أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: من الفصل الأول

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    المشاركات : 1,581
    المواضيع : 368
    الردود : 1581
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي من الفصل الأول

    خيوط الظنون
    (بأدنى حد من التشكيل)
    في بناءِ الثقةِ، لم تُشَيَّدِ الجدرانُ يوماً من طينِ الأرضِ وقسوةِ الحجرِ، بل رُفِعَتْ من خيوطِ ضوءٍ منسوجةٍ بالوعدِ، ولَبِناتٍ مسقيةٍ بماءِ الودِّ الصافي. ومع كلِّ دورٍ يعلُو في هذا البنيانِ، كانَ الصمتُ هو المِلاطُ الذي يزيدُ من تماسُكِها. ولكنْ، من أروقةِ القرارِ المعتمةِ، تسلّلَ داءٌ خفيٌّ كأفعَى ميتةِ الروحِ، لم يأتِ بالفأسِ الهادِمِ، بل أتى كدُودَةٍ تنخرُ ذاكرةَ الخشبِ، حتى تآكلَ أساسُ القلعةِ من الداخلِ، دون أن يرى أحدٌ كيفَ تهوِي عروشُ الثقةِ على رؤوسِ أصحابِها. هذه حكايةُ القلوبِ التي ظنَّتْ أنها حصونٌ مغمورةٌ بضوءِ اليقينِ، فإذا بها تنزفُ من طعنةٍ واحدةٍ، غيرِ مرئِيَّةٍ، غُرِسَتْ في النسيجِ الاجتماعيِّ باليدِ الخفيةِ لِغيابِ الشفافيةِ.

    الإهداءُ:
    إلى كلِّ من يُصافِحُ الأمانَ بكفٍّ مطليٍّ بضوءِ البراءةِ، لا يعرفُ الغدرَ.
    وإلى كلِّ قلبٍ كانَ شجرةً سامِقَةً أصلُها ثابتٌ في أرضِ الثقةِ.
    أُهدِي هذه الكلماتِ، لتكونَ مرآةً لا تَصدَأُ، تُذَكِّرُ بأنَّ أشرسَ المعاركِ هي تلكَ التي نخوضُها في دهاليزِ ظنونِنا المهجورةِ، وأنَّ أعظمَ الخساراتِ ليستْ ما يُسرَقُ من جيوبِنا، بل ما يُباعُ من أرواحِنا ثَمَناً لنظامٍ يقتاتُ على تشظِّينا الروحيِّ.

    استهلالٌ
    إنَّ هذه القَضِيَّةَ والقصةَ ليستْ عنْ خيانةِ وردةٍ أو فردٍ أو أفرادٍ، ولا هي قَضِيَّةٌ محليةٌ معزولةٌ، بل هي عنِ الفيضانِ الآتي من صراعِ الرموزِ بينَ منظوماتِ الظلامِ والنورِ. إنَّ الشَّكَّ الذي قادَ صفوانَ إلى الجنونِ لمْ يُزرَعْ في تُرابِ غرفةِ النومِ، بلْ في أرضِ بروتوكولاتٍ كُتبَتْ بالحبرِ الرتيبِ للمنظماتِ العابرةِ للحدودِ. لكنَّ هذا الشَّكَّ ينمُو أيضًا كجِلدٍ ثانٍ إجباريٍّ في مجتمعٍ سُرِقَتْ منهُ الشفافيةُ، فتُغذِّيهِ الآلياتُ الممنهَجَةُ بقوتِ الخوفِ، ثمَّ يستغلُّهُ الطمعُ. إنَّ هدفَهمُ الاستراتيجيَّ ليسَ السيطرةَ على الخزائنِ، بلْ هو إنهاكُ عمودِ المنظومةِ الأخلاقيةِ للمجتمعِ وغرسُ فقدانِ الثقةِ كنظامِ تشغيلٍ، والغيرةِ، والأحقادِ، والطمعِ واليأسِ، لتصبحَ الأرواحُ هشَّةً كزجاجٍ رقيقٍ، فينصرفُ المجتمعُ إلى انهيارِهِ الذاتيِّ. هذا المنهجُ يعملُ على مستوياتٍ ثلاثةٍ: محليًّا عبرَ الأنظمةِ البيروقراطيةِ المُسَرطَنَةِ بالكتْمانِ، وإقليميًّا عبرَ التحالفاتِ الخفيةِ لعرقلةِ التنميةِ النزيهةِ، وعالميًّا عبرَ تدميرِ الثقةِ كقانونِ جاذبيةٍ لأيِّ مقاومةٍ.
    توقفتِ الحياةُ عندَ لحظةِ تحوُّلِ الوطنِ من جغرافيا إلى فكرةٍ مفقودةٍ، كيانٍ بلا هويةٍ. لم يعدِ المالُ بركةً، بل أصبحَ رذاذاً سامًّا؛ فقد رأى الناسُ 'ظلَّ الذهبِ ' يتسربُ، فعلموا أنَّ النورَ نفسَهُ مشوبٌ. حين تنهارُ قداسةُ النهرِ، تُصبحُ كلُّ قطرةِ ماءٍ مشبوهةً، فلا المالُ يملكُ براءةً، ولا الأمانةُ تُعترفُ.
    هكذا تتسللُ الفوضى من المنظومةِ الكبرى إلى سريرِ الزوجينِ؛ لأنَّ 'القناعَ الشفافَ للنفوذِ' علَّمنا أنَّ الحقيقةَ هي دائماً القناعُ الذي لا نراهُ، تحوَّلَ كلُّ همسٍ في العلاقةِ إلى اتهامٍ. حين يغدرُ الوطنُ بعهودِهِ، ويوقِّعُ على 'دفاترِ العطشِ'، لا يعودُ لوعدٍ صغيرٍ بينَ فردينِ أيُّ قيمةٍ. الشَّكُّ ليسَ خطأً شخصيًّا بينَ سميةَ وصفوانَ، بل هو نتاجٌ طبيعيٌّ لِغيابِ الثقةِ العامةِ؛ لأنَّهُ أسهلُ من الإيمانِ في زمنِ 'المحرقةِ الاقتصاديةِ' التي أحرقتِ الأُفُقَ.
    الخيانةُ، إذًا، هي أثرٌ جانبيٌّ لليأسِ. 'سماسرةُ الجوعِ' لا يبيعونَ الأرضَ فقطْ، بل يبيعونَ الأفرادَ لبعضِهمُ البعضَ بحثًا عن قاربِ نجاةٍ. وفي هذا التشتُّتِ الذي صنعتْهُ 'أرقامٌ تحتَ المطرِ الحارقِ'، حيثُ فقدَ الجميعُ إحداثياتِهم، أصبحَ الظنُّ هو الدفاعُ الوحيدُ الباقي. لأنَّهُ أيسرُ على النفسِ أنْ تشكَّ في حبيبٍ، من أنْ تؤمِنَ في وطنٍ لا يُقدِّمُ دليلاً واحداً على صدقِهِ.

    كانتِ الغرفةُ غارقةً في زجاجٍ من الضوءِ الخافتِ، نورُ القمرِ ينسابُ من النافذةِ كشريطٍ فضيٍّ يحملُ سرَّ الليلِ، ويرتسمُ على وجهِها الذي كانَ دفترَ أحلامِهِ المفتوحَ. كانت تنامُ بسلامِ من لا يعلمُ أنَّ اليدَ التي كانتْ ترسمُ وشمَ الأمانِ على وِسادةِ الحبِّ، هيَ نفسُها التي ستُسدِلُ الستارَ على كلِّ شيءٍ.
    في تلكَ اللحظةِ، لم يكنْ صفوانُ يرى زوجتَهُ التي كانتْ قوسَ قزحِهِ؛ بل كانَ يرى ظلَّ صورةٍ لا ترحمُ، وصدى وِشايةٍ حوَّلتْ قلبَهُ إلى جمرٍ مُزجَّجٍ من الجمودِ. اِقتربَ من السريرِ، والمسدسُ في يدهِ يلمعُ ببريقِ الوعيدِ القاتمِ، كأنَّما هو ساعةُ زمنٍ تُنذِرُ بصمتِ ما قبلَ الفاجعةِ.
    لم تُعطِ الصرخةُ فرصةً لِتُولَدَ من الحنجرةِ، فقد سقطتْ قبلَ أنْ تُعانِقَ الهواءَ. صُراخُ الطلقاتِ، هزَّ صمتَ الليلِ كشظايا زجاجٍ تتناثرُ في الأثيرِ، واهتزَّ معها عالمُ صفوانَ. لم تكنْ عيناها تلمعانِ بالخوفِ، بل بمرارةِ الأسى الأبديِّ. كأنها تقولُ لهُ بغيرِ صوتٍ: "لقد قتلتَني مرتينِ... مرَّةً برصاصتِكَ هذهِ التي اِخترقتْ جسدي، ومرَّةً أخرى يومَ قتلتَ ثقتَنا وصدَّقتَ أوهامَ المِدادِ المسمومِ."
    سقطتِ الكلمةُ كصخرةٍ صلدةٍ في بئرِ قلبِهِ، لكنَّ الأوانَ قد فاتَ. كلُّ ما تبقى هو صدى الرصاصاتِ كموسيقى جنائزيةٍ في الغرفةِ، ورائحةُ البارودِ كرائحةِ الوداعِ الأخيرِ، وقمرٌ ساكنٌ يرى جريمةً نكراءَ بلا شاهدٍ سوى الأزلِ، وبابُ الزمنِ يفتحُ نفسَهُ على مصراعيهِ، لِنسيرَ عكسَ مجرى النهرِ، عائدينَ إلى البدايةِ

    1: بذور البداية
    في أوديةٍ لا تراها العيون، لكن القلوبَ تعرفُها، تنبتُ بذورٌ مجهولةٌ لا يُدرى أهي حبٌّ أم سمٌّ. تتجاورُ شجيراتُ الودّ والغيرة، والقلوبُ الطيبةُ تُخفي في أطرافها أشواكًا لا تُرى إلا عند اللمس. هناك، حيثُ تلتقي العذوبةُ بالمرارة، تُحاكُ خيوطُ صراعٍ صامتٍ، لا يفوزُ فيه إلا من يقتلعُ نباتًا شيطانيًّا قبل أن يستفحل. كانت أودية القلوب الخصبة، حيث تُزرع المشاعر على غير هدى، مكانًا سرّيًا في حياة كل موظف، وما بين عذوبة الحب ومرارة الحقد، يكمُن الصراع.
    وفي الشركة الواقعة على ضفاف وادي النخيل، بعد انتهاء الدوام الرسمي، كانت الممرات الطويلة المضيئة بضوء المصابيح القديمة تتخللها أصوات أوراق تتحرك مع النسيم البارد، والهواء محمّل برائحة الورق والحبر، كأن المكان كله ينتظر شيئًا مجهولًا.
    سُمَيَّة، موظفة قسم العلاقات العامة، كانت تجلس في مكتبها الأخير، ترعى الملفات كمن يروي شجرة صافية في أرض صلبة. جمالها وأدبها كانا كالنهر الصافي في أرض كثيرة الحصى. كل حركة منها، كل نظرة، كانت تنير الممرات الفارغة بصمت، لكنها شعرت بقلق داخلي، كأن قلبها يحذرها من شيء لم تتعرف عليه بعد.
    بينما زميلاتها، كانت ناهد مثل ظل طويل على جدار أبيض؛ لا تُظهر ما تُخفيه، كانت تتأملُ سُمَيَّةَ بعينينِ فيهما شيءٌ لا اسم له، نظرةٌ لا هي حقدٌ ولا حبٌّ ولا غيرةٌ خالصةٌ، بل خليطٌ يلمعُ مثل سُمٍّ لا طعم له. سميةُ بجمالها وأخلاقها مثلُ النهرٍ، ونظراتُ ناهد مثلُ الحصى التي يُلقى فيه فيعكّر صفوه. ومع كل خطوةٍ جديدةٍ في حياةِ سُمَيَّةَ، كانت تلك الظلالُ تزدادُ سوادًا في قلب ناهد.
    في داخلها، كانتْ ناهدُ تُحدثُ نفسَها: "هل تظنُّ هذه الساذجةُ أن الحياةَ عادلةٌ؟" فكرتْ بمرارةٍ. "بعدَ كلِّ ما فعلتُه، ما زالتْ تحصلُ على كلِّ شيءٍ... منصبِها، حياتِها المثاليةِ، بل وحتى صفوان الذي كانَ ينظرُ إليَّ يوماً! سأجعلُ هذا النورَ الذي تتباهى به ينطفئُ، ولن يعرفَ أحدٌ أنَّني أنا من أطفأه. سأزرعُ الشكَّ في قلبه كبذرةِ خبيثةٍ، وبعدَها سأستمتعُ برؤيةِ شجرةِ الحقدِ تنموُ وتخنقُهما".
    كانت الساعةُ تتجاوز الثامنة مساءً بقليل، والشارع الفرعيّ المؤدّي إلى موقف الحافلات خالٍ إلا من ضوء مصباحٍ مائلٍ ومواء قطةٍ تتخفّى خلف القمامة. لم يكن أحدٌ يعرفُ ماذا يدورُ في رأس ناهد.
    ناهد بعد ان دخلت مكتب سميه: "لم أتصور أنكِ ما زلتِ هنا يا سمية! أين صفوان؟ ألم يكن من المفترض أن يوصلك إلى المنزل الليلة؟"
    سمية: "لا.. لديه عمل مهم في الخارج. سأعود لوحدي."
    ناهد: "غريب.. دائمًا ما ينسى صفوان أن لديه أعمالًا خارج المدينة عندما يتعلق الأمر بكِ. أخشى أنكِ قد تسحبين بساط العمل من تحت قدميه يوماً ما."
    -تتحرك ناهد لتضع يدها على كتف سمية، نظرتها تحمل شيئاً من التسلية الخبيثة-
    ناهد: "اسمعي يا سمية، عالم العلاقات العامة صعب. كل فتاة جديدة تحاول أن تلمع، لكنها في النهاية تكتشف أن هذا الضوء ليس لها. بعض الأضواء تُطفأ بسرعة، خاصة إذا كانت لا تملك خلفية قوية مثل الباقين."
    سمية: "أنا لا أفهم ما تقصدين يا ناهد.. كل منا يسعى ليثبت نفسه بجهده وعمله."
    ناهد: "بالتأكيد.. لكن في بعض الأحيان، لا يكفي الجهد. هناك أمور أخرى تتحكم في مصيرنا.. وأنتِ، يا عزيزتي، تملكين الكثير من الأمور التي لا يملكها الآخرون. الجمال، على سبيل المثال.. و... العيون."
    "أتذكر يا سمية قصة العصفور الذي بنى عشه على غصن نبتة شيطانية؟ كانت النبتة جميلة، أزهارها حمراء، ورائحتها تملأ المكان. ظن العصفور أنها ستكون عشًا آمنًا. لم يكن يعلم أن جذورها تمتص الحياة من كل شيء حولها، وأن زهورها الحمراء تُخفي سمًّا قاتلًا. وحين أوشك العصفور على وضع بيضه، ذبلت النبتة فجأة، وانجرفت مع الريح، تاركة العصفور وحيدًا في العراء."
    -تضغط ناهد على كتف سمية بخفة، ثم تبتعد وتتجه نحو الباب واستمرت سمية في العمل وقد انصرف الجميع من الشريكة.
    في ذلك اليوم، كان الجوّ أثقلَ من المعتاد. سُمَيَّةُ تُنهي أوراقًا طُلبتْ منها على عجلٍ. مشَتْ على الرصيف، وقلبُها في مكانٍ آخر. كانت تمشي على الرصيف الضيّق، والفراغُ حولها يُشبهُ غرفةً بلا أبواب.
    أخرجتْ سُمَيَّةُ هاتفَها، وضغطتْ على اسم صفوان كما لو كانت تستنجدُ به من وحدتها.. الهاتفُ في يدها صارَ مثلَ عصفورٍ مذعورٍ يبحثُ عن عشّه. صوتُ صفوان انسابَ إليها كالنسيمِ في سيرورةٍ حارةٍ، هدأت في صدرها غيمةُ القلق.
    ضحكَ صفوانُ بعد ردِّ التحية، وصوتهُ في الهاتفِ بدا كأنَّهُ يجيءُ من مكانٍ بعيدٍ جدًا، لكنه يملأُ الأفقَ حولها:
    خَطَرَتْ بِبَالِي وَالمَسَرَّةُ أقْبَلتْ
    كَأَنَّا عَلَى وَعْدٍ أَتَتْنَا الخَوَاطِرُ
    وبصوتٍ أكثرَ دفئًا:
    أُحِبُّكِ أَنْتِ أُغْنِيَتِي وَ أُنْسِي
    وَأَنْتِ عَلَى المَدَى أَلَقِي وَ شَمْسِي
    ارتسمتْ على شفتيها ابتسامةٌ خفيفةٌ، وحياؤها يرفُّ مثل طائرٍ صغيرٍ. قالت وهي تُحكِمُ رباطَ جلبابها:
    "شعرتُ بالوحدة فقلتُ: أطمئن عليك، وأستأنسُ بحديثك. كيف أنتَ؟ وهل حققتَ غايةَ سفرك؟"
    صفوان: "أذكر ذات مرة وأنا طفل، أنني وجدتُ شجرةً يابسةً على جانب الطريق، لا أوراق لها ولا زهور. قال لي الناس إنها ميتة. لكنني رأيتُ فيها شيئًا مختلفًا. كنتُ أزورها كل يوم، وأسقيها بقطرات قليلة من الماء، وأتحدثُ إليها، أحكي لها عن أحلامي. مرّت الأيام، وذات صباح، رأيتُ برعمًا صغيرًا ينمو من جذعها. لم يكن البرعم مجرد ورقة، بل كان دليلًا على أن الحب والاهتمام يمكن أن يُحييَا حتى الموت. والآن، أقول لكِ إن حبكِ هو الماء الذي أحيى كل شيء في حياتي."
    صوتهُ عادَ إليها مفعمًا بالشوق:
    "أتشوق إلى لُقياكِ!" ثم أنشد معبراً عن هيامه:
    حُلْمِي وَغَايَةُ مَا أَشْتَاقُ رُؤْيَتَهُ
    وَجْهٌ جَمِيلٌ بِهَذَا اليَوْمِ كَالقَمَرِ
    وَلَيْسَ غَيْرُكِ تُرْضِينِي مَحَاسِنُهَا
    يَا حَبَّةَ القَلْبِ يَا رَيْحَانَةَ النَّظَرِ
    – سُمَيَّةُ مبتسمةً:
    "ألم أقل لك أنك تأسرني ببيانك؟ لكن حديثك يؤنسني في وحدتي الآن."
    في تلك اللحظة، كان صفوانُ لا يزالُ في مكانٍ آخر يسمى الردهة، يتأملُ السيارةَ التي عثرَ فيها على جهازِ التتبعِ. لقد كانتْ هناكَ خيوطٌ متشابكةٌ كانتْ تربطُ السيارةَ بشخصٍ لا يريدُ لهُ صفوانُ أن يكونَ خصمَهُ.
    لكن بينما كان صوتُ صفوان يتدفّقُ إليها مثلَ ماءٍ رقراقٍ، كان في الطرف الآخر من الشارع صوتٌ آخرُ غيرُ مسموع: محركٌ خافتٌ، إضاءةٌ تتسللُ عبر الزجاج المظلل...
    سيارةٌ تقتربُ ببطءٍ متعمدٍ، وكأنها تتعقّبُ خطواتها منذ خرجت. لمحتها سُمَيَّةُ من طرفِ عينها... ثم رفعت رأسها، فتبدّدَ كلُّ ضجيج الهاتفِ فجأةً.
    كان الليل قد اكتمل على المدينة الصغيرة الواقعة في ضواحي "وادي النخيل"، رطوبة الجمال القريب تُنبتُ على الأرصفة بعض الأعشاب الخضراءَ وتملأ الهواء برائحةٍ كأنها رائحة الورود . الساعةُ تجاوزت الثامنة مساءً. سيارةٌ سوداءُ بزجاجٍ مظلّل ظهرتْ من عند المنعطف، تسيرُ ببطءٍ كما لو كانت تقيسُ المسافةَ بينها وبين فريستها. انكمشتْ أنفاسُ سُمَيَّة، أحسّت أنّ الليلَ صار أضيقَ من صدرها، وأنّ الرصيفَ يضيقُ حتى يكادَ يبتلعُ قدميها..
    رفعتْ عينيها فرأتْ وجهًا مألوفًا يطلُّ من النافذة الأمامية، ناهدُ تلوّحُ بيدها:
    "هلمي يا سُمَيَّةُ، سأوصلكِ إلى منزلكِ، الليلُ في هذه الأزقة خطر."
    لكن ابتسامتها لم تكن ابتسامةَ نجدة، بل كانت حدًّا باردًا يشقّ قلب الليل. خلفها، في المقعد الخلفي، ظلان مبهمان لشابين في ريعان الشباب، لا يظهر منهما إلا عيونٌ تلمعُ كالسكين في الضوء الأصفر للمصباح. ولمحتْ سمية شيئاً داكناً كالشامةِ أو الوشمِ القديمِ يمتدُّ على ذراعِ أحدِ الشابينِ كأنه حلقة ملتفه حول معصمه من الطرفِ المقابلِ للضوءِ.
    ترددتْ سُمَيَّةُ. كلماتُ صفوان تتلاشى من الهاتف وتختفي ، والريحُ التي كانت تحرّكُ جلبابها توقفتْ، كأنّ المدينةَ كلّها تنتظرُ قرارها. قالت بصوتٍ خرجَ ضعيفًا:
    "أشكركِ يا عزيزتي… أحبّ السير الليلة."
    لكن الظلّ القابع في الخلف تحرّك فجأةً. انفتح باب السيارة الخلفي على نحوٍ مفاجئ، ونزلَ شابٌ يتلفّتُ حوله وكأنّه يتأكدُ من خلوّ الشارع. ثم تقدّم نحوها بخطوةٍ مسرعةٍ وقال بصوتٍ هادئ وغريب:
    "أنتِ سمية، موظفة العلاقات العامة، أليس كذلك؟ نريد التحدث إليكِ عن فرصة لن تتكرر."
    انكمشت سمية، ابتعدت اقترب منها اكثر أحسّت أن الكلمات كانت أخطر من أي اعتداء. دفعتْه بعنف، قلبها يخفقُ كما يخفقُ سمكٌ انتُزع من الماء. بينما كانت تدفعه، انقضّ عليها فجأةً محاولاً أن يلمسَ وجهها، وفي نفس اللحظة أضاء فلاش خافت من هاتف ناهد في المقعد الأمامي.
    صاحتْ سُمَيَّةُ بكلّ قوتها، دفعتْهُ حتى كادَ يسقطُ على الأرض من شدّة دفعها. التقطتْ حذاءها وهوتْ به عليه لولا أنّ ناهد صاحتْ بصوتٍ حادٍ ومتصنّعة الغضب، وقد قفزت لتدفعه إلى السيارة:
    "أيها الأحمق! لا تتحرك هكذا.. سقطت عليك الكاميرا! اصعد بسرعة قبل أن يراك أحد."
    ثم التفتتْ إلى سُمَيَّة، محاوِلةً رسمَ وجهٍ يائس:
    "لا تنزعجي يا عزيزتي… إنه مصاب بحالة نفسية من فقدانه لشقيقته. يتخيل كل فتاة يراها أنها هي فيريد أن يعانقها أعتذرُ إليكِ من قبح تصرّفه."
    السيارةُ ابتلعتهم وانطلقتْ في الظلام، وتركتْ خلفها ريحًا لافحه ودخانًا نفّاذًا.
    في طريقِ عودتِها، كانتْ ناهدُ تبتسمُ بمرارة. لمْ تكنْ الغيرةُ كلَّ شيء.
    لقدْ أدركتْ منذُ زمنٍ أنَّ هذا الواقعَ الاجتماعيَّ المشوَّهَ الذي صَنَعَتهُ سنواتُ الفساد والكتمان البيروقراطي على المستوى المحلي، هوَ التربةُ المثاليةُ لزرعِ الشكِّ وتبريرِ أيِّ خيانة.
    همستْ لنفسِها: "ليسَ هناكَ شرفٌ في لعبةِ البقاء. هذا النظامُ يُكافئُ المُتلصِّصينَ والمُتآمرين؛ أنا فقطْ أُطبِّقُ سياسةَ المكان غيرَ المُعلنة."
    كانت الحيطانُ العاليةُ في شارع "المنارة" تردّدُ صدى الصرخةِ الأخيرةِ لسُمَيَّةَ، لكن أحدًا لم يخرجْ. كانت الخطوة التاليةُ أثقلَ من جبل المنارة والهمّ استقرَّ على صدرها كالخنجر. رفعت يدها وأوقفت سيارة أجرةٍ قديمةٍ كانت تمرُّ بالمصادفة، وصعدتْ إليها بلا كلمة. شعرت ان هناك شيء يدبر لها من هذا التصرف الذي لم تدرك مرماه.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,912
    المواضيع : 388
    الردود : 22912
    المعدل اليومي : 4.74

    افتراضي

    بسرد أخاذ يأسر الفكر والقلب، وبلغة قوية معبرة وماتعة
    وبناء درامي موفق جدا، وبقدرة من الكاتب على التعرف على
    مكامن النفوس البشرية ، فأحسن تصوير نفسية تلك الحاقدة
    فأبدعت في وصف حالة نفسية مريضة واستطعت ان تنقلنا إلى
    عمق الحدث ببراعة كبيرة في الإمساك بالخيوط في قصة مؤثرة
    لدرجة إني أمسكت بأنفاسي متمنية أن استطيع أن أفعل شيئا لأجل
    بطلتها لأبطل فعل ذلك الحقد الخبيث.
    عمل متماسك محكم البناء بحرف فاخر وتصوير باهر وسبك متين
    بداية أثارتني ـ وحفزتني على مواصلة القراءة في قصة قوية
    فإلى الفصل الثاني سانطلق....
    دمت بكل خير.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    واسمح لي بنقلها إلى قسم القصة والمسرحية.