مالي و للماضي ؟....
ما للماضي يكبلني .. يجرجرني نحو الأعماق ؟
صور تضارب في ذاكرتي الضحلة- شمعات تضيء و تنطفئ....
ضحكات ترتفع ثم تذوي- دمعات تمطر ليلا على انفراد...
لا يجب أن يعرف بأمرها أحد و لا أن يجففها أحد ...
ممنوعة من البكاء أمام الآخرين- ممنوعة من التعبير- ممنوعة من الشكوى-
فبكاء الأطفال مزعج و تعابيرهم و شكواهم مقلقة و لا يحفل بها أحد ...
اشبتسمي لتكون الصورة أحلى .. اِنضبطي ليكون الوضع أكثر توازنا .. سيري على الصراط مستقيمة
يمنع أن تتمايلي... لا تحركي مفاصلك عند السير.. من الأحسن ألا تلتفي وراءك
و ألا ترفعي رأسك، لا تحدقي... أصمتي... تكلمي... كوني... لا ينبغي أن تكوني...
اِبتعدي عن هذا العالم..
تقوقعي... عيشي في الظلام... اِصنعي لنفسك عالما خاصا بك و أحلاما خاصة بك...
اِغتالي مشاعرك بنفسك... تنزهي عن مغريات الحياة-
لا تنسي أنك أمانة و الأمانة غالية.
الأمانة أفقدت الغراب بياض ريشه.
الأمانة دمرت الغراب- حطمته... قتلت فيه النقاء...
صار الغراب وراءها- أمامها- بجانبها...
سكنها الغراب و صارت تأتمر بأوامره
..........
كلمات لم يقلها أحد
صاغتها هي من خيالها
طُبعت في ذاكرتها، فتفشّت في كل خلية من خلاياها المتعبة
"أمانة على ملك الغير لا تملك من أمر نفسها شيئا" ...
قواعد و تقاليد شلّت كل ذرة فيها- صنعت منها إنسانا آليا وقعت برمجته بأيدي خبيرة- استماتت في هذا الوضع- فهي معروفة بهشاشتها... الصمت يؤثر فيها لأبلغ الحدود، و قد تلقت كل هذه الأوامر بصمت و طبقتها بصمت، دون تساؤل..
لم تشأ أن تخدش بياض حياتها، ففضلت أن تعيش على الهامش أو ربما فضلت ألا تعيش على الإطلاق.
تجمد كل شيء فيها.. ومات كل إحساس داخلها، فتوقف زمنها في مرحلة واحدة...
هي تذكر أنها لطالما تجرأت و عبرت عن مشاعرها على ورقة بيضاء.. بقلم حبر.. و لطالما سكبت الماء على هذه الورقة
قائلة: ذهبت كل مشاعري مع الماء،
ثم كانت تمزق الورقة إربا إربا و ترميها قائلة: ذهبت مشاعري أدراج الرياح
كانت تجد متعة في هذه الطريقة، فقد كانت تستجيب لنداء القيد داخلها .
.....
....
ما للماضي يحاصرني، يتنفسني حتى آخر ذرة من مسام جلدي،
يعيش بي و أتلاشى به، فأصبح ركاما من الفراغ، الصدى يسمعني ألحانا عذبة تجعلني أنتشي و تنسيني جميع الأطر،
فينتفي الزمان و المكان و الآخرون و تنضوي كل الأحداث تحت منطقة النسيان-
لكن تلك الصور الباهتة من الأبيض والأسود ترفض التلاشي... تفرض نفسها بقوة فتحتل منطقة الواقع
مشاهد تتراقص أمامها رقصة مجنونة فتقترب و تبتعد- تتضح ثم تذوي؛
أب جالس على كرسي من الخشب و ملامح الطيبة تغمر وجهه، ابتسامته ساحرة و نظراته عميقة
لباسه أبيض، جبة وبرنس نسجته أيدي الأم بخبرة يقل نظيرها في تلك الأيام...
لطالما تباهت و تفاخرت أمام الأقارب كلما امتدح أحد برنسه...
كان طويلا جدا مستقيما في مشيته مع هيبة و وقار يظهران للرائي من أول وهلة،
شعر أبيض يغطيه طربوش أحمر..
تراه متكئا و الصفاء يعلو محياه، يصفق فتأتيه جريا لتلبي طلبه فيدس في يدها الصغيرة بعض المليمات تشتري بها ما تشتهيه
لقد أحبها كثيرا فقد كانت الأخيرةو الأثيرة..
كانت تحس و تشعر و لا تفكر-
لقد كانت... تحيا... كانت تحيا فعلا...
و لم تكن... تتظاهر بالحياة...
كانت موجودة، و كان لوجودها معنى مميز.
.........
.....
صورة رحيله اقترنت بازدحام في المنزل ذي الغرف الثلاثة.
سبق الحدث حلم للأم- أتقنت تفسيره و عرفت مراميه.
ذات خميس حين كانت في المدرسة، في الأيام الأخيرة من السنة الدراسية أتاها خبر الرحيل لم تهتزّ كثيرا للأمر لأنها أحست بالخجل من أي تصرف ستقدم عليه.
شاءت أن تجري- أن تبكي- أن تصيح أن تعبّر عن إحساسها كأي طفلة تتلقى خبر رحيل والدها.
لكنها لم تقدر-----
نداء القيد داخلها أخرس مشاعرها و لم يفقدها توازنها
كانت طفلة متوازنة!!!!!
أصوات الحاضرات مازالت ترن في أذنها مازالت تطاردها.
قد كانت واقفة في البهو
و روائح طعام تنبعث من المطبخ، اختلطت الروائح بالعويل فأعطت طعما كريها، طعما أقرفها "لاأحب أن آكل لحم أبي "
.........
و اقترن الموت في ذهنها بتلك الرائحة المنبوذة.
كان النسوة يتلقفنها ليقبلنها فتكون محركا سخيا لأشجانهن و دموعهن و عويلهن-
يحتضنها بالتوالي فتختنق بروائح النحيب من صدورهن المتألمة
خانتها دموعها ذلك الوقت، فالأمر أقوى من احتمالها، أقوى من توازنها!!
بنت في السابعة من عمرها لا يمكن لها أن تستوعب أمر الرحيل الأبدي، لكن حالة الفوضى في ذلك المنزل هي التي أرهبتها
و أشعرتها بالفراغ، أشعرتها بضياع الأمان
و كان لابد من الوداع ـ الوداع الأخير
دعيت هي و كل أفراد العائلة لغرفة واسعة، كان فيها والدها مسجى، يحيط به الأهل
كانت لحظة الوداع خاطفة، قبلت والدها على جبينه قبلة واحدة،
قبلة يتيمة، كم ظلت تعاتب نفسها طول عمرها لأنها لم تطل لحظة التوديع،
خافت أن ينهرها أحد الأقارب، أحد العارفين بالقواعد و القوانين..
قبلة واحدة- لاتزعجيه- لا تقلقي راحته- لا تحرقيه بدموعك- واحدة فقط.... واحدة تكفي للذكرى.....
نفس الابتسامة تعلو محياه، كان كالملاك نقاء و طيبة
شاءت احتضانه تمنت لو تضع رأسها على صدره الحنون لتبكي و تقول ما يختلج في قلبها المنهك من ألم يعتصرها. لكنها استجابت للأوامر- للأوامر الصامتة .....
لطالما تمنى والدها أن يدفن يوم الجمعة و كان له ما أراد وتمنى
.........
........
لم يدم حزنها طويلا.. و عادت الحياة عادية بالنسبة لها..
لم تكن تؤرقها إلا الأيام الأولى من كل سنة دراسية..
يأتي مديرمدرستها ليعرف عدد اليتامى بالفصل فكانت ترفع إصبعها و تحس أنها مختلفة عن الآخرين.. كانت تنزعج كثيرا من هذه الإحصائية.. حتى أنها كانت ترسم ابتسامة شاردة على محياها.. ابتسامة بلهاء رافقتها طوال حياتها
كل ذلك حتى لا يكتشف أحد أن كيانها مبتور
.................................................. ......................................
بعد الرحيل تكررت تحت مسامعها عبارة : "الأمانة" فالأم طيبة لدرجة أن الأمانة كانت ثقيلة على عاتقها..
إناث ستة وولدان هم كل ما خرجت به من ذكراها معه ..
ترعرع إحساس بالخوف داخل كل فرد.. خوف من الآتي و من الآخرين..خوف صامت من ضياع الأمانة
...........
مرت السنون رتيبة داخل المنزل..
لكنها اختارت لنفسها حياة أخرى
دفنت همومها في اللعب.. وجدت في الطفولة مهربا من الأحزان . عالمها كان يرفض الألم و الدموع..
تمردت على واقعها الحقيقي بالهروب فعاشت على هامش السنين .
أخرست نداء العاطفة داخلها، فالأطفال لا يحبون و لا يكرهون، الأطفال أبرياء،
لا تشدهم أمور الدنيا و تفاهات التافهين .
ربما اتخذت هذا المسار للمحافظة على الأمانة داخلها، فحنطت كل أحاسيسها أو ربما استغنت عنها، وظلت تقنع نفسها بأن لا حق لها فيها..
فلتفكر كالأطفال و لتعش كالأطفال و لتنبذ كل ما يزحزحها عن عالم الأطفال...