قَطَعَتْ في بِضْعِ خُطُواتٍ سَريعَةٍ المَسافَةَ ما بَيْنَ مِرآةِ المَدْخَلِ الَّتي وَقَفَتْ أَمامَها فِي كَشْفِ الهَيْئَةِ الصَّباحِيِّ الأَخيرِ، تَتَفَقدُ انْعِكاسَ صورَتِها الجَميلَةِ فِيها، وَبَيْنَ البَوّابَةِ الخارِجِيَّةِ تَقْفِزُ دَرَجاتِها القَليلَةَ بِخِفَّةٍ تُوحِي لِمَنْ يَراها أنَّها تِلْمِيذَةٌ لَمْ تُغادِرْ مَقاعِدَ الدِّراسَةِ بَعْدْ، فَجَسَدُها المُنْتَصِبُ طَوْدًا فِي وَجْهِ عَواصِفِ الدَّهْرِ الجائِرَةِ ما يَزالُ نابِضًا بِالشَّبابِ، لَمْ تُغَيِّرِ السُّنونَ الَّتِي حَمَّمَتْ رُوحَها الكَثِيرَ مِنْ مَظْهَرِه الخَارِجِيّ، وَما تَزالُ إِرادَةُ الحَياةِ فِيها سَيِّدًا يَتَحَكَّمُ بِحِوارِ اليَأْسِ والأَمَلِ عَلَى مَسْرَحِ عُمْرِها، وَيَشُقُّ الأَرْضَ عَنَ وَعْدٍ بِرَبِيعٍ يَدُومْ.
أَلْقَتْ نَظْرَةً حائِرَةً عَلَى البُقْعَةِ الضَّيِّقَةِ الّتي كانَتْ مِرْآبًا فِي زاوِيَةِ الفِناءِ لِسَيّارَةٍ صَغِيرَةٍ قَدِيمَةٍ غَادَرَتْها لِلأَبَدِ، وَغَادَرَ مَعَها حُلُمُها القَدِيمُ بِأَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْها يَوْمًا، لِتَرْكَبَ عَرَبَةً جَدِيدَةً فارِهَةً قَضَتْ ساعاتِ القِيادَةِ فِي تَخَيُّلِها وَرَسْمِ صَوَرٍ ساحِرَةٍ لِفَخامَتِها بِطولِها وَلَوْنِها الأَسْوَدِ المَهِيبِ وَرَوْعَةِ اصْطِفافِها بِبابِ مَنْزِلِها، وَشَطَنَتْ بِخَيالِها أَحْيانًا فَجَعَلَتْ لَها سائِقًا بِبِزَّةٍ رَسْمِيَّةٍ يُوقِفُها بِانْتِظارِها وَيَتَرَجَّلُ مِنْها مُسْرِعًا لِيَفْتَحَ لَها بَابَها فَتَصْعَدُ إِلَيْها أَوْ تَتَرَجَّلُ مِنْها.
تَبَسَّمَتْ بِسُخْرِيَةٍ وَهِيَ تَتَأَمَّلُ الدَّوالِيبَ تُصْدِرُ صَوْتًا كَالنَّحيبِ انْزِعاجًا لِقَمْعِ الكَوابِحِ جِماحَ دَوَرانِها، قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَ نَظَرَها لِتُوَجِّهَهُ نَحْو السَّائِقِ بِوَجْهِهِ الكَئِيبِ يُغْرِيها بِصَفْعِ وَجْنَتِهِ الشَّاحِبَةِ، كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْها بِعَيْنَيْنِ شَرِهَتَيْنِ تَنْدَلِقُ مِنْهُما رَغْبَةٌ وَقِحَةٌ، شَعَرَتْ أَمامَها بِانْقِلابِ مَعِدَتِها وَرَغْبَةٍ مَجْنونَةٍ بِقَذْفِ حِمَمِ بُرْكانِ الغَضَبِ المُسْتَعِرِ فِي أَعْماقِهَا تُحَرِّقُهُ وَالحَافِلَةَ بِرُكّابِها.




رد مع اقتباس
