دكتور عثمان قدري مكانسي
للصدق أمارات ، وللكذب علامات . ولعل الشك في الصدق ينجم عن دواعٍ من أهمها :
- عدم القناعة بما نرى ونسمع ، وقد يكون الحديث – مثلاً - غير منطقي دلت عليه قرائن قوية . فهذا شاعر شيخ ، بلغ من العمر أرذله ، تقول له امرأته أو جارته أو إحدى الطامعات بماله أو بجاهه : أحبك . وقد تحلف الإَيمان وتغلظ فيها . .. فيجيبها من أعماق نفسه الحزينة لمعرفته وخبرته بالأمور أنت غير صادقة . ويدلل على ذلك بقوله :
قالت : أحبك . قلتُ : كاذبةٌ = غُرّي بذا مَن ليس ينتقـِدُ
هـذا الـكـلامُ لســتُ أقـبـلـه = الشيـخُ لـيس يحبه أحـد
سـيّـانِ قـولُـك ذا وقـولُـك: = إن الريحً نعقدها فتنعقدُ
أو أن تقولي الشمسُ باردةٌ = أو أن تقولي البردُ يتّقِـدُ
فحبها إياه – لأنه شيخ هرم – كذب ودجل ، لا يمكن تصديقه ، وأنّى لصبية في مقتبل العمر أن تحب عجوزاً أكل الدهر على أيامه وشرب ، وبينه وبين القبر خطوة أو خطُوات . ولماذا تحبه وليس فيه ما ترغبه الفتاة في مقتبل عمرها من حب مشبوب ، وأمل مطلوب ، وعيش مرغوب ؟ .
- الخبرة الحيوية التي اكتسبها الإنسان في أيامه سواء مارسها وعاينها بنفسه أم سمعها من أصحاب الخبرة وأولي الفهم والدراية .. فهذا شاعر آخر عاين وعايش ووصل بقناعته إلى أن النساء لا يتقربن إلى الرجل إلا حين يجدن فيه صفتين أو إحداهما ليس غير ، يقول هذا الشاعر :
فـإن تسألوني في الـنساء فإننـي = عليـمٌ بأدواء النسـاء طبيـبٌ
إذا شاب شعر المرء أو قلّ مالُه = فليس له في وُدّهنّ نصيبٌ
وقد وصل الرجل إلى هذه القناعة بالمشاهدة والمعاينة ، فصاغها بيتين من الشعر بلغا الآفاق . وصارا مضرب المثل . إن المال والشباب أو أحدهما على الأقل يدفعان المرأة إلى الرضا أو القبول بالرجل .
- ولعل الخوف والفزع يجعلان صاحبهما يشك في الأمر العادي الذي اصطلح عليه الآخرون واعتادوه . فهذا الشاعر ابن نباتة المصري لا يركب السفينة ولا يدنو من الماء على الرغم أن الملايين تتخذ البحار والأنهار طرقاً للتجارة والأسفار ويفضلون ركوب الماء على السفر في البر .. وللشاعر فلسفته الخاصة التي اقتنع بها ودعا إليها :
لا أركب البحر ، أخشـ = ى عليّ منـه المعـاطبْ
طيـنٌ أنـا ، وهـو مـاء = والطين في الماء ذائبْ
الإنسان مخلوق من طين سريع الذوبان في الماء !! فلمَ يغامر ويخاطر؟! خير له أن يطول طريقه أضعافاً في البر الآمن ولا يزج نفسه فيما لا تُحمد عقباه .
- تزيين الخطأ والتنفير من الصواب - وسمّها " الوسوسة " إن شئت - تقلب المفاهيم ، وتدفع إلى مخالفة الحقيقة ومجافاة الصواب . وأكبر دليل على ذلك ما يفعله إبليس وأعوانه من إغراء وقلب للحقائق فينفث وسوسته ، ويديم الراجعة ويزين الباطل فيجرف بأسلوبه هذا غالب الناس ، ويحرفهم إلى الغواية " فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين " " ... ثمّ لآتيَنّهم من بين أيديهم ، وعن أَيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين "
لا تتغيّر الحقائق ، لكنّ المفاهيم هي التي تتغيّر .
والنواميس ثابتة ، والأهواء هي التي تتبدّل .