في سيارة الأجرة، أحستْ سمية بالهدوء النسبي يخفف قليلاً من خفقان قلبها، لكنها في داخلها لم تستطع أن تفهم ما حدث. "هل كانت صدفة؟" فكرت. "ماذا أرادوا مني؟". عيناها لم تفارقا الطريق الخلفي، تبحث عن أي حركة غريبة في الشارع الفارغ. كل زاوية، كل ركن، كان يبدو لها مغطّى بالظلال السوداء، كأن المدينة كلها تراقبها. مع كل انعطافةٍ للسيارة، شعرت وكأن الزمن يتباطأ، وكل حركة صارت أعمق في قلب الليل. الهواء يُلاعب أوراق الأشجار وكانه بريد أن يخلعها من مكانها، ويذكّرها بالوحدة التي كانت تحاول أن تُخفيها طوال النهار في مكتبها بين الملفات ووحدتها ووحشتها الآن. كانت تتذكر كلمات صفوان وحبه، كأنّها شواطئ أمان في بحر الليل المضطرب، كانت كلماته سَكِينَتَها الأخيرة قبل أن تدرك حجم العاصفة. خففت هذه المشاعر والذكرى عنها بعض الشيء لكنها كانت تتساءل: من وراء هذه المكيدة؟ وما الذي تريده ناهد بالضبط؟ الشعور بالريبة دبّ في صدرها مثل ثعبانٍ مسموم يلتف حول قلبها، لكنها لم تجرؤ على النظر إلى الخلف، خشية أن ترى ما يخيفها..
وصلت السيارة إلى زاوية شارع ضيق في حي البحر، حيث تتراكم المنازل القديمة بأبوابها الخشبية والحوائط المطلية باللون الأزرق الباهت. ، لكن عقلها ظل متوترًا، كانت تلمس حقيبتها باستمرار، تحاول أن تشعر بالأمان في ظل هذا الليل الثقيل. الليل لم يكن مجرد سكون، بل كان كيانًا حيًّا، يراقبها من خلف النوافذ المظلمة، يختبر خفقان قلبها، ويراقب تنفسها المضطرب.كانت المدينة ماتزال تموج بأضواء صفراء باهتة، ورائحة الرطوبة من وادي النخيل تتسلل عبر الفتحات الصغيرة، تُذكرها بأن الغموض الذي عاشته لم ينتهِ بعد. ثم تنظر المدينةُ من نفذة السيارة وهي تموجُ بالضوء، كأنها لا تعرفُ أنّ شيئًا حدثَ للتوّ. لكن في قلب سُمَيَّةَ كانت هناك ريبةٌ تستقرُّ مثلَ خنجرٍ صدئ، وإحساسٌ غريبٌ لم تُدرك ماهيته، كأنّ ما جرى لم يكن سوى بداية معقدة لشيء أكبر يُحاكُ حولها في الظلام.
وصلتْ إلى منزله
شَارِدَةَ العَيْنَيْنِ كَالخَمِيلَةِ،
مَكْسُورَةً مَحْزُونَةً ذَلِيلَةً.
عَلَى بِسَاطِ فَرْشِهَا مَهْمُومَةً عَلِيلَةً
أَغْصَانُهَا مَقْصُوصَةٌ فَلَمْ تَعُدْ ظَلِيلَةً
وَعَيْنُهَا دَامِعَةٌ وَلَمْ تَعُدْ كَحِيلَةً
مِنْ هَوْلِ مَا أَصَابَهَا مَفْزُوعَةً
تَخْشَى مِنَ الرَّذِيلَةِ
حين وصلتْ إلى بيتها ذي الباب الخشبيّ الأزرق في أطراف "حيّ البحر" لم تُخبر أحدًا بما جرى. دخلت غرفتها وأغلقت الباب، ثم جلست على حافة سريرها، تحاول استيعاب ما حدث. في تلك اللحظة، رنّ هاتفها برسالة من رقم مجهول. انقبض قلبها، وارتجفت يداها وهي تفتح الرسالة. كانت صورة. التُقطت لها من داخل السيارة، وتظهر فيها بوضوح وهي تدفع الشاب بعنف. لكن من يراها ربما يظن انه يعانقها ..وتحتها رسالة واحدة قصيرة لم تكن مكتوبة على لوحة المفاتيح: "هل تعلمين يا سمية أنكِ قد أصبحتِ أشهر من نار على علم، وهل تعلمين أن لديك الآن تاريخ سيئ جدا في عملك."
نظرت إلى الصورة، ثم إلى الرسالة، وأدركت أن الخطر لم ينتهِ بانتهاء الليل. بل بدأ لتوه.
لم يكن شعورها مجرد خوف من اللحظة التي مرت، بل كان مزيجًا من الريبة واليقين. أدركتْ أن ما حدث في الشارع ليس فعلاً عفويًا، بل هو اللغز الأول لقضيةٍ أكبر وأكثر خطورة تُحاكُ حولها في الظلام، وأن ناهد ليست مجرد زميلة حسودة، بل جزءٌ من مخطط أعقد. كل خطوة في اليوم التالي لن تكون بريئة، وكل حركة لها في الشركة ستخضع لمراقبة دقيقة. كما أدركتْ أيضاً أنَّ عليها أن تحافظَ على براءةِ صورتِها ونقاءِ قلبِها في عيني صفوان، فقد باتتْ تعرفُ أنَّ ما يُهدّدُها ليسَ وظيفتَها فحسب، بل هو حبُّها أيضاً.
وفي صباح تلك الليلة
لم يكن ذاك الصباحُ فجراً عاديّاً، بل كان صحوةً على حقيقةٍ مسمومة. فتحت سميّة عينيها، فإذا بالنور يجلدُها، وبشاشة الهاتف تحملُ لعنةَ الصورةِ التي التُقطت على عجلٍ، لتجعلَ من نقائها دليلاً مُلفَّقاً على السوء. شعرت أن الغرفةَ لم تَعُدْ مَلاذَها، بل مِرآةً قاسيةً تُظهرُ وجهَها في عزِّ ضعفه.
كانت تودُّ أن تستنجدَ بـصفوان، أن تلقيَ حملَ الخوفِ في مَرافئِ صوتهِ الدافئ. لكنَّ الشكَّ الذي زرعتْه ناهد كان كـالوَهْمِ الصوفيّ، يمنعُها من تلطيخِ حُبِّهِ بمرارةِ المكيدة. أدركتْ أنَّ الثقةَ كـزهرةِ ، تخشى لمسةَ الوحل، فقررتْ أن تذهبَ إلى وادي النخيل، لا كفراشةٍ مذعورة، بل كفارسٍ يحملُ قلبَهُ درعاً.
في أروقةِ الشركة، حيثُ تختلطُ رائحةُ الحبرِ بعطرِ التنافس، كانَ السكونُ كذبةً بيضاءَ. كلُّ شيءٍ يبدو في مكانهِ، لكنَّ عينَ سميةَ كانت ترى ظلالاً مُتدثّرة خلف كلِّ ابتسامة. كانت تمرُّ كـوترٍ مشدود، يترقبُ اللحظةَ التي يُعزفُ عليها لحنُ السقوط.
وعندما انحنى النهارُ نحو منتصفهِ، جاءتها المذكرةُ الرسميةُ من الأستاذ عدنان، رئيسِ المواردِ البشرية. كانت المذكرةُ يداً جليديّةً تسحبُها إلى عمقِ الهاوية.
في مكتبهِ المُخمليّ والبارد، جلسَ عدنانُ كـحَكَمٍ من زمنٍ غابر، يزنُ الكلماتِ بميزانِ الوقارِ الزائف: "يا سمية، نحنُ لا نرى فيكِ إلا غصنًا مثمراً، لكنَّ الريحَ العابرةَ قد تحملُ معها غبارَ الشكِّ. وصلتْ إلينا استفساراتٌ لا تليقُ بـاسمِ سُميَّة."
ثمَّ دفعَ أمامها الظرفَ الأبيضَ المغلقَ. كانَ الظرفُ في بياضهِ أشدَّ سواداً من الحقدِ ذاتِه؛ شاهد صامت على جريمة الغياب. "هذا الظرفُ يحوي لسانَ الشبهة، ونحنُ نخشى أنْ يمتدَّ ضررُهُ إلى نسيجِ الشركة."
هنا، انتفضتْ سميةُ من حالةِ الانكسارِ إلى عنفوانِ الكرامة. وقفتْ، وصوتُها كانَ كـأزيزِ الرصاصةِ المتجهةِ نحو الهدف: "يا أستاذ، إنَّ الظرفَ المغلقَ هوَ عباءةُ الخصمِ الجبان. إنني أدركُ أنَّ نوري أغضبَ البعض، وأنَّ حقدَ أحدهمْ تجسَّدَ في ورقة. لا أريدُ شفقةً، بل أطلبُ أنْ تسمحَ لـأجنحةِ الحقيقةِ أنْ تُرفرفَ في مكتبك، فـالتحقيقُ هوَ الماءُ الذي يغسلُ دنسَ الكلمات."
وفي بقعةٍ بعيدة، كانَ صفوانُ يُصارعُ لغزَهُ الخاص. كانَ يُحدِّثُ فواز عن جهازِ التتبع، بلهجةِ من يرى الخنجرَ تحتَ ضوءِ البدر: "ليستْ سرقةً، يا فواز. إنها ملاحقةٌ تُفكِّكُ الخُطى. هناكَ عينٌ لا ترتاحُ تقتفي أثرَنا، خيوطٌ غيرُ مرئيةٍ تُحكِمُ قبضتَها."
شعرَ صفوانُ وقتها بأنَّ قلقَ سميةَ ليلةَ البارحةِ لم يكنْ مجرَّدَ ظلٍّ عابر. أدركَ أنَّ الحبَّ صارَ هدفاً مشتركاً، وأنَّ مكيدةَ العملِ ومكيدةَ الغيابِ قدِ اتحدتا لتصبحا عاصفةً تُهدِّدُ الغصنينِ معاً.
لم يكدْ النهارُ يلملمُ أطرافَهُ الباهتة، حتى اخترقتْ رسالةٌ جديدةٌ صمتَ هاتفِ سميةَ، كانتْ كـرُمحٍ باردٍ موجَّهٍ إلى صميمِ روحها:
"عبثاً تحاولينَ تجميلَ الصورةِ أمامَ عدنان. شبكتُنا تُرصدُ دبيبَ النملِ على طريقِ صفوانَ الملتوي. اصمتي، وإلا سيصبحُ حبُّكِ هوَ الخيطُ الذي نَشْطُرُ بهِ مصيرَكِما."
اكتشفتْ سميةُ حينها أنَّ الخصمَ ليسَ ناهدَ وحدها، بل جماعةٌ من الأفاعي تعرفُ نقاطَ قوتها وضعفها.
وبينما كانتْ تتأهبُ للخروج، وجدتْ على مكتبِها ورقةً مطويةً، كـأمانةٍ سقطتْ من يدِ الغيب. فتحتها بوجل، فإذا بها بيتانِ بخطِّ يدِ صفوان، كانا شِفَاءً من داءٍ ونُوراً منَ العتمة:
إذا رَامَ خَصْمِي أنْ يُعَرْقِلَ خُطْوَتِي
فَلِلْحَقِّ عَيْنٌ لاَ يُغَطِّيهَا. قمرْ
سَأَمْشِي عَلَى جَمْرِ المَكَائِدِ بَاسِمًا
فَإِنَّ هطول النُّورِ أندى من المطرْ
تساءلتْ، كيفَ سلكتْ هذهِ الأبياتُ دربَها؟ هلْ جاءتْ رسالةَ دعمٍ خفيّة من صفوان، أمْ هيَ شَرَكٌ جديدٌ أُلقيَ لإرباكِها؟ ضمَّتْ سميةُ الورقةَ إلى حِرزِ قلبِها، لكنها أقسمتْ أنَّها لنْ تثقَ بـأيِّ ضوءٍ قبلَ أنْ تتأكدَ أنَّ مصدرَهُ ليسَ موقداً بحقد
كانتْ المدينةُ التي وصلَ إليها صفوان مُغرقةً في صمتٍ ثقيل، تُشبهُ لوحةً زيتيةً عتيقةً تغلّفُها ضبابية السحب. لم يكنْ يشغلُ بالَهُ سوى ذلكَ الجهازُ المتطفّل الذي عثرَ عليه، كـنقطةِ حبرٍ سوداءَ على صفحةِ أيّامِه الشفافة. لم يكنْ مجرّدَ تكنولوجيا، بل كانَ دليلاً صامتاً على أنَّ حياتَهُ أصبحتْ مسرحاً مكشوفاً لعيونٍ لا تعرفُ الرَّمَش.
جلسَ صفوانُ معَ صديقِهِ فواز، الذي كانَ خبيراً في خفايا الشبكاتِ ودروبِ التقنية. كانَ نورُ المصباحِ المنفردِ يلقي بظلالٍ متحركةٍ على وجوهِهما، كأنَّهما يبحثانِ عنْ الحقيقةِ في غرفةٍ مظلمة.
تنهّدَ صفوانُ بمرارة: "يا فواز، أنا محامي وشاعرٌ ، أُخيطُ كلماتي منْ نسيجِ القلبِ، لا أُتقنُ فنَّ المؤامرات. منْ ذا الذي يجدُ في ظلالِ قصائدي ما يستحقُّ كلَّ هذا التتبّع؟ إنَّني أشعرُ بأنَّني عصفورٌ في قفصٍ زجاجيّ، يَراني منْ يريدُ ولا أرى أنا سِجّاني."
أمسكَ فوازُ بالجهازِ الصغيرِ، وبدأَ يُفكِّكُهُ برفقٍ كأنَّهُ يتعاملُ معَ لُغزٍ مصنوعٍ منَ الزئبق. قالَ وعيناهُ تُحدِّقانِ في الدوائرِ الإلكترونيةِ الدقيقة: "هذا الجهازُ ليسَ عادياً، يا صفوان. ليسَ منْ صُنعِ اللصوص. إنَّهُ بصمةُ مِهنيّةٍ عالية، ولهُ مسارُ بثٍّ لا يتوقفُ، كـقلبٍ إلكترونيٍّ ينبضُ بالحقد."
أشارَ صفوانُ بيدِهِ في إحباط: "قلتُ لك! إنَّها ليستْ سرقة. الأمرُ يتعلّقُ بأشياءَ أكبر. لقدْ شعرتُ بالخطرِ يقتربُ منْ سُميَّة، في صوتِها ليلةَ البارحةِ كانَ صوتُ الرعدِ البعيد، يُنبئُ بالعاصفة. أنا متأكّدٌ أنَّ هذا التتبُّعَ مُرتبطٌ بما يُحاكُ حولَها في وادي النخيل."كانتْ كلماتُ سميةَ الأخيرةِ في الهاتفِ تتردّدُ في ذهنِهِ كـصدىً من بئرٍ عميقة وهي تخبره: "شعرتُ بالوحدة فقلتُ: أطمئن عليك، وأستأنسُ بحديثك."
بعدَ ساعاتٍ منَ العملِ المُضني، وعبرَ برامجَ معقّدةٍ تُشبهُ متاهاتِ الرملِ، تمكّنَ فوازُ منَ الوصولِ إلى خيطٍ رفيعٍ في شبكةِ الجهاز. كشفَ عنْ نقطةِ التقاءٍ جغرافيةٍ كانَ الجهازُ يبثُّ إليها المعلوماتِ بشكلٍ مستمرٍ قبلَ تعطيلِهِ.
فواز: "لقدْ وجدناهُ يا صفوان. التتبعُ ينتهي هنا. إنَّها ليستْ مُجرّدَ شقةٍ أو مكانٍ عشوائي، بلْ إنَّها مزرعةٌ قديمةٌ في ضواحي المدينةِ، قريبةٌ جداً منْ وادي النخيل، ومملوكةٌ.. لـشريكٍ قديمٍ في الشركة لم أسمعْ عنهُ منذُ سنوات."
ارتسمتْ على وجهِ صفوانَ قسوةٌ لمْ يعهدها من قبل. أدركَ أنَّ المكيدةَ تمتدُّ جذورُها عميقاً في تاريخِ الشركةِ وأسرارِها، وأنَّها ليستْ مُجرَّدَ غيرةِ زميلةٍ. إنَّها شبكةٌ مصمّمةٌ لتوقِفَهُ وتُوقِفَ سميةَ معاً.
قالَ صفوانُ بصوتٍ خافتٍ، كـهمسِ الرّيحِ: "لقدْ أردتُ أنْ أُحييَ الحبَّ، ولكنَّني أيقظتُ غولاً قديماً. لمْ يكنِ الخطرُ على نفسي، بلْ على كلِّ ما يمنحُني الحياةَ."
لمْ يكنْ صفوانُ يعلمُ أنَّ هذهِ المزرعةَ كانتْ تُستخدمُ كـغرفةِ عملياتٍ صغيرة لإدارةِ الضغطِ على من يراقبونهم، وأنَّ الرسائلَ التي تصلُه منَ الرقمِ المجهولِ كانتْ تُبثُّ منْ هناك، بإشرافِ شخص لا يظهرُ إلا في أروقةِ الظلام.
في ذاتِ اللحظةِ، كانتْ سميةُ في مكتبِها، تتأملُ الورقةَ الشعريةَ التي تحملُ خطَّ صفوانَ الغامض. قرَّرتْ أنْ تستخدمَ هذا الخيطَ الشعريَّ لكسرِ الجليد. وضعتْ خطةً بسيطةً وخطيرةً: أنْ تُقنعَ ناهدَ بأنَّها ستركبُ مصيدةً أخرى، وستفعلُ ذلكَ عبرَ لغةِ العيونِ الصامتة.
في الصباحِ التالي، دخلتْ سميةُ إلى العملِ كعادتِها، لكنَّها كانتْ تحملُ الورقةَ في يدِها للحظاتٍ قصيرةٍ عندَ مكتبِها، كأنَّها تتأمّلُ فيها قبلَ أنْ تُخفيها. كانتْ حركتُها محسوبةً لتلتقطها نظراتُ ناهدَ المتربّصة.
بالفعل، لمحتْ ناهدُ حركةَ سميةَ، ثمَّ رأتْ على وجهِ سميةَ ابتسامةً باهتةً لمْ تُفسِّرْها. تلكَ الابتسامةُ كانتْ إعلاناً صامتاً بأنَّ سميةَ تلقتْ دعماً سرياً، وأنَّ حبلَ الابتزازِ لمْ يقطعْ وترَها.
اندفعتْ ناهدُ إلى مكتبِها، شعرتْ بأنَّ شيئاً ما قدْ أفسدَ خطتَها. إنَّ قوةَ سميةَ المُستعادة كانتْ إشارةً على تواصلٍ لمْ يُرصد. في تلكَ اللحظة، رنَّ هاتفُها برسالةٍ منْ الرقمِ المجهولِ:
"خططنا تتعرّضُ لاهتزازٍ. سميةُ تتلقّى رسائلَ دعمٍ سريّة. لا تسمحي لها بأنْ تتحوّلَ منْ فريسةٍ إلى مُحقّق. نحتاجُ إلى ورقةِ الضغطِ الأقوى الآن."
ابتلعتْ ناهدُ ريقَها، أدركتْ أنَّ المعركةَ لمْ تعدْ مجرّدَ إبعادِ سمية، بلْ هيَ سباقٌ معَ الزمنِ لضربةٍ قاضية قبلَ أنْ يتمكّنَ صفوانُ منْ كشفِ خيوطِ المراقبةِ الملتوية.
لقدْ كُشفَ الآنَ عنْ نقطةِ تلاقي الخطرين: المزرعةُ القريبةُ منْ وادي النخيل. وتسلّحتْ سميةُ بـسلاحِ الغموضِ العاطفيّ لإرباكِ ناهد.
كانتِ الرحلةُ إلى المزرعةِ القابعةِ في ضواحي وادي النخيلِ عبوراً نحو المجهول، وكأنَّ صفوانَ يتقدّمُ نحو مَخاضِ الحقيقةِ الَّتي طالما خيَّلَ إليه أنَّها مُجرَّدُ رحلةٍ استكشافيةٍ. كانتْ سيارةُ فوازَ تشقُّ عتمةَ الليلِ الهادئة، وضوءُ مصباحِها الأماميِّ نصلٌ يخترقُ جلدَ الظلام.
أحسَّ صفوانُ ببرودةٍ لم تنبعْ منَ النسيمِ، بل منَ الشعورِ بأنَّهُ على وشكِ الوقوفِ أمامَ الوجهِ القبيحِ للعدوِّ الخفيّ.
فواز، الذي كانَ يمسكُ عجلةَ القيادةِ، نظرَ إليهِ بجدّية: "شوف يا صفوان، نحنا بندخل أرض ماهيش بريئة ولا هي سابرة. ذيه ماهوش صراع مناصب، ذيه صراع سُلطة حقيقي." (أي: انظر يا صفوان، نحن ندخل أرضاً ليست بريئة ولا جيدة. هذا ليس صراع مناصب، هذا صراع سلطة حقيقي).
كانتِ المزرعةُ تتراءى عنْ بعدٍ كشبحٍ معماريٍّ؛ أسوارٌ عاليةٌ، وأشجارُ قديمةٌ تُلقي بظلالِها الملتويةِ على الأرض، كأيدي متوسِّلةٍ. كانتْ مُضاءةً بأضواءَ صفراءَ خافتةٍ لا تكشفُ، بل تُخفي ما في الداخل.
لمْ يكنْ صفوانُ يملكُ سوى إحساسِه المرهفِ، وبعضِ الأدواتِ البسيطةِ التي زوَّدهُ بها فواز. تسلّلَ صفوانُ عبرَ ثغرةٍ في السورِ الخلفيِّ للمزرعة، تاركاً فوازَ على مسافةِ رصدٍ. كانتِ الأرضُ تحتَ قدميهِ طينيةً رطبة، ورائحةُ الترابِ المُختلطةُ برائحةِ العشبِ البرّيِّ تذكّرهُ بطفولةٍ صافيةٍ، تضاعفُ مرارةَ اللحظةِ الراهنة.
قادتهُ خطوتُهُ الحذرةُ إلى مبنىً صغيراً مُلحقاً بالمزرعة، منهُ تنبعثُ إضاءةٌ خافتةٌ وصوتُ طنينٍ إلكترونيٍّ متواصل. كانتْ تلكَ هيَ غرفةُ العملياتِ التي تبثُّ حقدَها.
منْ نافذةٍ صغيرةٍ، نظرَ صفوانُ فإذا بهِ يرى مشهداً يخلعُ القلبَ منْ مكانه: عدةُ شاشاتٍ مُضاءةٍ تعرضُ خرائطَ وبيانات، وأمامَها يجلسُ شخصانِ، أحدهما هوَ الشابُّ الذي وجده ذات مره في بوفية راشد، والآخرُ رجلٌ في الخمسيناتِ يبدو كدميةٍ تحرّكُها أيدي خفيّة.
لمْ يكنْ صفوانُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ منَ الأدلة. هذهِ هيَ أعشاشُ الأفاعي التي تُهدِّدُ عشَّهُ وعش غيره. وبينما كانَ يهمُّ بالانسحابِ لجمعِ قوّتِهِ، لمحتْ عينُهُ صورةً معلّقةً على الحائطِ خلفَ شاشةِ المراقبةِ الرئيسية.
كانتِ الصورةُ قديمةً، لثلاثةِ أشخاصٍ يقفونِ أمامَ مبنى الشركةِ في "وادي النخيل": الشخصُ الجالسُ الآن أمامَهُ، وزميلٌ قديمٌ يعرفُهُ صفوانُ جيداً. لمْ يكنِ الأمرُ مُجرَّدَ شكوك، بلْ كانَ انتقاماً متأصّلاً يجمعُ شخصياتٍ منَ الماضي والحاضر في صورة اختلاط ناهد برجال ربما. ناهدَ لمْ تكنْ سوى واجهةٍ عاطفيةٍ لمؤامرةٍ أكبرَ وأكثرَ عمقاً، مؤامرةٍ تستهدفُ صفوانَ نفسه ربما بسببِ نجاحهِ أو موقعِهِ وقد تكون شبكة دعارة الأمر غامض.
في تلكَ اللحظةِ، اهتزَّ الهاتفُ في جيبِ صفوانَ، كانتْ رسالةٌ منْ فواز: "قد تغيَّر ضَوء المكان، عادهم حسُّوا بشيء. تراجعْ فوراً يا صفوان، الوقت ضاق علينا." (أي: لقد تغير ضوء المكان، يبدو أنهم شعروا بشيء. تراجع فوراً يا صفوان، الوقت ينفد علينا).
انكمشَ صفوانُ خلفَ شجرةِ عتيقة، بينما فتحَ البابُ الصغيرُ للمبنى وخرجَ منهُ الرجلُ الخمسينيُّ وهوَ يتلفّتُ حولَهُ بعينينِ لئيمتين. حملَ الرجلُ حقيبةً جلديةً ثقيلة، وسارَ نحو البوابةِ الأماميةِ للمزرعة، كأنَّهُ يُنهي فصلاً خطيراً منَ العمل.
أدركَ صفوانُ أنَّ وجودَهُ هنا لمْ يعدْ آمناً. انسحبَ بخطواتٍ أشبهَ بالهمسِ إلى حيثُ تنتظرُهُ سيارةُ فواز.
في صباحِ اليومِ التالي، كانتِ الشركةُ تعيشُ على وقعِ هدوءٍ زائف. سمية كانتْ تجلسُ في مكتبها، تستعرضُ الملفاتِ، لكنَّ عقلَها كانَ يعملُ كـمُنقّبٍ عنِ الذهبِ بينَ الصخور. تذكّرتْ تفاصيلَ محادثةِ الأستاذِ عدنانَ والظرفَ الأبيضَ.
دخلتْ ناهدُ، بثقةٍ مُتجدّدةٍ تُمثِّلُها قسوةُ النظراتِ. حملتْ في يدِها كوبَ قهوةٍ، وتوقّفتْ عندَ مكتبِ سميةَ بابتسامةٍ باردةٍ كـقشرةِ الجليد.
ناهد: "ما زلتِ هنا، يا سمية؟ أدهشني صبركِ. لكنْ يجبُ أنْ تعرفي أنَّ بعضَ الأشياءِ لا يكفيها الصبر. الشركةُ تحتاجُ إلى مَنْ يثبتُ، لا مَنْ تُثبتُ عليهِ الأدلة."
نظرتْ سميةُ إليها مباشرة، كانتْ عيناها كـسطحِ الماءِ الهادئِ الذي يُخفي العمق: "أنا هنا لأنني أملكُ الحقَّ، يا ناهد. أمّا الأدلة، فـالظلالُ سرعانَ ما تذوبُ تحتَ
شعرتْ ناهدُ بلهجةِ التحدّي، لكنَّها لمْ تكنْ مستعدةً للتراجع. وضعتْ كوبَ قهوتها على حافةِ مكتبِ سمية، وبنبرةِ هامسةٍ وساخرة، كـهمسِ الشيطان: "أخاف أنَّ شمسَكِ ستغيبُ قريباً، يا عزيزتي. هلْ تذكرينَ ذلكَ اليومَ الذي قلتُ لكِ فيهِ عنْ العصفورِ والنبتةِ الشيطانية؟ لقدْ حانَ وقتُ تساقطِ العشّ. ورقةُ الضغطِ الأقوى جاهزةٌ الآن، وستفاجئكِ. هيَ لا تتعلّقُ بجمالكِ، بلْ بشيءٍ أكثرَ هشاشةً."
ابتعدتْ ناهدُ، تاركةً سميةَ تتساءلُ عنْ هذهِ الورقةِ الهشّةِ التي تخافُ عليها أكثرَ منْ سمعتها، و تاركةً خلفها رائحةَ القهوةِ التي أصبحتْ في نظرِ سميةَ رائحةَ مكيدةٍ جديدة.
لقدْ كشفَ صفوانُ عنْ ملامحِ شبكةِ الانتقامِ المُرتبطةِ بالماضي وناهد. وتلقتْ سميةُ إنذاراً بـورقةِ ضغطٍ جديدة ستهددُ شيئاً أكثرَ قيمةً بالنسبةِ لها.



رد مع اقتباس

