رحلة حياة..
كانت تجلس جوار النافذة وعيناها تتنقلان سريعا بكل شيء يمر به القطار.. بدت كما لو كانت تبحث عن شيء، ولكن ما هو على وجه التحديد؟ هل هي الأشجار القريبة والبعيدة؟ أم منظر الشواطئ العارضة زرقتها على جوانب المدن؟ أم صفوف المنازل المتراصة والمختلفة المستوى؟ كل هذا كانت تراه وتمر عليه بعينيها المتطلعتين، ثم لا تلبث أن تعود إلى الصحيفة الموضوعة على ركبتيها تقرأ فيها حينا وتعود إلى النافذة حينا آخر لتكمل رحلتها مع الحياة من وراء زجاجها..
بادرتها بالحديث رغبة في كسر الصمت: "للطبيعة دائما ميزة المناظر الجميلة.."
أجابتني في هدوء: "نعم" ثم أشارت إلى عربة نقل كبيرة تحمل حبوب القمح.. "من هنا يأتي غذائنا.. هم يكدحون، ونحن نأكل ثمار كدحهم دون الإحساس بهم! ما أجمل صور الكفاح من أجل العيش..! ولعل أروعها إطلاقا تلك التي لا نراها إلا صدفة! كل شيء يبدو جميلا من حولي اليوم.. كل شيء يشدني ويثير اهتمامي..!".
توقفت عن الحديث لحظات معدودة حيث سرحت بفكرها بعيدا وعادت لتلتفت إلي قائلة: "هل يبدو كلامي هذا غريبا عليك؟"..
قلت: "لا، أبدا، كل ما في الأمر أنني شعرت أنك فتاة مرهفة الحس"..
بدأ القطار يبطئ من سرعته، ووقفت الفتاة تعد نفسها للنزول في المحطة التالية.. حملت حقيبتها ووضعتها عند قدميها، ثم اتجهت إلي بالحديث قائلة: "هنا بيتنا في هذه المدينة الصغيرة حيث أعيش مع أسرتي.. سوف يسعدون لعودتي بعد غيبة أسبوع كامل اضطررت فيه للذهاب بمساعدة خالتي كي أعرض نفسي على أخصائي.. فأنا أعاني من آلام حادة في معدتي. لقد عرفت سبب العلة.. إنه لم يحاول إخفاء حقيقة الأمر عني.. أنا مصابة بالسرطان، ولن أعيش لأكثر من ستة أشهر.."
أجبتها حزينة على مرضها: " هو الأجل أخيتي.. ويأتي بعلة أو بدونها.. حيث أمده لا يزيد ساعة أو ينقصها.. وكل بأمر الله.. وما أدرى الطبيب.. فقد يمن الله عليك بالشفاء ما بين ليلة وضحاها.. شفاك الله من عنده".
عادت للتطلع إلى وجه الطبيعة بهدوء هذه المرة وهي تقول: " بدأت أحس بالجمال من حولي منذ تلك اللحظة التي عرفت فيها أن حياتي على الأرض قد اقتربت من نهايتها.. وكأني صحوت فجأة من نوم عميق دام لأكثر من ثمان وثلاثين عاما.. هي كل عمري على الأرض! ما أقساها الحياة وما أجملها !".



رد مع اقتباس

ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل


