أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الكشف الثانى..قصة قصيرة..سعيد سالم

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 81
    المشاركات : 6
    المواضيع : 3
    الردود : 6
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي الكشف الثانى..قصة قصيرة..سعيد سالم

    الكشف الثــــانى
    قصة قصيرة...سعيد ســالم
    •مقدمة:
    سبق لى أن تيقنت من كشفى الأول-الذى وقعت عليه وأنا فى ذروة المجاهدة-أنه ليس هناك يقين لاشك فيه أشبه بشك لايقين فيه أكثر مما نحن فيه، وأن اللعبة لاتساوى مايحمل على الكاهل من هموم..وإذا بى أقع من بعد ذلك فى مقام الشكر على الكشف الثانى. ورغم أننى توصلت اليه متأخرا إذ سبقنى اليه كثير من الخلق، إلا أنه كان فضلا من الله عظيما.
    *****
    • والسارق والسارقة..
    الشاطر من ينجح فى الاتجار مع السوريين ، وأنا أدعى الشطارة إذ وفقت فى الحصول على أرباح طائلة من تجارتى مع الحاج"موعد الحلبى" على مدى أعوام ثلاثة.لكنه فى الآونة الأخيرة لم يكن منصفا معى-حسب تقديرى- فيما اشتركنا فيه من تجارة.تعجبت من تغيره المفاجىء وتساءلت لماذا يطمع الإنسان فى حق غيره ويغتصبه لنفسه. لم أفكر فى فض مابيننا من شراكة،فلم يكن ذلك فى صالحى.قبلت ما اعتقدت أنه ظلم منه، راضيا بنصيبى ولكن على مضض،متعللا بإمكانية أن يهديه الله يوما الى إحقاق الحق فيصحو ضميره ويعود الى سابق عدله .
    لم يبدأ تحوله عن طبعه القديم إلا بعد أن تزوج من حرباء متلونة استولت على قلبه بصغر سنها وفتنتها الطاغية، فصار عبدا طائعا لرغباتها التى لاتقف عند حد، وهو الأرمل الذى غاب يعانى آلام الوحدة لسنوات عديدة بعد وفاة زوجته وأم ابنه الوحيد.
    كان يفضى الىّ بأسراره ويبثنى نجواه فى بعض لحظات الخلوة النادرة بيننا بعيدا عن عالم التجارة..يشوب سعادته قلق دفين تتغذى جذوره على فتنته بزوجته..فى الظاهر هو عبد أسير لها، وفى الباطن هو رافض متمرد، لكنه عاجز عن المقاومة، مستسلم لقدره فى خنوع..تروح عليه نوبات القلق وتجىء، لكن التحول أصبح أمرا واقعا لاحيلة له فيه..فيما همست لى نفسى بأن الذى يسرقنى فى الحقيقة ليس هو موعد الحلبى، وإنما زوجته الحسناء، ومنزلة الشيطان للنفس كمنزلة الملك للروح.
    اتفق فى يوم أنه كان على كل منا أن يؤدى عملا محددا فى مكان يبعد عن الآخر بآلاف الأميال.قام موعد بعقد صفقة هامة فى بلدة أوروبية، وكانت طائرة العودة على وشك الوصول الى دمشق.أما أنا فكنت أجلس الى مكتب أحد العملاء وقد تسلمت منه مبلغا كبيرا لقاء بضاعة اشتراها منا.
    من المطار هاتفنى الحاج موعد مؤكدا على أنه فى الطريق الى الفندق الذى أقيم به-خلال ترددى على دمشق- ليتسلم حصته من المبلغ.
    ليلة سفره الى أوروبا كان قلقا متوترا لأنه لن يكون بمقدوره ملازمتى أمام العميل فى الموعد المتفق عليه..قالها فى سقطة من سقطات لسانه وكأنه من داخله على ثقة من أننى سأخدعه بشكل أو بآخر، الأمر الذى لم يرد على خاطرى لحظة واحدة. كانت الشراكة مناصفة والربح بالتالى مناصفة، ففيم الغش أو الخداع؟!..تعجبت من إصراره على تسلم حصته فى التو واللحظة دون أن يفكر فى أن يستريح ولو قليلا من عناء السفر، فالدنيا لن تطير،وماله فى عهدتى حتى نلتقى، والعميل لن يخفى عنه الحقيقة سواء فى حضورى أو فى غيابى.
    على أية حال فإن مكالمته الثانية قد حسمت الموقف تماما..ويبدو أنه مات متأثرا بالحادث بعد دقائق قليلة من انتهائها.قال لى وهو يبكى ويئن فى هستيرية:
    - صدام مخيف..سأموت ياحسن..ابحث عن إبنى فوزى وأرسله لى بسرعة
    كرر نفس العبارة أكثر من مرة ثم حاول أن يقول شيئا آخر-أغلب ظنى أنه يتعلق بالصفقة- ولكن أجله لم يسعفه..صحيح أننى عرفت منه – بصعوبة- مكان الحادث، لكنى لست أعرف أين يستقر فوزى وهو كثير السفر والتجوال بين البلاد العربية لدواعى تجارته المستقلة عن أبيه.
    فى مجلس العزاء العائلى كانت أرملته تصب فى وجهى نظرات نارية تنطق بالتساؤل والوعيد..كأنها لاتتورع عن انتهاك قداسة الموت لتسألنى عن حصة زوجها وتحذرنى أن أخفى عنها الحقيقة ، مؤكدة أن زوجها الراحل لم يكن يخفى عنها شيئا.
    انتهى عملى فى دمشق،وبذلت جهدا خارقا فى البحث عن فوزى دون جدوى...وهى تودعنى باكية سألتنى فى حياد منفصل عن حزنها تماما:
    - متى تعود الى مصر؟
    - خلال أيام قلائل بإذن الله
    - من الضرورى أن أراك قبل أن تسافر
    لم أستطع أن أتبين سببا يدعوها الى ماقالته سوى مطالبتها بنصيب زوجها من الصفقة الأخيرة.
    فى الفندق تناولت العشاء وشاهدت فيلما رومانسيا رائعا أخرجنى من حزنى على رفيق تجارتى المسكين.قبل أن أشعر بالرغبة فى النوم عاودت التفكير فى الأمر.أحضرت ورقة وقلما ورحت أحصى عدد الصفقات التى ظلمنى فيها موعد،أو التىسرقنى فيها موعد،أو التى سرقتنى فيها زوجة موعد. كتبت قيما تقديرية منصفة-حسب تقديرى-للمبالغ المستحقة لى والتى لم أتقاضاها منه منذ تحوله الأخير.كان مجموع هذه القيم مساويا على وجه التقريب لقيمة نصيبه من الصفقة..أمعنت التفكير بالأمر مجمدا مشاعرى مطلقا العنان لعقلى وحده..موعد لم يسرقنى وإنماسرقتنى هذه الصبية المراوغة.
    فى الصباح الباكر عاودت الاتصال بى،لكنى كنت قد اتخذت قرارى فلم أعبأ بشىء.فى الطائرة أفرغت كأسى الأخيرة فى جوفى دفعة واحدة وأدركنى انشراح وانبساط بعد أن فارقنى الشعور بالذنب.ظننت أننى أعدل إنسان على وجه الأرض،فالعين بالعين والسن بالسن، وأنا لم أسرق الحلبى بل استعدت مسروقاتى من السارقة الحقيقية، والله يوجد العطاء من عدم أما البشر فيوجده من موجود.
    لاأستطيع إنكار أن ما وجد بين يدى مشتبه فى أمره،وأن هذه الحقيقة ظلت تناوشنى فى ليلتى ونهارى،فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات..هأنا ألعب فى منطقة الشبهات، أو هكذا ارتضيت لنفسى فاستصغرت ذنبى حتى تضاءل متناسيا اجتماع محقرات الذنوب على الرجل حتى تهلكه.. رغم ذلك فقد راجعت ظنى بأننى أعدل انسان على وجه الأرض لمعرفتى أننى لست بالفعل كذلك، والنفس عمياء عن عيوبها بصيرة بعيوب غيرها.
    بعد مضى أيام قليلة فوجئت بفوزى يطرق باب بيتى فى الاسكندرية. عندما رأيته سمعت صوت اصطدام الخير بالشر فأصابنى ارتباك لم أقو على السيطرة عليه.
    - مال أبى أمانة فى عنقك
    كرهت أن يطلع مخلوق على مابنفسى،فمتى أعلمه أبوه بالأمر وهو الذى لم يحضر موتته كما لم يحضر جنازته؟..هل تراءى له فى المنام أننى مدين لأبيه، وأن أباه قد أخطره بقيمة المبلغ من برزخه حتى آخر دولار أمريكى فجاء يطالبنى به؟..
    لم أفكر بالأمر قليلا أو كثيرا..فتحت كالمنوم خزانتى وسلمته حق أبيه كاملا دون أن أجد كلاما أقوله عن أى شىء.
    *****
    • فطوعت له نفسه قتل أخيه..
    على ما أذكر أننى كنت فى حوالى العاشرة ، حين تجرأت فأبديت رأيا مخالفا لرأى الأستاذ خليل فىموضوع لامجال لذكره.أهم ما فى الأمر أننى كنت سعيدابقدرتى على المجادلة ومقارعة الحجة بالحجة،وكنت واثقا أننى سألفت أنظار زملائى فى الفصل وسوف أكون محل إعجاب الأستاذ وتقديره لتميزى وجرأتى وشجاعتى الأدبية.أما الذى حدث فقد أصابنى بصدمة لاأشك أن آثارها مازالت عالقة بنفسى حتى الآن..لقد سخر منى وجعلنى أمثولة أمام زملائى حين قبض بيمناه على ملابسى من جهة الظهر ورفعنى بيد واحدة الى أعلا كعملاق يرفع قزما،وهو يصيح هازئا:
    -أنظروا وتعجبوا..هذا الهلفوت يعارضنى ويقول بغير ماأقول
    ثم قذف بى الى الأرض فى مواجهة السبورة . كانت المرة الأولى فى حياتى التى أتجرع فيها غصة العبودية والإذلال..وابتلعت فى ذهولى أولى تساؤلاتى البريئة الخضراء حول مفهوم الحرية.
    لم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد ظل الأستاذ خليل يعاملنى بعداء مستتر وإن فضحته لى عيناه الضيقتان المنطفئتان. قرأت فى أغوارهما رغبة حارقة فى الثأر منى..وجاءته الفرصة على طبق من ذهب حين قال لنا بغلظة:
    - من لم يدفع المصروفات يقف
    كنت أول الواقفين. أشار لنا-دون أن ينطق- بسبابة يمناه فى عجرفة بشعة الى باب الفصل وهو يفتحه بلذة سادية. ابتسم لى فى شماتة عجزت عن فهم دوافعها ولكنى لم أنسها أبدا.
    كنت أول الخارجين، لكنه استبقانى دونا عنهم وقال لى متشفيا:
    - ولك عين تتبجح فى أستاذك؟!..
    كان ردى عليه صاعقا ، فقد انخرطت على مدى عمرى كله فى أكثر من تجمع وطنى، وتناوبت سنواتى بين تحقير وتكريم وانتصارات وهزائم، من دون أن تفارق صورته ذهنى ، أو أن أتراجع يوما عن الجهر برأيى مهما كان الثمن، فحرية الرأى لاتكون حرية إلا بالبوح بالقول، وأنا مازلت أبوح حتى اليوم.
    كنت أتمنى دوما أن أراه يوما حتى أعرف إن كان مازال متحجرا عند موقفه اللاانسانى من الرأى الآخر، أم أنه قد ارتقى بفهمه فصار أكثر تحضرا ورحمة.
    تحققت أمنيتى بينما أنا جالس على الشاطىء فى لباس البحر. رأيته وسط مجموعة من أصدقائه يتباهى بقدرته المزعومة على تجاوز خط البراميل المحظورة من بعده السباحة لكثرة الدوامات المائية.. رغم أنه قارب الخمسين إلا أن إمارات الكبر والعجب كانت متسلطة عليه كعادته، وكأن الزمن لم يغير فيه شيئا.
    نزلوا جميعا فنزلت وراءهم سعيا للمواجهة المرتقبة التى تأجلت طويلا.عند البراميل توقف أصدقاؤه، أما هو فتجاوز الخط الى مسافة بعيدة فتبعته دون أن يلحظنى. لكن حالى تبدل تماما، فلم يعد يعنينى من أمر المواجهة شيئا بقدر تحقيق رغبة حبيسة خبيثة راودتنى فى الانتقام منه ورد إساءته أضعافا مضاعفة.
    الفرصة ميسرة، وأنا أجيد السباحة منذ طفولتى عن سابق تدريب وخبرة وتجربة ، وقد سبق لى أن أنقذت مرة غريقا من الموت..أصبحت المسافة بيننا أمتارا قليلة. رأيت أبى الراحل وهو يكاد يبكى لورطته المالية التى أفلسته فعجز حتى عن سداد مصروفات أبنائه، وكان الأستاذ خليل يصارع دوامة تشده الى قاع البحر.يطفو ثم يغطس.يجدف بيديه يمينا ويسارا بغير اتزان فى فزع هستيرى. رأيته يغرق أمامى، ولم يكن الوقت مناسبا لأتحدث معه عن الحرية، أو حتى لاختبار قدرتى السابقة على انقاذ غريق، وقد أفقدتنى السجائر والمكيفات لياقتى الصحية..
    سبحت بعيدا عن الدوامة وغادرت الشاطىء على الفور دون أن أعرف حتى الآن إن كان قد غرق ، أم انه مازال حيا يرزق، ليكره الحرية.
    *****
    • الزانية والزانى..
    الشاليه يقع فى مواجهة البحر مباشرة، وكل شىء فى الكون متألق متوهج مبتهج فى انتظار وصولها.أعددت المشهيات والمشروبات على المائدة، وتركت السمك فى الفرن حتى يحتفظ بسخونته لحين حضورها الذى اقترب موعده.
    لم أجد أحدا أبثه وجدى وشوقى ولهفتى فقلت أحدث نفسى ، فمن أستأمن إن لم أستأمنها على مثل هذا الحديث؟..ولقد تمنيت لو أن الشاعر قد استبدل بالشرح الفضيحة حين قال:
    لاتخف مافعلت بك الأشواق/ واشرح هواك فكلنا عشاق
    لتصبح"وافضح هواك فكلنا عشاق"..ذلك أننى استمرأت أن أفضح أمامى هواى وأن أراه وأتفرج عليه وأعريه من سواتر الحرص والتخفى والإخفاء. رغم ذلك فإننى لم أكن صريحا بالقدر الكافى مع نفسى إذ تعمدت إغفال حال محبوبتى فلم أذكر إن كانت فتاة ناضجة أم امرأة متزوجة أم أرمل أم مطلقة.المهم أنها ليلى وكفى، فالحرص واجب من النفس وإذا بليتم فاستتروا.
    انه حب فيه امتداد وعشق فيه اشتداد..والذى قال ان العشق يطلق لسان العيىّ ويفتح جبلة البليد ويسخى قلب البخيل ويبعث على التنظف وتحسين الملبوس وتطييب المطعم، ويدعو الى الحركة والذكاء وشرف اللهفة، هو نفسه الذى قال:"إعشقوا ولكن لاتقربوا الحرام"!!..
    أى التباس هذا الذى أنا فيه واقع؟..فى انجذاب كل منا للآخر سر وجودنا على قيد الحياة، وما اتحادنا وانصهارنا وذوباننا فى وجود واحد إلا مسألة لحظات نفنى من بعدها فى العدم لنكون أكثر استغراقا فى الوجود،فما أجملها من لذة وما ألذه من جمال..وما أشف وأقدس نظرتها الأسيانة تطل من عينيها الحوراوتين.
    عمر علاقتنا ثلاثة أعوام.بدأت بتلاقى الأفكار ثم عبرت بنا جسر المشاعر الرقيق الدقيق فتحدثنا فى الحب بكل لغاته ولم يبق إلا حديث الجسد ، حيثما اتفقت رغبتنا فى النهاية على أن نخوض فيه..كان اتفاقنا على استحياء وخوف وتردد من جانب كل منا تجاه ذاته من جهة،وتجاه الآخر من جهة أخرى، وتعرض الفتن على القلوب عودا عودا كالحصير.
    قلت لنفسى ان اندفاعى نحو ليلى لم يكن وليد هروب من هم ، أو تعويضا لنقص فى حياتى، بقدر ماكان اندفاع عقل نحو عقل وامتزاج فكر بفكر، فطباعنا وأفكارنا تكاد تكون فى كل شىء متفقة بل متطابقة.ولكم كنت أتمنى ألا أشتهيها يوما ولكنى لم أستطع، فالأنثى فيها عالية حتى السماء،وجسدها جمرة مشتعلة بنار الحياة، تصدر عن دفئها أنغاما شجية تذيب الحزن فى الفرح وتدمج الموت فى الحياة.تمنيت أن تظل فى عينىّ تلك الحمامة الوديعة التى اهتدت بالفطرة الى عشها،لتنعم بالهديل الشجى بين جوانبه العطرة بأريج الوجود،ولتسعد بالنوم الهانىء فى دفئه وطمأنينته..غير أن أمنياتى تتبخر فى الهواء بمجرد أن أرى طلعتها وأرقب خطوتها ويضرب قلبى بدقات قلبها ، فنفجر معا فى الكون أنهارا من الحب والعطاء.
    وجدت الانقطاع عنها يشقينى والوصل يشفينى.وجدت قبلاتها تسكرنى وتطير بى الى أعالى النشوة وذرى السرور، فكيف بالله يستطيع أحدنا أن يجهض الحلم بمفرده،أو كيف نستطيع أن نتآزر فى سموّ وترفع لنجهضه معا ، فكل منا يخاف الحرام؟!..
    صار حبى لها بركانا يفور بصدرى بما تلتهب فيه من حمم،ولا أستطيع أن أجد لها متنفسا لايقتلنى أو يقتلها أو يقتلنا معا، والذى يذوق يعرف!
    الفرصة مازالت مواتية.يمكننى الآن –وفورا- أن أغلق الشاليه وأروح فى أى داهية حتى لانتلاقى.يمكننى أن أكتفى بالجلوس معها على الشاطىء ولا أدعها تخطو خطوة واحدة داخل الشاليه،ولتذهب أنوثتها المطعونة حينئذ الى الجحيم،إذ قبلت من حيثما رفضت وجاءت بينما ذهبت..ياشادى الألحان أسمعنا رنة العيدان..ياليتنى لم أكن أنا حتى لاأعانى ذلك الشجو وتلك اللوعة..يا ليتنا كنا وردتان قطتان يمامتان..ياخالق كل الخلق أنعم علىّ بالغوث فأنا عبدك المفطور على الخير بى رغبة جامحة فى أن أعصاك..وعزتك وجلالك لئن لم تعصمنّنى فلن أمتنع.
    انتظرتها طويلا لكنها لم تحضر. على استحياء ودهشة سألتها على الهاتف عن السبب..أصابتها سخونة مفاجئة وانتابها قىء..ومن العصمة ألا تقدر.
    *****
    • الكشف الثــــانى..
    استولت علىّ رغبة قلبية دونها الموت أن أصلى فى الروضة.شعرت بسعادة فوق الوصف عندما علمت أننا سنزور النبى قبل التوجه الى بيت الله.ذلك أن رهبتى من البيت الحرام كانت طاغية كزلزال عتىّ يعصف بكيانى،إذ لا أستطيع تصور قدرتى على الوقوف أمامه دون تمهيد قوى مسبق..وكيف أتجرأ على هيبة المحبوب من قبل أن أزيل أدران الوحشة من قلبى وروحى ، بالتطهر فى نهر محبة الرسول وأنس روضته وجنتها ، وأنا الذى يعرف أن الدخول من باب الطاعة أصعب من الدخول من باب الذل ، فالباب الأول مزدحم بالخلق؟؟؟..يكاد الزحام أن يتحول الى قتال للولوج من مدخل الروضة.مدة زيارة المدينة أربعة أيام.فشلت لثلاثة أيام على التوالى محاولاتى المستميتة للدخول.عقب المحاولة الأخيرة فى اليوم الثالث أصابنى حزن وغم شديدين ، فلم أدر بنفسى وأنا أخرج من باب مخالف للباب الذى اعتدت الخروج منه والذى يقودنى فى يسر الى الفندق.أمضيت مايقرب من ساعات ثلاث تائها ضائعا فى خضم الملايين من البشر الهائمين فى رحمته،حتى أدمى النعل قدمىّ الغارقتين فى العرق لطول الاحتكاك.ليس معى ورقة بها رقم هاتف الفندق أو اسم الشارع الكائن به.كل ما أعرفه هو اسمه فقط.سألت عنه فى كل مكان فلم أهتد اليه.طاف بى سائق عربة أجرة معظم الشوارع المحيطة بالمنطقة ولم أصل اليه. أخيرا أوصلنى الى مركز خدمة التائهين رافضا أن يتقاضى منى أجرا وقال لى:
    - الله يعينك
    كان جل تفكيرى منصبا على حضرةالنبى،وقد أوشكت أن أومن بأنه يرفض زيارتى،فهو من دون شك غاضب منى وأنا الذى لم أستخدم الدنيا لتخدمنى وإنما خدمتها فاستخدمتنى.
    اصطحبنى مرافق الى الفندق حيث قضيت ليلتى بين الحزن والخوف والرجاء والأمل.لم يبق إلا اليوم الرابع والأخير..لقد أمضيت ما يقرب من ستة أشهر أعد نفسى خلالها لهذا اللقاء النفيس بكل ما أوتيت من قدرة على الاطلاع والمثابرة.أيام قلائل حفظت فيها طقوس الحج، أما أعظم الوقت فكان لدراسة شخصية الرسول وسيرته وأفعاله وأقواله ومواقفه،حتى أصبحت مجنونا بالرغبة فى مشاهدته..ولكن آه من هؤلاء الحراس الأشداء الذين يسيطرون على النظام بشدة لاتخلو من غلظة ،فلا يسمحون لى بالدخول،ويحرموننى من نفحات الحب التى أهفو اليها،وينفطر قلبى اشتياقا لأوصافها الإلهية.
    لست ادرى لماذا انتقيت من الحراس أشدهم جفوة وأغلظهم طبعا.توسلت اليه أن يسمح لى بالدخول مؤكدا على أننى لن أمكث طويلا كما يفعل البعض وإنما سأترك الفرصة لغيرى فأصلى وأخرج مباشرة.قال لى برقة مذهلة وكأنه على علم بما يمور بنفسى:
    -إبق هنا..ستدخل ان شاء الله
    فتح الطريق لخروج دفعة من المصلين،ومن بعدها فتح الحارس فرجة ضيقة لدخول دفعة بديلة..كنت أردد فى تذلل ولوعة:"ضاقت حيلتى أدركنى يارسول الله..ضاقت حيلتى أدركنى يا رسول الله"..وإذا بى وفى كسر من اللحظة أجدنى أعوم أو أطير-لست أدرى-فوق هذه المجموعات المتلاحمة من الأكتاف البشرية،حتى رأيت نفسى مقذوفا من بينهم داخل أرجاء الحلم فى قلب الروضة،حين أصابتنى رعدة قوية ورعشة عتية وهزة لاقبل لى بها . انفصلت عن جسدى تماما وانهمرت فى بكاء لم أعرفه فى حياتى من قبل..وكان الكشف الثــانى.
    سعيد سالم
    الاسكندرية 12/2/2006

  2. #2
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    الأخ العزيز سعيد سالم
    تمتاز قصصك بجمالية الأسلوب و سلاسته إذ تأخذ بيد القارئ حتى الكلمة الأخيرة و أنت ترقى به مع تطور الحدث و تناميه و داخل دهاليز الشخصية البشرية و رغائبها المكبوتة و المعلنة في جرأة ملموسة تعترف بالذنب و تطلب التوبة من الرب .
    لم تظهر العلاقة بين الكشفين إلا في ذهن القارئ الذي لا بد أن يفهم أن المذنب في الجرائم الأخلاقية السابقة هو الذي تاب و حاول الصلاة في الروضة الشريفة .
    للكاتب الحرية في اختيار الأسلوب الذي يعالج به القصة المهم أن يصل المضمون إلى القارئ و أنت نجحت في هذا التوصيل عن سابق تصور و تصميم .
    ذكرتني بمحاولاتي اليائسة للصلاة في الروضة الشريفة و حين نجحت تدافع الداخلون فوقي و كدت أختنق .ولم أنجح في المرة الثانية .
    دمت في خير و عطاء

المواضيع المتشابهه

  1. الكشف عن قضية مشينة .. !!
    بواسطة نبيل عودة في المنتدى نُصْرَةُ فِلِسْطِين وَالقُدْسِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-07-2011, 04:46 PM
  2. افتتاح العيادة المجانية " الكشف والعلاج مجانى "
    بواسطة علاء عيسى في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 46
    آخر مشاركة: 13-08-2008, 04:13 PM
  3. يا رب صوتى يعجبكم ( الإصدار الثانى )
    بواسطة محمود موسى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 30-06-2006, 08:04 AM
  4. النقطة..قصة قصيرة..سعيد سالم
    بواسطة سعيد سالم في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 07-02-2006, 07:53 AM
  5. وصية العجوز المنافقة.. الجزء الثانى
    بواسطة د.إسلام المازني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 04-09-2004, 09:26 PM