أسئلة تُولد من رحم الحيرة
(إلى الذي رحل في العتمة، ونسيه الناس)
***
... وينشق من العدم كنبتة وسط صحراء قاحلة؛ تخرج الكلمات من حلقه ثقيلة كأحجار، يفهمها الصبي بصعوبة: "الحاااد ساعين ده يا عي". (الحاج إسماعيل جه يا علي). يرمقه الصبي مندهشًا، ويتساءل بحيرة: "أبويا لسه واصل.. إزاي عرف؟!"
يعود الصبي إلى البيت يفكر في الإجابة، لكنه يفشل، فيزمّ شفتيه قائلا:" أكيد ربنا قاله".
في المساء يراه أول الحاضرين للوليمة التي أقامها أبوه ترحمًا على جده، يراقبه وهو ينسل من بين الواقفين ويقترب من أبيه، يقول بلا ترتيب: "إنه أشي يا حاااد ساعين". (إمتى ماشي يا حاج إسماعيل). "فين الكروك؟" (فين الخروف). يضحك والد الصبي، ويجيبه قائلا: " لسه شويه يا برهوم" "يللا اقعد علشان تاكل".
يأخذ مكانه أمام الصينية، يفرد ذراعه ويمد يده لصابر ليأخذ نصيبه من اللحم، يقول له بإلحاح شديد: "إيني ايبي يا صاااانن". (إديني نايبي يا صابر).
يرد عليه صابر ضاحكًا: "مفيش".
يهب على أقدامه واقفًا، ويصرخ معترضًا: "حق يا حااااد ساعين". (الحق يا حاج إسماعيل).
فتدوي بين الجالسين الضحكات، ويضحك معها الصبي.
بعد الوليمة يأبى ألا يغادر إلا بعد أن يحظى بالجنيه وعلبة الدخان من إسماعيل.
يتابعه الصبي وهو يمضي بعدها يهز رأسه يمينًا ويسارًا كعصفور يدندن بأغنية لا يعرف فحواها غيره.
يرقد الصبي على فراشه، يناوش السؤال رأسه: كيف بيعرف الأخبار أولًا بأول؟
يغمض عينيه مشفقًا، يتساءل مجددًا بحيرة: "مين بيرعاه.. فين بينام.. مين بيهتم بيه.. ومنين بياكل؟؟؟"
تبقى الأسئلة في عقله بلا إجابة، فيغمغم بحزن: "مسكين يا برهوم".
في ظهيرة يوم التالي، يرى الأولاد يطاردونه ويتدافعون وراءه في كل مكان، يرجمونه بالأحجار وهم يهتفون: "المجنون أهو". ينتصب برهوم واقفًا، ويزرهم بعينين كاللهيب، ثم يمسك حجرًا ويرميه عليهم، فيتشردون أمامه كأغنام ضالة.
يزمجر الصبي ويسأل أحدهم بغضب: "ليه؟ حرام عليكم دا مسكين محدش له". فيجيبه الولد غير مكترث: "دا راجل مجنون وأهبل".
يعود بعدها إلى بيته مهزومًا ويرتمي على حجر أبيه واجمًا، ويعاود أسئلته الحائرة: صحيح يابا برهوم مجنون".
يمسد أبوه شعر رأسه، ويجيبه: "لاء". يندفع الصبي سائلًا بغضب: "طيب ليه العيال بيقولوا عليه كده".
يتنهد أبوه بأسى، ويرد عليه: "عقله ناقص شويه.. بس مش مجنون.. دول عيال ملاعين".
ويراه الصبي في نهار آخر جاثيًا على ركبتيه رافعًا يديه إلى أعلى ويغمغم بصوت غير مفهوم كأنما يدعو، يقترب منه ويسأله بقلق: "مالك"؟
يشير إلى سحابة تراب قائلًا: "ددوا الديه". (أخدوا الجنيه).
يضع الصبي طرف ثيابه بين أسنانه، وينطلق خلف الأولاد ولا يعود إلا والجنيه في يديه، يلمحه برهوم فيفتح فمه على اتساعه من شدة الفرح، يخطف الجنيه من يد الصبي، ويلهج قائلًا: "يا ب تكه دكتووووون". (يا رب تبقى دكتور).
وقبل أن يمضي الصبي، يكافئه برهوم قائلا: "بالنييه إيه خنة عند الحاااااااد حين". (بالليل فيه ختمة عند الحاج حسين) يضحك الصبي ويرجع مختالًا فاردًا ذراعيه.
بعد سنوات، يكبر الصبي ويصير شابًا، ويتغير كل شيء حوله إلا من أولاد ملاعين جدد يطاردون برهوم أينما يمشي، فينفجر زاعقًا: "هما العيال دول ملهمش حد يربيهم".
في مساء أخير يسند الشاب رأسه إلى وسادته ليستريح من تعب سفره بعدما جاء من كليته، وصورة برهوم عالقة أمام عينيه عندما قابله مبتسمًا عند أول القرية، وهو يسلم عليه: "حنه ع السنانة يا عي" (حمدًا لله على السلامة يا علي.)
يستفيق من أفكاره على أصوات ضجيج خارج البيت، يخرج مذعورًا، يأتيه الخبر كلطمة فوق خده: "الحق برهوم".
يجري كحصان شارد، يرى لمة الناس، يدفع جسده بينهم، يراه مسجيًا على الأرض، يلاحق أنفاسه الأخيرة، وقد تفجر الدم حول رأسه كبحيرة.
يرتمي على الأرض، ويحتويه بين ذراعيه، يتلطخ جلبابه بالدم الأحمر القاني، وقبل أن يرخي برهوم جفنه الأخير، يرى الشاب حجرًا بجواره يستغيث: "أنا ما ليش دعوة.. أنا بريء".
24/06/2014