحصولِ على عِلاجٍ متقدِّمٍ لـمرضٍ نادرٍ كانَ يُنهِشُ جسدَها. لمْ تكنِ الوثيقةُ سِرَّ خيانةٍ، بلْ سِرَّ حُبٍّ وتضحيةٍ، فدفعتْ ثمنَ العِلاجِ بـما لا يملكُ قيمةً في ميزانِ السوق. إنَّهمْ يُهدِّدونني بـنَبْلِها القديم، ويُحاوِلونَ تَحويلَ العِشقِ إلى وصمةٍ."
هنا أدركَ صفوانُ لغزَ اختفاءِ غلامِ راشدٍ المفاجئ؛ لمْ يكنْ العصفورُ الأبيضُ مُجرَّدَ أداةٍ، بلْ رِيشَةٌ أُحْرِقَتْ بعدَ انتهاءِ مَهَمَّتِها. وزادَ الأمرُ رسوخًا حينَ ربطَ اسمَ الشريكِ القديمِ مالِكِ المزرعةِ بـنُبْلِ تضحيةِ والدةِ سمية. كانَ الشريكُ القديمُ ليسَ سِوى الذراعَ التنفيذيَّةَ الذي تلقَّفَ معلوماتِ الأمِّ في عمليةِ التجسُّسِ الهامشيةِ القديمةِ، ليُعيدَ استخدامَها اليومَ كورقةِ ضغطٍ قاتلةٍ. إنَّها دائرةُ انتقامٍ مُحْكَمَةٌ تضربُ بجذورِها في أعماقِ الماضي المشترك.
ولمْ يَغِبْ عنْ ذهنِ صفوانَ، وهُو يُرتِّبُ خيوطَ المكيدةِ، قلقُ رؤوفَ وظلُّ فاهمَ الغامض. فحركةُ اليدِ المتكررةُ لـفاهمَ على سترتِهِ لمْ تكنْ عَصبيةً عابرةً، بلْ هيَ حِراسةٌ لـسرٍّ ثقيلٍ؛ ربما لـتذاكرَ سفرٍ عاجلةٍ أوْ لـخنجرٍ غيرِ مرئيٍّ، أوْ لـدليلٍ يُدينُهُ. وفي ومضةٍ لاحقةٍ، تمكَّنَ صفوانُ منْ تتبُّعِ مسارِ فاهمَ خُفْيةً، ليكتشفَ أنَّ سترتَهُ كانتْ تُخفي دفترَ خططِ المصنعِ لا سرَّ الغدرِ، وأنَّ قلقَهُ لمْ يكنْ إلاّ توتُّرَ المسؤولِ؛ فاندفعَ صفوانُ إلى رؤوفَ بـيقينٍ يغسلُ دنسَ الشكّ، مؤكِّدًا أنَّ ساحةَ صديقِهما نظيفةٌ كـيدِ طفلٍ. بذلكَ، عادَ النورُ إلى شجرةِ الصداقةِ، وأصبحَ الأصدقاءُ جاهزينَ لـتسليمِ أموالِهم لـفاهمَ لبدءِ مغامرةِ المصنعِ الكبرى.
نهضَ صفوانُ كأنَّهُ الماءُ الذي كُشِفَتْ عَنهُ الصخورُ، وأدركَ أنَّه تمكَّنَ منْ حلِّ مشكلةِ الرموزِ التي ألقيتْ عليه، وأنَّ الرمزَ الكبيرَ المُتمثِّلَ في "مملكةِ الظلِّ" لا يزالُ قائمًا. أيقنَ صفوانُ أنَّ إتمامَ الزواجِ في الأيامِ القادمةِ لمْ يعدْ مجرَّدَ تتويجٍ لـقصيدةِ حُبٍّ، بلْ فَصْلًا حربيًّا يُعلِنُ فيهِ صفوانُ وسميةُ اتِّحادَهُما ضدَّ شبكةٍ تتحدَّى الحبَّ والصداقةَ معاً.
تذكر صفوان انه عندَما أمسكَ فوازُ بالجهازِ الدقيقِ، شعرَ صفوانُ ببرودةِ الفولاذِ تخترقُ قلبَه. قالَ فوازُ بصوتٍ خافت: "هذا ليسَ جهازَ تعقُّبٍ بسيط. إنَّهُ جزءٌ منْ بروتوكولِ سيطرةٍ عالمي، يُستخدمُ لقتلِ كلِّ بادرةِ ثقةٍ في المجتمع. إنَّهُم يُرسلونَ رسالةً للجميع: لا أحدَ يمتلكُ خصوصية، والشكُّ هوَ الحارسُ الوحيدُ لبيوتِكُم. إنَّ مصفوفةَ الشك تزرعُ الريبةَ لتبريرِ تدخُّلِها في كلِّ تفاصيلِ حياتِكُم. لقدْ أصبحنا جميعًا أهدافًا لسياسةِ الشكِّ الممنهجة التي تهدفُ لإفقادنا الإيمانَ بالنزاهةِ في كلِّ مستوياتِ الفعل والتعامل."
قطعة 14 (إضافة شهادة الماء ب):
شعر صفوانُ فجأةً بوزنِ هذهِ الحقيقةِ ينهارُ على كتفيهِ. لمْ تعدْ القضيةُ سميةَ فقطْ، ولا هوَ وحدهُ. لقدْ أدركَ أنَّ كلَّ هذهِ العواملِ — منْ الكتمانِ في الأنظمةِ السياسيةِ المحليةِ، إلى الصراعِ الخفيِّ في تحالفاتِ الظلِّ العالميةِ — اجتمعتْ وتضافرتْ لتزرعَ هذا الوباءَ الأخلاقيَّ.
قطعة 15 (إضافة شهادة الماء ج):
تساءلَ في مرارة: "إذا كانَ الشكُّ هوَ منهجَ التعاملِ الجديدِ، فكيفَ يبقى الصديقُ معَ صديقِه دونَ قلق؟ كيفَ أنظرُ إلى فاهم أو رؤوف دونَ أنْ يراودنيَ خاطرٌ أنَّهُمَا قدْ يكونانِ مُجبَرَانِ على التجسسِ عليَّ، أوْ أنَّ الطمعَ قدْ دمرَ نزاهتهما كما دمرَ سلامي؟ لقدْ فقدنا جميعًا القدرةَ على الراحةِ في ظلِّ اليقين. أصبحَ القلقُ هوَ الإطارَ الوحيدَ الذي يجمعنا الآن."

وفي مكانٍ آخرَ تماماً، وعلى بعدِ آلافِ الأميالِ، كانتْ عائلةُ حامد على وشكِ اتخاذِ خطوةٍ مفصليَّةٍ في حياتِهِم، تُغيِّرُ مسارَ كلِّ شيءٍ. كانتْ أسماءُ بجوارِهِ، تبتسمُ بثقةٍ، وكأنَّها ترى في الأفقِ مستقبلاً مشرقاً لم يَعُدْ يحجُبهُ شيءٌ. لقد كانَ يعلمُ أنَّ هذهِ الخطوةَ هيَ مفتاحُهُ للوصولِ إلى القمَّةِ، لكنَّهُ لم يكنْ يدري أنَّها كانتْ بدايةَ خيطٍ آخرَ، يُلَفُّ حولَ عنقِهِ وعنقِ أصدقائِهِ، وأنَّ العالمَ الجديدَ الذي يدخلُهُ الآنَ، هوَ المدخلُ السَّريُّ لِما يُسمَّى بـِ "الفصلِ الثاني" من حياتِهِ