(4)
(4)
وهكذا كانت أيام الشاعر المحروم من وصل الحبيبة الغائبة تعود كلها ربيعا جميلا وارف الظلال ، شهيّ الجنىَ ، وحياة صافية عذبة تموج بالسعادة والهناء والفرح .. ولكن ، كل ذلك إلى أجل جدّ قريب ، إذ سرعان ما كانت مظاهر الجمال والسعادة والهناء تزول وتنطوي مخلفة المرار والعذاب والألم ، وسرعان ما كان الربيع ينحسر ليخلفه الخريف بكل بشاعته وقساوته ليملأ سلته بالوعود الكاذبة ، وليقيم من جديد بينه وبينها غابة من سدود !
وتتجسد هذه الحالة الكئيبة مرة أخرى في قوله : ( ق/ 11)
آ كل أ ثمارك في قارعة الحلم
ــ أ يا صاحبة البهجة والعصمة ــ
تقهرني سطوة عشقك في ليل الصمت
( وسجني ، والحراس ، وأقفال الزنزانهْ ) !
هذا الحلم الذي لم يبخل عليه بالعذاب والألم ، أو قل الحزن والألم الذي يعبث بالحلم :
الحزن يدحرج حلمي
حزني يمتدّ على الإسفلت عبيرا
أ حلم بعصافيرك تجتاز الأسوار
وتغريد ك يقتحم خوائي
في منتصف الرغبهْ!
أ مسك جمرة عشقي
هذا حبّك في صد ري أثمر !
وتتجسد حالة التردد بين الحلم والواقع مرة أخرى في قصيدته الرشيقة الماتعة " رجع الصدى " (ق / 9) حيث نراه يشخص واقعه الذي غابت عنه الحبيبة وتبدد من نفسه الحلم ، وخلص لمعاناته وآلامه التي لا تنتهي ، يقول :
تأ نّقت في ا لحنا يا / حروف شوقي صبا يـــا
ورحت أ نفخ فيهـــا / في ا لفجر بعضَ شذا يا
تأ ججت كسعيـــر / ود مد مت لندايــا
وجرح قلبي يغـفـو / على أ نين بكايـــا
مرا فئ ا لحلم ولّت / وضاع مني هد ا يـا...
هكذا كان الصوت يحكي قسوة الواقع ويجسد آلامه المبرحة .. حتى إذا كان الصدى ألفيناه يحكي كل هذا العذاب والمرار والألم بطبيعة الحال ، فما الصدى إلا صورة أخرى مشوهة للصوت بكل آلامه ومعاناته وعذاباته وأحزانه ؛ بل لعله جسّد من الحبيبة الغائبة ما لم يتجسد في الصوت :
هل كنت أطياف نور / غد ا بد ربي خطـايــا
أ م كنت نارا بخلدي / لم تُبْق منني بقا يــــا
أ كنت عاري وحزني / وصوتَ صمت بكايــا
أ م كنت ميلا دَ قهــر / في صحوتي وسما يــا
فصرت روحا غريبا / وصار دربي شظايـــا
ولا يملك الشاعر المحروم إلا أن يظل يحلم بالحبيبة الغائبة " الخضراء" وعودتها لتملأ حياته ونفسه حبا وعشقا وأملا : (ص 24)
أ ين الصوت الصادح ، صوتك يا خضراء
عشت أحبك .. وأود دخول حدائقك الوحشيهْ
لكنك دججت مداخلك السريهْ
ونوافذ ك الدريهْ
بجيوش كالنمل
وسلاح وضجيج
هذي خيلي تبعدهــا الرهبهْ
كيف سأقتحم العقبــــهْ ؟!
ويتولد الأمل من هذا الحرمان ، ويرقب العاشق المتيّم عودة الحبيبة الغائبة التي طال انتظاره لها لتملأ حياته حبا وعشقا وهناءة :
تأتي فاتنتي الليلهْ
صاهلة بالحبّ .. ومثقلة بالبوحْ
تحد ثني عن فتنتها الشرسهْ
قد حاصرها في الليل البومُ
أ خفّف عنها .. وأطوّقها في حضنيّ
يفاجئني نرجسها بالخنجر في الصدر
وند خل بهو الفرحة منتشيين .. عرايا !
إ ني نشوانُ .. وجسمك يتفـتّح
تتدلّى أ ثمارك وعنا قيدك
هل نستيقظ في الفجر ؟!
ويظل الشاعر العاشق مشدودا مصلوبا على خشبة الأمل بعودة الحبيبة الغائبة لتملأ حياته أملا وعشقا وسعادة !
وفي " ورد ة البوح " ( ق/ 23) يُذكّر العاشق الصب صاحبته بوعودها القديمة المعسولة المثقلة بأمل اللقاء كاشفا عن مخاوفه التي تملأ قلبه من هجرها واستمرار غيابها الذي لا يجد له نهاية ، يقول :
وقلت غد ا تشرقين
وفي خطوك البرق
وفي صدرك الشوق
علم اليقين
وخلف جدار التوجس أرقب وعدك .. هل تحضرين ؟!
ولا يملك إلا أن يصور آثار حضورها في نفسه وروحه وحياته فيقول :
تهلّين كوكبَ عمري
فيسطع في داخل الكهف نورْ
وصد ري يقفز
يبزغ في الظلمات الضياء الحنونْ !
أما إذا غابت وأوغلت في هجرها وصدها فستكون حياته ونفسه على صورة أخرى لا ينقصها الحزن والكآبة والمرار والعذاب :
تغيبين كوكبَ عمري
فيهمس بالحب قلب تعذّب
يُغرَسُ نصلُـك في الصدر!
هكذا بدت الحبيبة بالنسبة لشاعرنا العاشق في حالتي الحضور والوصل والغياب والهجر.. ومع ذلك لا يجد هذا العاشق إلا الاندماج أو قل الحلول في كيان الحبيبة محققا التوحد اللانهائي معها :
أنا الآن صوتك يخترق الخوف
عطرك يمتشق الحرف
جرحك .. بوحـك .. عطر السنين !
.............
(يتبع)