** أوْرَاقُ امْــرأَةٍ ،،، تَـحْـتَـرِق **

*** الـلـيـالــي ***

مهداة إلى صديقتي ، موناليزتي ، كما أحبّ أن أناديها .

	كانَتْ ليلةً حزينَةً رَغمَ مُحَاوَلاتِ كُلٍّ مِنَّا مُرَاوَغَةَ سحابة الحُزن التي خَيَّمت عليها. أحْيانا يَكون للحُزن و الألَم سُلطان يَقْهَرُ كلَّ بادِرَة فرح، و َيكْسِر كل مشروعِ ابْتسام، و يَصْهَر كلَّ شعاعِ سَعادة ليُحوَّلهُ إلى نارٍ تلسعُ منْ يَقْتَرِبُ . هكذا كانت ليلتُنا ، تَـتـُوه فـيها الأبْـصار حائـرَة تَـبْـحَـثُ عـنْ مُـنْـقِـذٍ مـا في مَـكـانٍ مـا يَـلـتَـفِـتُ للـنـداء، و يسمع الأَنينَ المخْتبئ خلْفَ الأزاهير. كانتْ ليلتُنا كأَوراق الخَريف ، تَعزفُ لحْنَ الرَّحيل و تَسْقُط قتيلةَ آخر نوتَة، فيُغَطِّيها غُبَار الفَقْدِ ، و تَدْفنُها أقدامُ الصَّمت بلا شفقة ، و تَكْتُبُ نَعْيَها ظِلالُ الأسى بمِدَاد القُلوب. كانت لـيـلـتـنـا ذكْـرى تَـتَـجَـدَّد ، و مُعـايـشـة لـماضٍ لـم تَهْرَم ملامحُه، و ابْتهالاتُ قلبٍ كَسَرَتْهُ الفَجيعَة، فناَح على دَمِهِ المَسْفُوح غدْرا ، و بَلَغَ تأوُّهـه عَنان السَّماء: ربااااااااااااااااااااهُ أغِـثـنـي، فقد أحْرَقَتْنِي سَنَواتُ الحـبِّ، و قَتَلَني عِشْق ذََبَحني منَ الوَريد إلى الوَريد. أيُّها الآتُون إلى سهَراتِنا خُذوا حِذْرَكُم ، و لْتَعلموا قَبْل المَجيء أنَّ بها قلوباً قد اسْتَوى عِنْدَهَا اللَّحْدُ معَ المَهْد ، و اتّحدَ فيهَا الحدُُّ معَ الحَدّ، و تَطاولَ الشَّجَنُ فيها حتَّى غدَا دَفْقَ نبْضَِهَا ، و وَشْمًا على الخدّ. و هذه ليلتُنا ، أنظروا فيها مَليّا ، إنَّها شَاحِبَة ، بِلَوْن السُّهَاد و نَـحْـنُ فِـيها بِلَـوْنِ السَّهَـر.

*** الفــصْلُ الــخَـامِـس ***

	تَـهـَيَّـأْتُ لـفُصولـك َالأربَـعة ، و كنتُ على اسْتِعْدَاد دائم لمواجهَة تَقَلُّبات أمْواجك . وَطَّنتُ نفْسي على الصَّمت حِين تهبُّ ريَاحكـ، و تعصفُ بي حتى تَكاد تَـفْـتَـلِـعُـنـي مني ، كُنتُ هنا عنـدَ هُطولِـك السخيّ ينعش الأجواء حولنا ، فألـمـلـمُ ذكـريـات أحــفـظـهـا بـعـنـايـة ، كنتُ هنا في ربيع ابتسامك و أنتَ تُنْشِدُ لحْنا فَاتِنا يُطْرِبني ، كنتُ هنا في هجيركَ الذي يَذُوب فيه صَبري ، و تَشْتَكي منِّي ذاتي و تُخاصمني . كانتْ تتكرَّرُ فُصُولك بِوتيرة لا نَظامَ فيها و لا تُومِن بالأسْباب ، و أنا اعْتَدْتُ على احْتوائِها بكلِّ تفَاصيلها ، لكننِي أبَدا لمْ أعلَمْ أنَّ في سُنَـنِك فصْلاً خامِسًا يجب أن أسْتَعِدَّ له ، تسدِلُ فيه سِتار النِّهاية ، و تَجْني فيه الدهشة من ضُلوعي ، فصلٌ مُظْلِمٌ لا مَعَالم لَهُ و لا مَلاَمح ، فَصْلٌ تخْبو فيهِ كلُّ موَاهبي ، و تَجفُّ فيهِ كلُّ مَنابِع تَحَمّلِي ، فصل تَئِنُّ فيه رَغْبَتي في الحَياة ، فصْلٌ خامِسٌ هُوَ فصْل الــغِــيــاب .

*** مـديـنَـةُ الصَّـمْـت ***

	كان امْتِحانًا صعبا أن أتخذَ القرار و أدَقَّ بابَ الصَّمت الذي عَبَرْتُ منْه منْذ زَمَن ، فأحلامي تنْكَسِر عندَ كل خطوة في اتجَاه الباب ، و تَتَلاشى منِّي بقَايا الكَلام . أخبرتْني مدينةُ الصَّمْتِ أنَّ مثلي لا مَكان لهُ خارجَ أحْيائِها و دُروبِها ، و لا رَصيد له بَعيدا عَنْ أهلها . كم كنتُ عنيدةً حينَ غادرْتُها ذاتَ أمَل !!! فتحتُ الباب ، سكَّان المَدينة في انتظاري !! يُحَدِّقُون بي ، نظْرة الإشفَاق في أعْيُنِ البَعض ، و نظرة بِشْر و فَرح فِي أَعينِ آخرين ، يَذْكرونَني و أنَا عَرَفْتُهُمْ واحدا واحدا . مدينَة الصَّمتِ كما تَرَكْتُها لمْ تَتَغيَّر ، مُظلمة كمَا هيَ مُتعبَة مُرهَقَة ... حَـسْـبِي هَذا ، يَجْدُرُ بي أَنْ أَرى الأمور بنَظْرة مُختلفة ، في مدينة الصمت تَعْرفُني الأَنفاس و تُغَازلني أوراقُ الشَّجر ، و تلك الورود العتيقة كم تحبّني ,,, في مدينة الصَّمْتِ لا حاجَة لِقَواميس ،و لن أبذلَ جُهْدا لأَفْهَمَ و أُفْهَم ، الأهم في كل هذا أنَّ في مدينة الصمت ، لي مكان .. سأحيا هنا برغبتي ، سَأَكُون أنا ، كي لا أمُوت من جَديد .

*** ذاتَ نُـــكْــران ***

	لمْ تغِبْ عنهم في أوَّلِ ظهورِهم ، كانوا يَمْشون و التَوجّس يَلُفُّهم ، يَتساءلون أيُقبِلون أمْ يُدبِِرون ؟؟ يُقدمُون أمْ يحجِمون ، كانَ الخِضَمّ أكبرَ منْ قُدُراتِهم ، فشَعَروا بالغُربة .. كانتْ هناك ترقبُ تَوْقَهُم لأنْ تَسطع الشمس على أحلامِهم ، كانت ترى بريقَ الطُّموح في أعينهم .. تقدمتْ نَحوهم ، فَتَحَتْ لهم أبواب الطُّمأنينة ، أخذتْ يأيْدهم لتشقَّ معهم طريقا في اليمّ، خطوة خطوة . كمْ كانوا ممْتنين لها و هي تُسْعِفُهُمْ حينًا و ترْشِدُهُمْ حينا و تُزَوِّدهم أحيانا !!! آنستْ وحشتَهم في وعُورة أول السَّير ، ، أخلصت لهم ، صدَقَتْهُم لكنَّهم لمْ يَصْدِقُوها ... ما إنِ اشْتَدَّ عودُهُم و قَوِيَ على السَّيْر فُلْكُهُمْ حتى تَنَكَّروا و جحدوا ، و كانَتْ تلك المتربعة على العرْش وَصْمة ضعفِ ، و ذكرى يجبُ أنْ تُمْحى . انتشروا في الأرض و مَلؤوها ضجَّة و صَخبا ، ليَصْنعوا لهمْ تاريخًا يَبْدأ يومَ تحرُّرِهِم منْ معْروفِها . عادتْ إلى مَسْكنِها العتيق في الجوزاء ، تُراقب، كدأبها، حَركة الكَواكِبِ السيارة و النُّجوم الساهرة و الشهُب المنتحِرة ، و كانت من حين لآخر تُلقي نظرة على رفاقِ الدَّرب القُدامى و تَتَنَهّدُ أسَفا .. لكنْ سُرْعَانَ ما تَقطع حُزْنها وقعُ خٌطى مُتَعَثرَة وافِدَة ، فتَسْتعِدَ لمُواصَلَة العَطاء .

*** النِّـصْـفُ الآخَــر ***

	إرْتَضَـيْـتُ الأسْـرَ فـي عيْنَـيْـك ، لا أرى أحَـدًا سِواك ففي سُكُونكَ عالَمي و كلُّ ما أحْتَاجه . و في وحْدَتي معَ صدَى صَوْتِكَ، رَاحتي ،، لكنني ،،، أشتاَقُكَ ؟؟؟ كُلَّما قَرأْتُ في أوْراقِكَ وَجَدْتُني أشْتاقك ، كلما نظَرْتُ في أشْيَائك وَجدتني أشْتَاقك ، أحلُمُ نَهارا بِأنْ أرَاك طيفاً في منامي ، و أمْضي الليلَ سَاهِرَة مع طَيفك، كأنني أراك . يا لَمرارة الأوقات التي تمرُّ بِدونك !! و يا لَانْكِساري في غيَابك !! تعلمتُ بعدَ سَنَوات الوَحشةِ ألَّا أسْكُبَ الدَّمع إلَّا لِذِكْراك ، و أيْقَنْتُ حينَ يُحرّقني اشْتياقي ، أنّ الشِّفاء في زيارَةٌ لِقبْرِك ، أذْكُرُ ربِّي و أَدْعو لَك .

*** الــدوَّامَـــة ***

	قالتْ لِصَدِيقَتِها و قدْ اشتَدَّتْ نبْرَةُ صوْتِها بِسَبَبِ غَضَبِها منْهم : كنت أعلم أَنَّ اقْتِراف النُّور في زَمَنِ الـعَتمة سيُتْعِبني، أَمْضَيْتُ الوقتَ أقول و أعيد الكَلام ، بطرق و أساليب مختلفة ، هل ترى قد بلّغت ؟؟ كل الوجوهِ تنْظر إليَّ و لا أدري أيَسمعون أم لا ، أَعْيُنٌ حائرة ، و قُلُوبٌ لاهية و عقول محشُوَّة بالعبَث . و من كان منتبِها منهم ، يُوقِفني في كل مرة بأسئِلَة رَكيكة و حَيْصَ بيصَ فكريَّة يتَصوّر أنه يبْلي فيها البَلاءَ الحَسن . لن أمَّل منهم ، لنْ أيْأَس ، لا بدّ أن يُسمَعَ صوْتي يَوما ، لذَلِكَ سأكرِّر و أكرِّر كلامي . فقد يطلع يوما منْ بيْنهم وَجْه أنَار الفَهْمُ جبينَه .

*** رجْــعُ الــــــصَّدى ***

	كم بكيتُ مِنْ فرطِ الغِياب حتَّى ابْتَسَم لي طَيْفُكَ منْ وراء المَسَافات ، و كمْ كتبتُ رسائِلا عَلَّقْتُها على أجنِحَة الطُّيور المُهاجِرة ، كَمْ عاتَبْتُ فيكَ رِياح الشَّوْق، لمَ لا تُسْعِفني بالهُبوب ، و كَمْ راقَبْتُ الغيوم وَ وَدِدْتُ لو أنَّني غَيْمَة تُبْحِرُ في السَّماء إليْك ، أَسَمِعْتَهُ صَوْتُ روحي و هُوَ يُنَاديك ؟؟ أَرَأَيْتَ يَوْما على وَجْهِ القَمَر مُقْلَتيّ حينَ أودَعْتُهما فيه لِكَيْ أراك ؟؟ وحيدَة شَارِدة حزينَة ، هيَ الأيَّام حينَ يَكْسُوها الضّباب .. إنّني كُلَّما لََمْمْتُ نفْسي لأُواجِهَ تَسَرُّبَ الحَياة مِنِّي ، وخَرَجْتُ منّي لِأَصْرُخَ باسْمِكَ ، وَ أُسْمِعَ الكَوْنَ مناجاتي ، يَرْتَدُّ صَدى صَوتي إلَيّ يردّد : عـودي لِـمَوْتِكِ عودي ، ومَا أَقْسى الرُّجوعَ إِلَيْه !!!

*** لَـسْـتَ وَحْـدَكْ ***

	إنّـي مَـعَـكْ في الدّمْعِ في النجوى مَعَك في هَـدْأَةِ الـلـيَّـل المُلَوَّعِ ، في اخْتِـلاجـاتِ الفَـلَـكْ في لَوْحةْ ،أفْـنَـيْـتُ فيها قُصاصةَ الـوَجْدُ الذي إذا بَـدا حَتْمًا هَلَكْ غَـنَّـيْـتُ لَـكْ لحْنا يـقـيـمُ بخـافِـقي كَـيْ يُـطْرِبكْ إني هنَا أتْلو مَواجيدَ التَّلاقي في الغَسَقْ و أشدّ بالـحِـبـرِ المَتين على حُروفي ، كيْ لا يَضيعَ أريجُها. و أدَوّنُها على مَـتْـنِ القَوافِل ، في الوُجُوه و في الطُّرُق يا أيُّها الـمَسْكُونُ بي إنِّي سُـكِـنْـتُ ، مَنْ يا تُرى مِنَّا سَبَقْ ؟؟ قَدْ سـارَ فيك تخيّلي ، و صـاغََ عَـزْفِـي مُجْـمَـلُـك في لَـهْـفَـةٍ أضْمَرْتُها قَدْ جِئْتُ بَابَكَ .... هلْ أدُقّْ ؟؟

*** إسْـــتِـــدْراج ***

	رأيتُ انسِلالَ رُوحي على أَعْتاب وَحْدتي فخَشيتُ من الأفُول، فقادَني الخَوْفُ إلى الارْتماء في حُضْنِ المُسْتَحيل . كانَ يَجِبُ أنْ أَعْرف أن بعض الأشياء يُسْتَحْسَنُ ألا نُسَلِّطَ الضوء عليها لنراها ، و يكفي أَنْ ننْظُر إليْها منْ بعيد . حينَ مَضَيُتُ في اقْتِرابي كان انبهاري بهالة الضوء يكبُرُ شيئا فشيْئا ، النُّورُ المنْبَعِثُ كأنَّهُ سلطانُ المَكان ، و كان ثَوْبُ السُّكونِ مُسْدَلٌ في حَضْرَته .. كنت أستَعِدُّ لمُعانَقَةِ حَدائق النُّور، أُعِدّ ديباجةَ مراسيم اللِّقاء ، و أُبَعْثِرُ كل مخلَّفاتِ الخَوْفِ على جَوانب الطَّريق . كنتُ أتَقدّمُ نَحْوَ الضوءِ بخُطى الوَاثق مِنَ النَّوال ، حتى كِدْتُ أفْضَحَ أسْرار عُنْفُواني و رَسَائِلِ الصِّبا . حينَ دخَلْتُ في قَبْضَةِ الضَّوء أتَلَهَّفُ للقَاء ، بدأَتْ خُطاي تَتَعَثَّرُ بِأجْسامٍ صلبَة ، و لَمْ يَمْنَحْ لي ذُهولي فُرْصَةً لطرْحِ الأَسْئلة ، ما كان الضَّوء البَعيد سوى وَهَجَ النّار المُسْتَعِرَة ، و تِلْك الأَشياء على الطريق كانَت عِظامُ المُسْتَدْرجينَ إلى سرابِ الضَّوْء .

*** لوحاتٌ قـابِـلَـةٌ لـلاشْـتِـعَـال ***

	في غمْرَة انْشِغالِ ريشتي بانتِقاء أزْهى الألْوان لتَرسُم لوْحَةَ الوَجْد ، كُنْتَ تُعِدّ ملحَمَةَ الأفُول لتَكْسِرَ ريشتي إلى حدِّ النَّزْف . شاحبٌ صارَ مرسمي و تِلك الإطاراتُ الفارغة التي لا يَقرأها سِواي، ما أوْحَشَها !! ذاتَ عهْد ، كانتْ أوْراقي تتَفَتَّحُ لزائرٍ يحْلُم بالياسَمين ، يَحْمِلُ في يَدَيْهِ طاقةَ أملٍ لم تَكُنْ توحي بدُنُوِّ الذّبول . و ذات بُعْدٍ ، أطفأتُ كلَّ القَناديل كيْ لا أرى خطُوات اخْتِفَائك وراء المَدى ، و غَلَّقْتُ كلَّ منَافِذِ الصَّوْت كي لا أسْمَعَ أنْفاسِكَ تَبْتَعِدُ شيئا فشيئا ، تَخْفتُ شيْئا فشيْئا ، تَمُوتُ شيْئا فشيئا .. و ذاتَ وأْد ، كانتْ كلمَاتي تَخْتَنِقُ تحْت رُكام الوَحْدة حَرْفا حَرْفا ، و تقلصّت الأبجَدِيةُ في حلْقي حتَّى عافَ لِسَاني الكَلام. ........... على كرْسِيٍَ فقدَ اعتدالَهُ و غاص في زيت ألواني ، وضَعْتُ كل أدَواتي ، و قَرّرتُ أنْ أغْلِقَ المرْسم إلى الأبد ، و أُسْلِمُه إلى الاحْتِراق .