أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: ولاده "1 "

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي ولاده "1 "

    الظلام يكلل كل شيء، لو مددت إصبعك أمام عينيك، فانك لن تراه، والجسد الملوح بالسياط والعصي والتعب منتصبا كشجرة حور عملاقة.

    التعذيب طوال الساعات الماضية لم ينل منه شيئا، والوقوف الإجباري بسبب الربط الخلفي في ماسورة مثبتة بالحائط، الجلوس الإجباري على كرسي أطفال من الخشب مع التقييد التام لليدين والقدمين معا، اجبر الجسد ان يكون مقوسا تقوسا يشبه الانحناء بالرأس نحو القدمين، كل هذا لم يزحزح الرجل عن موقفه قيد أنملة.

    عادت الذاكرة للعمل من جديد، هكذا يحصل دائما، حين لا تجد ما تفعله، فانك لا تستطيع ان تمنع عقلك من الانفلات على هواه ليعمل ما يشاء، ويصور ما يشاء. وفي عمله مع لحظات الهدوء القاتل، ولحظات التوقع القادمة من الظلام، تبدأ روعة العقل في الظهور لتطفو فوق كل الحدود والجدران، ترسم عبقرية فذة في صنع شيء ما للجسد المقهور والمغلول، هذا العقل هو الانتصار الأبدي على كل المعاقل العاتية، وسطوة القهر الطاغية. لا توقفه الجدران ولا تسيطر عليه القيود. هو حر داخل الزنزانة، وتحت السياط، حر برغم القيود الضارية التي تغل اليدين والقدمين في آن.

    أستطيع الان ان أمر به فوق كل شوارع المدينة وأرصفتها، أستطيع ان أتجول بين رفوف مكتبة البلدية العامة، أتأمل بعمق خاص كل العناوين المرصوصة فوق الرفوف، أزور أهلي وخلاني، ألاطف أبناء أختي بضحكة عالية طويلة، أكاد أشرق بدموعي من شدتها، أرسم معالم خطوات أزلية لمعركة أجنادين، وذي قار، اقرأ المتنبي وجرير والفرزدق، ما زال لي عقل، إذن ما زلت حرا، ولن تستطيعوا سلب عقلي، آلات تعذيبكم، بطشكم، همجيتكم. كل هذه الأمور لن تغير شيئا لأنني الأقوى، الأقوى، نعم، ليس بجسدي، بل بعقلي.

    طاف عقلي كثيرا، لكن أكثر ما توقف عنده، تلك الليلة المشؤومة.

    كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل حين ظهر في السكون صوت سيارات متتالية تصطف في الحارة، وعلا صوت البساطير على الأرض بين جدران البيوت، حركات وأصوات غير اعتيادية في حارتنا، في هذا الوقت المتأخر من الليل، سكنت الحارة مرة واحدة، وما هي إلا ثوان حتى كان باب البيت يقرع بشدة.

    أفاق أهلي من نومهم والنعاس ما زال فوق رموشهم، أفاقوا مذعورين مدهوشين، من سيأتي في مثل هذا الوقت الغائص في العتمة؟!
    \"من بالباب\"؟ سأل والدي.
    \" جيش، افتح الباب\" أتاه الجواب.
    طوحت الكتاب بعيدا عني وخرجت من غرفتي صوب الباب الخارجي وفتحته.

    كان يقف بالباب ثلة من الجنود المدججين بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد، يتوسطهم شخص قصير أصلع بلباس عادي، على وجهه عوينات معدنية لمع إطارها حين أشعل والدي الضوء الخارجي، هو ضابط المخابرات كما توحي هيئته.
    \"أنت جهاد\"؟ سأل مع ابتسامة صغيرة مصطنعة.
    \" نعم\".
    \" هل تسمح لنا بتفتيش البيت\"؟
    أراد ان يبدو مؤدبا، نوع من التحاذق الثقيل، لو كان يعلم انني املك حق منعه من دخول البيت، ما أتى إليه مطلقا، ثم أي حق هذا أمام الحشد المدجج بالسلاح؟
    دخل دون ان يسمع جوابي، واتجه مباشرة نحو غرفتي الخاصة، ودخل خلفه ثلاثة جنود، وانتشر خمسة آخرون في قاع الدار وأصابعهم متحفزة على زناد بنادقهم. حدق في المكتبة، وانزل مجموعة كبيرة من الكتب، قلب صفحاتها بتمعن وسألني بين فينة وأخرى عن موضوع كتاب أو مجلة، نبش الأدراج واحدا تلو الاخر، بتأن وصبر، وبأنامل صغيرة رفع أغطية السرير، وبسكين حاد مزق فرشته ونفش صوفها على ارض الغرفة، فرغ محتويات قوارير الورد فوق الصوف المنثور، كسر إطارات الصور المعلقة على الحائط وضربها بعصبية حادة بجدار الغرفة.

    حدق في بغضب واضح، كوحش جارح يحدق في فريسته، نفض يديه وصرخ بشكل مفاجىء:
    \" أين العلم\"؟
    ضبط نفسي بقوة وقلت بصوت عادي متزن:
    \" أي علم\"؟
    \" علم فلسطين\"
    \" ما زلت لا اعرف عم تتحدث\".
    \" إياك ان تتحاذق معي، اخبرني أين العلم ووفر على نفسك ما لا تحب\".
    \" ما زلت لا اعلم عم تتحدث\".
    \" لا تريد الاعتراف، إذن بدل ملابسك وسوف تأتي معنا لنتفاهم هناك\".

    خلعت منامتي وارتديت ملابسي، خرجت من الغرفة، كانوا قد نبشوا البيت بكامله، حتى المطبخ لم يسلم من أذاهم، خلطوا كل شيء ببعضه، الدقيق مع السكر مع الملح مع الأرز مع الزيت، عجنوا المحتويات ببعضها، أتلفوها. تأملت وجه أمي، كان مربدا حزينا، قانيا، تعلوه الدهشة والانكسار، ويتوج عينيها الرجاء. ضمتني بعينيها الحانيتين، كانت الدموع تترغرغ فيهما وتتحجر، بدا الألم عنيفا طاغيا على وجنتيها المرتعشتين. لماذا لا تبكي يا أمي؟ أنا اعلم بأنك تحجزين دموعك بجهد كبير، اعلم ذلك يقينا، أنت لا تريدين ان تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون ان يروه.

    أما أنت يا والدي، يا صاحب الكفين الطاهرين، والعيون الخضر كسهل مرج ابن عامر. اقسم بأنك ناقم علي الان، وانك غاضب على تصرفاتي، ولكن فوق كل هذا، اقسم أيضا انك تتمنى ان تفتح قلبك لتخبئني فيه، وانك اشد حزنا من مالك في هذه الليلة، لكنه قدري، وليس هناك من يستطيع الفكاك من قدره.

    وأنت يا أختاه، يا صنو الروح وشقيقة القلب، ها أنا أتركك وحيدة، حبات الدموع المنسابة من عينيك كعقد لؤلؤ تكويني في سويداء قلبي، تكويني بعمق صارخ، لكني لست الأخ الوحيد الذي تنتزعه براثنهم من بين أهله، ولن أكون التخير، فهل يكفي هذا عزاء لك؟

    وضعوا القيود في يدي ودفعوني أمامهم بفوهات بنادقهم، كانت المسافة من باب البيت حتى السيارات المصطفة على قمة الطريق مرصوفة بالجنود، وكذلك أسطح المنازل. رفعوني على أرضية السيارة بغضب، وجلسوا صفين متقابلين وبدأوا يضربون جسدي ببساطيرهم الثقيلة وفوهات بنادقهم الشرهة، وظلوا على ذلك حتى وصلنا باحة المركز، وهناك سحبوني من قدماي بسرعة خاطفة فترنح جسدي على الأرض، وخبط راسي بقوة بحافة حديد السيارة، واندفعوا جميعهم يكيلون لي الركلات والضربات بأعقاب وفوهات البنادق حتى استسلم جسدي للإعياء.

    رفعوني من شعر راسي، قادوني والدماء تنزف من راسي ووجهي للداخل، نزلنا درجات طويلة تحت سطح الأرض، ودخلنا ممرا ضيقا مضاء بأنوار باهتة ثم انعطفنا يسارا فبدا أمامي باب حديدي هائل السماكة، فتحوا الباب فعلى صريره وقذفني احدهم بقدمه فاندفع جسدي داخل الصالة وهويت على الأرض واقفل الباب.

    مرت لحظات قبل ان يفتح الباب ليظهر منه رجل طويل القامة، ضخم الجثة، قاسي النظرات، طويل اليدين، كفة يده كخف جمل جاب الصحراء ألف مرة. حدجني بعينيه، ضرب كفيه ببعضهما فعلا دوي هائل تردد صداه في الصالة، تقدم وهو يفرك يديه بفخذيه وأطبق يديه على كتفي بشدة، شعرت بانهما ينخلعان من جسدي، شدد الضغط، وشدد حتى استنفذ كل طاقته وقوته. تقوست قدماي وبدأ جسدي بالهبوط ببطء وما كاد يلامس الأرض حتى رفعني بقوة وخفة شديدتين، ولطمني بكل عزمه على وجهي فطار جسدي كريشة ليصطدم بالحائط المقابل ويرتد نحوه بسقطة قوية على الأرض.

    رفعني مرة أخرى، أطبق بيديه تحت إبطي، غامت الدنيا أمامي، وترنحت أناتي بصدري وفقدت توازني حين سدد لوجهي لطمة جديدة صدمتني بالحائط واسقطتني ارضا من جديد، انتشلني بخفيه الضخمتين واسندني إلى الجدار، وبصوت عميق كأنه آت من أعماق مغارة سحيقة صرخ:
    - اخلع ملابسك.
    حدقت فيه بدهشة واستغراب وكأني لم اسمع ما قاله، اقترب مني حتى كاد يلامس جسدي، وضع خفيه على وجنتي وبسرعة البرق رفعهما واعادهما بصفعة هائلة على أذني، هويت نحو الحائط متكوما كجذع نخلة خاوية، سحبني من أذني وألصقني بالحائط وقال هامسا:
    - حين اطلب منك ان تخلع ملابسك، عليك ان تخلعها وبسرعة. عانيت كثيرا كي ارفع عيني في وجهه، قلت بصوت متقطع متحشرج من شدة الإعياء:
    - كيف اخلعها وأنا موثوق اليدين؟ أدار المفتاح بالأغلال وسحبها من يدي ناظرا إلي باستعلاء وتقزز ظاهرين.
    - \"اخلع ملابسك بسرعة\". خلعت القميص والشباح، صرخ بي ان اخلع البنطال والسروال الداخلي. \" رفضت\". استشاط غيظا وانهال علي باللكمات والركلات وهو يصرخ طالبا المعونة، فدخل ثلاثة آخرون يحملون السياط والعصي، اجتمع علي أربعتهم بكل عزمهم وقوتهم، وبكل عزم سياطهم وقوة عصيهم، وغصت في دوامة الإنهاك.

    لم اعرف ماذا حصل، كل ما اذكره انني وجدت نفسي موثقا بسلسلة معلقة في سقف الصالة، أما يداي فكانتا من اثر التعليق أشبه بجوربين معلقين على حبل في يوم عاصف. أمسكت بكف يدي اليمنى طرف السلسة من فوق الرسغ، وشددت جسمي للأعلى كي أريح يدي اليسرى ثوان معدودة، وحين اشتد الألم في اليد اليمنى عكست الأمر، وعاودت الكرة مرة أخرى، وهكذا.


    الفهرس

    لا يوجد

  2. #2
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    المشاركات : 3,415
    المواضيع : 107
    الردود : 3415
    المعدل اليومي : 0.50

    افتراضي

    لا أستطع أمام هذا الألم وذاك الصبر وتلك المحنة القاسية ، والتي يعاني منها أهلينا وذوينا ...
    إلا أن أقول :

    حسبي الله ونعم الوكيل

    حسبي الله ونعم الوكيل

  3. #3
    الصورة الرمزية عادل العاني مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    المشاركات : 7,783
    المواضيع : 246
    الردود : 7783
    المعدل اليومي : 1.13

    افتراضي

    الأخ الأديب مأمون

    مرحبا بك في واحة الأدب ,

    مرحبا بإبداعك وتألقك.

    مررت عليها , وعشت لحظاتها.

    ملحوظة بسيطة :
    "والجسد الملوح بالسياط والعصي والتعب منتصبا كشجرة حور عملاقة"

    منتصبا حكمها الرفع خبر للمبتدأ الجسد

    "وهناك سحبوني من قدماي"

    قدماي حكمها الخفض ( قدميَّ ) مجرورة بحرف الجر.

    وتقبل خالص تحياتي وتقديري

  4. #4
    الصورة الرمزية أسماء حرمة الله شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : على أجنحــةِ حُلُــم ..
    المشاركات : 3,877
    المواضيع : 95
    الردود : 3877
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي تحية ورد

    سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته

    تحية مكتوبة برحيق البنفسج

    الأخ المبدع مأمون،

    أين أنتَ مبدعنا وكاتبنا الذي ينسج من الحرف ثورة، ومن الألـم مدائنَ أمل؟؟نفتقدك كثيرا أخي مأمون، فهلاّ عدتَ إلى أهلك وواحتك؟؟
    ككل كتاباتك السابقة، تنسج حروفاً مضمّخة بالحزن والجراح، وتصف عذابات أمّة ترزح تحت نير الاستعمار والمحتل الغاشم، لكن شمس الحرية ستشرق قريباً على ضفاف فلسطيننا وعراقنا وكل وطن مسلوب..وليس ذلك على اللـه بعزيز..
    اصبر وماصبرك إلا باللـه، جرحك وجرحنا واحد..
    -----
    لماذا "لا تبكين" يا أمي؟
    ولن أكون "التخير": أظنك قصدتَ "الأخير"
    فتحوا الباب "فَعَلاَ" صريرُه

    أدعوك للمشاركة بالمسابقة الأدبية التي تمّ الإعلان عنها بهذا الرابط:

    https://www.rabitat-alwaha.net/molta...4&page=1&pp=10

    بانتظار هطول حروفك وعودتك القريبة
    دمتَ لنا
    تقبل مني خالص تحياتي وتقديري واعتزازي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    وألف باقة من الورد والمطر

  5. #5
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2003
    المشاركات : 5,436
    المواضيع : 115
    الردود : 5436
    المعدل اليومي : 0.71

    افتراضي

    قرأتها و قرأت فيها كل ألم ينبت في جسد طلاب الحرية و العتق ، و تحسست ذاك الوجع المزهر على أفانين شجرة لا تسقى إلا بالدماء .

    أديب بارع لا ريب من يكتب حرفاً يصف الأسر أشكالاً و ألوأناً هكذه . مررت و أنا أظنني الوحيدة فإذا خير الصحب كلهم هنا معجبين .

    همزات القطع تفلتت من بين يديك أيها الفاضل ، ليتك تراعيها في المرات القادمات .

    تحية كبيرة .

  6. #6
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,209
    المواضيع : 318
    الردود : 21209
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ما زال لي عقل، إذن ما زلت حرا، ولن تستطيعوا سلب عقلي، آلات تعذيبكم، بطشكم، همجيتكم.
    كل هذه الأمور لن تغير شيئا لأنني الأقوى، الأقوى، نعم، ليس بجسدي، بل بعقلي.

    معاناة الأسرى في سجون الإحتلال وعذاب لا ينتهي
    شباب خلقوا من رحم امهات أرضعنهم لبن الحرية والجهاد، ليتم الزج بهم في السجون
    لتبدد قضبان وأغلال السجون براءتهم وتبدأ رحلة عذابهم منذ لحظة أسرهم.
    على الرغم من ذلك نبقى على يقين من أن الأسرى لم ييأسوا ولن ينال الإحباط من نفسيتهم
    لأنهم أبطالٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
    بوركت ـ وسلمت الأنامل. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. ولاده " 3"
    بواسطة مأمون احمد مصطفى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 27-09-2016, 09:51 PM
  2. "في أثناء" و"أثناء".. تعارض لجنة "المعجم الوسيط" مع قرار مؤتمر المجمع المصري
    بواسطة فريد البيدق في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-09-2010, 06:06 PM
  3. صيغة "افتعل" مطبقة الفاء وداليتها وزائيتها وذاليتها .. ملتقى "الأصوات" و"الصرف"
    بواسطة فريد البيدق في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 20-03-2010, 04:00 PM
  4. مجرد""""كلمة"""""ترفع فيك أو تحطمك........!
    بواسطة أحمد محمد الفوال في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-05-2009, 11:27 AM
  5. ولاده "2"
    بواسطة مأمون احمد مصطفى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 21-02-2006, 11:28 AM