شرخ في جدار العدل

ضوضاء تعم المكان، أصوات الحيوانات المختلفة تكسر سكون الغابة، غبار حوافرها يغطي صفحة السماء الزرقاء. الكل متجه نحو مجلس الأمن الغابوي، فسيعقد الحاكم الجديد للغابة جمعا عاما يتداول فيه قضية الغزالة والخنزير. انتظمت جموع الحيوانات في مجموعات، حيث يتزعم كل صنف رئيس من بني جنسه، تعالت أصوات الحيوانات من كل مكان، الكل يتساءل باستغراب عن الحاكم الجديد للغابة، وعن أسباب تنازل الأسد عن عرشه؟ وبأسى ممزوج بصراخ الجموع وتخوف القادة، كان التساؤل الأعظم عن مصير الغزالة في ظل سياسة العبث التي يمارسها الخنزير. عم صمت رهيب بقدوم ذئب لعين يبشر بقدوم الحاكم الجديد، تطاولت الأعناق نحو الموكب الذي يتقدمه أقوياء الغابة من أسود ونمور وذئاب وفيلة...ارتسمت الحيرة على وجوه الحيوانات وعلا تساؤل نابع من الصميم، إن كان الأقوياء خدام الملك الجديد فمن تراه يكون؟ اختنقت الأصوات وجحظت الأعين، وتجمدت الأطراف. وجلس الحمار مرتديا تاج الملك على كرسي القرار، تقدمه الأسد قائلا عن إذنك مولاي اسمح لي بإلقاء كلمة، حرك الحمار رأسه إيجابا ، فأنشد الأسد: يا أيتها الجموع، لقد تنازلت عن العرش عن طواعية بعدما عجزت عن تسيير أمور الغابة، ولم أجد أكفأ من الحمار ليتولى شؤونكم، فاستمعوا لكلامه، وامتثلوا لأوامره. تنحنح الحمار وشرع في الكلام، يا أيتها الحشود، يا أيها الرؤساء اتبعوني بصمت، أضمن لكم السيادة، والتفت نحو الغزالة وقال : - ما قضيتك يا غزالة ! ؟
الغزالة: قضيتي يعرفها الجميع أيها الحمار، ومن المؤكد أن الحاكم السابق قد أخبرك عنها، ومع ذلك سأظل أعيدها على مسامع الجميع. يا أيها الحمار، لقد تكاثرت الخنازير في منطقتي وضيقت علي الحصار، فبالله عليك كيف لخنزير ألف الأوحال أن يعيش مع الغزلان؟
الحمار: ويحك أيتها الغزالة، كيف تنادينني بالحمار ومصير الغابة بيدي؟
الغزالة: أو تنكر أنك حمار! فما سميتك إلا باسمك الأصلي، ومهما تعددت ألقابك فستبقى مجرد حمار.
بخبث اقترب الخنزير من الملك وقال : لا تحفل بكلامها أيها الملك، فهي همجية لا تعرف معنى الاحترام، فقد فقأت عيني بقرنها الأيسر لذلك قررت أن أضيق عليها الحصار.
صاحت الجموع مناصرة للغزالة، ولاذ القادة بصمت قاتل، وفي ظل تعالي الأصوات أخذ الحمار عصا رسم بها على عشب مفروش تحت قدميه خارطة للطريق، وغمز الخنزير وقال للغزالة أظنها سياسة عادلة. فانبثق من بين الجموع صوت جوهري يجلجل الأرجاء، حصان قوي لا يهاب الموت ولا يدعن لحاكم، بري ثائر لا يعرف للصمت طريقا ولم يألف سياسة الخضوع، نظر للحمار بعيون نارية وخاطبه قائلا : أي خارطة للطريق في ظل انعدام الطريق أيها الحمار الظالم. اشتد حنق الحمار وثارت ثورته: أما قطعت لسانك أيها الحصان البائس، فمن أين تستمد قوة الكلام.
الحصان: هيهات أن تخرس صوتي، ولتعلم أيها الحمار أن الأيام دولٌ، ومن توانى عن نفسه ضاع، ومن قهرَ الحق قُهِرَ، فحتى وإن أعدتَ الزمن 750 سنة للوراء، لتعيد مجزرة جدك الأول حين جعل من جثث بني جلدتي فراشا للأرض، وارتوت من دمائهم التربة والأنهار، فاعلم أيها العابر لبوابة الزمن، أننا كما استطعنا أن نبني حضارة على تربة الدم، سنعيد يوما دولة الأحصنة من جديد، فانتظر أيها الحمار وانعم الآن فغدا لناظره قريب.
وصاحت الغزالة : أي عدل هذا أيها الحمار، ألأنني فقأت عين الخنزير المعتدي تتركه يضيق علي الحصار؟ أتريدني أن أراه يستبيح دم عشيرتي وأقف مكتوفة الأيدي. أتتركون الجرائم الكبرى والمجازر وتبحثون بين الأنقاض عن أعذار واهية لخنزير منعدم الحيوانية. إذن فلتعلم أيها الحمار، أنه مهما طال شرخ جدار العدل لابد في يوم أن يلتئم، وأن ما أخذ بالقوة لا يعود إلا بالقوة في ظل انعدام ديمقراطية الحوار، وسأبقى شامخة أبية في وجه الإعصار، ومهما اشتد الحصار، ستسمع صوتي من أعلى جبل النار.
الحمار: اقترب مني أيها الخنزير، واسمع جيدا قولي، اكسر شموخ الغزالة واخنق صوتها، واشدد عليها الحصار، ولا تخف فأنا لك عون ونصير، ومادامت أفواه القادة في جيبي، فامضي نحو مهمتك واقلب طاولة التفاوض واقتل لغة الحوار.
طارت من بين الجموع حمامة، اتخذت وسط السماء مقاما، وصاحت بأعلى صوت مخزون بين أضلعها، يا أيتها الغزالة ويا أيها الحصان، مهما غبت عنكما سأعود لأرفرف من جديد وأعلن راية الانتصار.