النص الكامل للمجموعة القصصية " سنوات الجنون الأبدية " لسامح عبد البديع الشبة

***********************

( 1 ) قصة قصيرة :- مريم

*************

انتهى كل شيئ ... طفولتى وشبابى ، حتى شيخوختى قاربت على الانتهاء .
أعرف ما سيقولون حين يلقون وجهى الوسيم ... كنت فى الماضى لا أرتضى أنأعيش وحدى ، ولكنى الآن مقيد بالوحدة ... تطاردنى حتى فى الحلم .
هى الوحدة ، ولكنها وحدة من نوع خاص ... ترفض الناس وترفض مقتنياتك الغالية عليك ... ترفض حتى الثمين منها ... تنظر إلى كل شيئٍٍ بنظرةٍ مريبة ... تحترس الإقتراب من كل شيئ حتى ولو يعينك على استمرار حياتك الباقية منها ... هكذا أنت داخل البرج العاجى الذى شيدته فى عالم سحرى جميل ... تخشى أن تتركه فتلاقى ما لقيته مريم .
مريم ... مريم ... رحت مدفوعاً بتذكر هذه الفتاة المشعة بالجمال ، فالطالما صعدتما معاً سلم البيت المهجور ، وتحدثتما عن قصص العشق والغرام ، وقلت لها وأنتما على النافذة المطلة على الحارة الشرقية :-
- " لا عشاق قبلنا ... نحن فقط العاشقان الوحيدان فى الدنيا ... فلا ثالث لنا " .
تسمع همساتها ... تعلن نبأ زفافكما وتختارها من بين بنات الحارة الحسناوات ، فهى عندك الحسن كله ... يبارك والداها زفافكما ، ويتمنى لكما الحياة السعيدة وأن يرزقكما بالبنات والبنين .
كنتما فى غاية السعادة ... كدت تطير بها لولا أنك خشيت أن تهوى كما هوى ابن فرناس من فرط ما كان به من بهجةٍ وسرور ونشوة .
دائماً كنت تحلم أن تحلق بها إلى أقصى ارتفاع لا يمكن أن يصعد إليه إلا الشجعان الذين وهبوا أنفسهم لآمالهم البعيدة التحقيق ، وحققت أخيراً ما كان يصبوا إليه قلبك ، ونلت أميرة الحارة ... مريم .
تتأمل نفسك فى مرآة قصرك ... وجدت هيكل عظمى واحد يكسوه لحم ، نظرت خلفك فلم تجد الهيكل الجميل جوارك .
على سريرك الحريرى تتلألأ صناديق الذهب والزمرد .
( موسيقى شجية يصاحبها تنهيدة عميقة ) .
تتوهم أنك تعانى من سكرات الموت ... تستيقظ من هذا المشهد الجنائزى .
تتفاءل ... تنفست بعمقٍ وارتياح ، واكتشفت أن ما أخفقت فى تحقيقه بالأمس يمكن أن تناله اليوم ... أسرعت ... فأغلقت صناديق الذهب والزمرد ، وأغلقت صوت الموسيقى الصادر من مذياعٍ قد وجدته على كرسى " الأنتريه " شمال النافذة المطلة على جنةٍ خضراء ... صرخت فرحاً ، تنادى على خادمك أن يحضر لك باقة زهور ، ولفت نظره أن يشترى أكبر باقة ورد بنفسجية اللون ، كما كانت تعشق هذا اللون العاطفى .
حدثت نفسك :-
" إنها امرأة تقبل التسامح فى أى وقت ، بل هى أميرة الأميرات التى تصفح عن كل الذنوب التى اقترفتها فى حقها " .
وقررت أن تراها ، ترى ليلك القتول ... تبدو عاجزاً لا تتحرك من أمام المرآة .
فجأة أشعلت سيكارتك ، وتقطعت أنفاسك ، بقيت على حالتك ... تتصبب عرقاً أمام المرآة ، همك الكبير أن تتوج سنوات جنونكما بعقدٍ شرعى ... فتحت النافذة بحدة ، فرأيت خامك المطيع حاملاً باقة زهور كبيرة الحجم على ظهره المقوس ... لدرجة أنه يهرول فى مشيته ، متخذاً الحذر من انزلاق الزهور من بين الذراعين ... تتذكر المثلث القائم الزاوية ومدرس الرياضيات ... تشم عبق النسيم القادم ... تتبدل ملامحك ، تبتسم ... تلوح إليه بيدك فرحاً ... تنظر غليه نظرةً يفهم منها أنك تستعجله ... وتزداد سرعته ، يسرع ... تراه بلونٍ بنفسجى قاتم ... تغمض عينيك ، تفتحها ، ترى الدنيا بنفس اللون ... تحدق فى المرآة ... تسبح فى خيال ، ترى معطفك قد تحول لونه الأسود - الذى اعتدت عليه - إلى لونٍ بنفسجى قاتم ... تغمض عينيك لتبصر جسدك عارياً ... تسأل نفسك :-
- " أين المعطف؟ أين خادمى المطيع ؟ أين باقة الزهور البنفسيجية ؟ أين مريم ؟ أين عقد القران الذى طال انتظاره سنواتٍ وسنوات ؟
يختفى كل شيئ حولك ... صناديق الذهب والزمرد ، سريرك الحريرى، صوت الموسيقى ... وجهت مؤشر الراديو إلى إذاعةأجنبية .. لم تفهم لكنة المتحدث ، ولكنك أنصت إليه ... أخرجت ورقة وقلم من سروالك ... أخذت تدون ما تسمع ، وكتبت حروف كلمات غير منتظمة ... نسقت كل الحروف والكلمات ... فاتت بضع ثوان " ستة وعشرون حرفاً اتحدت فى اسم عشيقتك ... مريم " ، تفيق ، فكل شيئ قد تحول ، حتى أنت ما عدت الرجل القوى ، قد اشتعل الشيب فى رأسك ، وتساقطت أسنانك الواحدة تلو الأخرى .
تهرب من السكون المخيم على المكان بعد انقطاع موجة المذياع ... أطللت من النافذة تعتريك ارتعاشة من ريح تجوس داخلة إلى أركان قصرك وتفتك بعظامك ... تعرف ما ستقوله لمريم حين تلقاها :-
- " مازلت على العهد القديم " .
يومها سوف تعلن على الملأ الميلاد الجديد لكليكما ولجنونكما الأبدى .
نعم يا صغيرتى !
فليرحل الفراق ولترحل الدموع .
ترسم بأصابعك صورة لفتاة صغيرة ... لها ضفيرتان قصيرتان ... تسكب زجاجة العطر البنفسيجية على المرآة ، فتمحى ملامح الفتاة ... سرت بانكسار ، حزين أنت ... وفجأة وجدت خادمك أمامك ، تحاول أن تخفى انكسارة ذاتك ... توارى وجهك خلف الستائر ... يربت خادمك على كتفك ... تلقى برأسك على صدره ... تبكى ... يمسح دموعك المنهمرة على وجنتيك الحمراوتين ... أسلمت له جسدك وارتخيت ... وها أنت فى سباتٍ عميق تحلم بالحلم الذى حلمت به الذى يجمعك بمريم تحت أسقف هذا القصر الأسطورى الذى شيدته لتعيش فيه مع فتاة أحلامك ... مريم .
( تمت )

سامح عبد البديع الشبة

sameh_ss_center@yahoo.com