دقّت طبول الحرب في بلدي المنهك من حربين قد مضتا ولم تمّح آثارهما، وباءت كلّ سبل السلام بالفشل وإن لم يعثر عن أسلحة الدمار الشامل.. وطغت على الصفحات الأولى للجرائد وعلى شاشات التلفزيون وعلى أحاديث الناس أخبار العراق.. في حين بدأت أخبار أهلي تقلّ، فلا يصلني منها إلاّ النزر اليسير لصعوبة الاتصال.. كنت حائرة، وخائفة، لا أدري ما الذي يجب عليّ فعله. لم أكن أقوى حتّى على النزول للشوارع لأشارك النّاس هنا مظاهراتهم المندّدة بالحرب التي باتت تطلّ بأنفها كالأفعى. أُصبت بالإحباط بعد أن أغلقت سفارتنا أبوابها، فانقطع الخيط الواصل بيني وبين بلدي. وحده سامي كان بجانبي. ولكنّ تسارع الأحداث جعلني أشعر بأنّه أكثر اضطرابا منّي. كنّا نقضّي ساعاتا طويلة صامتين، غائبين عن الوجود، نتأمّل أشعّة شمس الشتاء الخجلى وهي تنعكس على وجه البحيرة. كانت الأشجار قد تعرّت من ردائها الأخضر، وقلّت حركة الناس عبر ممرات الحديقة وقد تلحفت بلون الأوراق الأصفر، تتلاعب بها النسمات الباردة. صمْتُ سامي واضطرابه الواضح، رغم محاولته الظهور بخلاف ذلك، زادا من حيرتي وخوفي.. أيّة مشاعر هذه التي تعصف بنا فتجعلنا في حالة غريبة من الكدر؟ أهذا هو حبّ الوطن؟ ثمّ ما الذي يجعل سامي يضطرب لأحداث العراق بهذا الشكل؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابا..
أخبرني ذات مساء وأنا أهمّ بمغادرته بأنّه سيتغيّب بعض الوقت لزيارة بعض الأصدقاء في مدينة جنوة.. شعرت يومها وأنا أودّعه بنبرة في صوته غير مألوفة، وعلى سحنته نوع من الإرتباك كان يحاول إخفاءه بتجنّب النظر المطوّل في عينيّا. سألته:
- سامي!.. ما بك؟
- لا شيء.. لا شيء.. سأفتقدك.. رندة!
وضمّني إلى صدره فشعرت بدفء وحنان على وقع دقات قلبه المتصاعدة.. أغمضت عينيّا واضمحلت حركة الناس وصخب الشارع من حولنا.. وحين همّ بمغادرتي رأيت وجهه مبلّلا بالدمع.. لم أجرأ.. لم أقدر على الكلام.
* * *
(يتبع)