" اكتبي رسالة للأسير .. فيما لا يتجاوز خمسة عشر سطرا "
هذا ما قالته ، و العلك في فمها كرة بيضاء لزجة .. تستحم بلعابها ، جلَسَتْ على الكرسي أمامنا و هي تمسح ملامحنا بعينين غائرتين ، مرددة بضجر " عينك في ورأتك " ثم شرعت تقرأ في جريدة .
" تك .. تك .. تك "
لا شيء يخترق الصمت سوى تكتكة العلك ، و أزيز المكيفات ، الابتسامات تقطر من الشفاه الصغيرة المتوردة ، متفائلات بسهولة الموضوع الذي اختارته لاختبار التعبير ، الغمزات المتناثرة في حجرة الصف و التمنيات بدرجات عالية عمت الأجواء ، وحدي أنا .. أبدو بعيدة عن كل هذا ، وحدي أنا .. غريبة ، غريبة جدا ، يا أسامة !
الغصة تتكور في حلقي ، أفرد ورقة فارغة ، أستجمع الهارب إليك من خاطرٍ مثقل بالندوب و الدمامل ، بيمنى ترتعش ، سأمزج بالحبر بعض دموعي .. ربما يصبح خطي أجمل !
أسامة ..
مساكين .. هؤلاء الناس ، يظنون بأنهم يشاركوننا فقدكم عندما ينشرون جراحنا .. عارية تحت المطر ، و السماء في الوطن .. تمطر قحطاً !
يؤدون واجبهم تجاه قضيتنا بسذاجة ، بابتذال بشع ، بتلك الشرائط الصفراء التي نعلقها على حقائبنا المدرسية ، ( لن ننساكم ) و الأغنيات ، و صوت أمهاتنا يسيل من التلفاز مختنقا بغصة ضخمة ، غصة عمرها عشر سنوات ، و رحلات خاصة لأبناء الأسرى .. إلى " المدينة الترفيهية " و كأنه قدر أن تلاحقنا الذكرى الأقسى ، أو أن نبقى " غرباء " دائما ، غرباء .. !
على فكرة ..
ما زالت الحقائب المدرسية تحمل على الظهر، و ما زالت كتبنا بثقل الحجارة ، و ما زال طريق الذهاب إلى المدرسة غير مرصوف ..
أبعد الورقة بيأس ، سأرسب في اختبار التعبير حتما ، ثرثرتي أبعد ما تكون عن قضية الأسير ، ربما لأن لي أخا هناك ، بين قضبان اللا عدالة ، أسر عندما كان في التاسعة من عمره ، لا زلت أحاول أن أقنع أمي بأنه قد مات ، سيريحها ذلك ، سيريحني أنا .. بالأحرى ! لكنها دموعها الرافضة للتصديق تخرسني دائما ، أبتلع يأسي و أبقى أنتظر .. عند الشرفة أنتظر .. و أنام على الرخام البارد .. أنتظر عودته المزعومة ..
أمي مريضة يا أسامة ، تعاني من ضعف في القلب ، على عكسها صرتٌ متحجرة ، أطرافي ترتعد بقسوة .. إذ أنا أخط لك هذي السطور ، أحاول باستبسال أن أتماسك .. كي لا أبكي ، لا أدري لماذا .. يجب أن لا أبكي ، و كأن هناك من يصرخ داخل أذني " لا تبكِ ! " قد يكون هذا الصوت الذي أسمعه صوتك .. لذا .. أعتبره أمرا مقدسا .
عنيدة جدا .. لم أتغير .. أحاول أن أكون حجرا .. جبلا .. جدارا .. دولابا كبيرا، أحاول قدر ما أستطيع .. أن أتصنع الصلابة .. و ما أرخصها الدموع .. في بيت الأسير ..! لكنني أعترف .. يا أسامة ، بأنني .. بأنني .. في بعض الأحيان .. أستسلم لسطوتها .. لا أدري ما الذي جعلني أعترف .. تبا ها قد بدأت أذرفها !
ذات أرق .. دخلت غرفتك و الرهبة تملؤني ، أنا في غنى عن إخبارك بأن أمي ما زالت تنظفها كل أسبوع ..
تعطرها .. و تبخرها .. و تغسلها ببعض دموعها ، و دعواتها البيضاء ، تغير ملابسك بشكل دوري ، صار لدينا صندوقا مليئا بالملابس غير المستخدمة ، من سن التاسعة و حتى سن العشرين، أمي حريصة على أن تجد المكان هنا مريحا عندما تعود .. بالأمس اشترت لك سترة جلدية فاخرة ، لما رأيت الذعر في عينيّ أجابت مبررة " الجو بارد "
بدأت مخراً تبحث عن عروس لك ، كلما وجدت فتاة مناسبة قالت " هذي عروس أسامة إن شاء الله" ، أصبح عندها قائمة بأسماء الفتيات اللاتي حظين بإعجابها ، بمرور الأيام .. سعاد تتزوج .. و عايشة تنخطب .. وتضع أمي خطا عريضا على اسم الفتاة التي يتضح أنها ليست من نصيبك ، تتمتم بصوت مخنوق " قسمة و نصيب ! "
أتصدق ..
بالأمس عثرت على شعرتين .. من شعر رأسك .. بين أسنان المشط ، أقمت بتلك المناسبة حفلة ..
حفلة بكاء !
ما جدوى كتابة هذه الرسالة ، بدون زواجل .. بدون عنوان ، اللهم إلا فضح أحزاننا بوقاحة أمام أعين لا تحترم قداستها ! أنا اليوم أكتب لأثرثر ، عازمة على أن أرسب في اختبار التعبير ، أبله مديحه تعرف بأنني الأولى في هذه المادة ، عندما ترى ورقتي مليئة بالثرثرة الفارغة ، و تعطيني – أنا طالبتها المفضلة – الصفر الذي أريد ، ستندم لأنها فتقت جراحي ، لأنها امتهنت قضية إنسانية بهذا الابتذال..
" تك .. تك .. تك "
صوت علكها يضاعف اشمئزازي ..
على فكرة .. وافق أبي أخيرا على شراء طاولة طعام، أتذكر كم كنا نتشاجر حول هذا الموضوع ؟ كنت تقول بأن الأكل على الأرض أفضل .. حتى يتسنى لك اللعب بالكرة داخل المنزل ، و أنا أماريك و أسفه رأيك ، يبدو أنني انتصرت .. و إن كان انتصارا مؤجلا ، و لكنني اكتشفت مؤخراً بأنك على حق ، طاولة الطعام جعلت غرفة الجلوس تبدو أضيق ، عدا أنها لا تبدو على وفاق مع باقي قطع الأثاث ، بدأت مؤخرا أطالب بتغييرها ..
منزلنا قديم جدا، نحاول ترميمه بين الحين و الآخر، نقودنا لا تكفي ، و لكن سمو الأمير يقدم لنا الكثير من العون ، كنت كثيرا ما أحلم بالظهور على شاشة التلفاز ، و بمصافحة سمو الأمير ، لكي أخبره بكلمات طالما أردت قولها له" بابا جابر كم نحن نحبك ! " ، عندما تحقق لي ذلك .. بكيت .. أكلت أصابعي ندما ، آخر ما أريده .. أن أظهر على الملأ .. لأصف لهم فاجعة اختطافك- طفلا - من حضن أمك ، آخر ما أريده .. أن أصافح بابا جابر .. لأن لي أخا أسيرا ، و أجد الدموع تخنق صوتي ، فأعجز عن إخباره بما أريد ، " بابا جابر كم نحن نحبك ! "
أسامة .. أخبرني كيف تبدو ؟ صورتك تقول بأن شعرك أسود .. لا أدري لماذا أتخيلك بشعر بني .. لا أدري من منا على حق ..
كنت في الثامنة عندما رأيتك لآخر مرة .. لن .. و لن .. و لن .. و الله العظيم .. لن يكون هناك أي مبرر ..
لأسر طفل !
آآآآآآآآآآآآه .. سأصمت هنا ، لأنني إذا فكرت في أولئك الضفادع سأملأ الورقة بالشتائم و السباب و اللعان ، قد يجعل ذلك أبله مديحه تصفق لي .. بحرارة ، و تمنحني الدرجة الكاملة !
ما زال يروق لي أن ألقبهم بالضفادع، أو بالجراد ، أتذكر .. مدى الذعر الذي اعترانا عندما رأيناهم بأعداد مهولة .. يجوبون الكويت .. و يعيثون فيها فسادا ؟ كانوا كأسراب الجراد عندما تقتل خضرة العشب ، و كنا كالنمل المذعور ..
الهدوء يملأ غرفة الصف، أكاد لا أسمع غير صوت همسات الأقلام في صدر الورق ، علامات الاندماج واضحة على وجوه البنات ، يكتبن بانهماك و تأثر ، نادية تبدو مضحكة عندما تقطب جبينها ، أراهن بأن أوراقهن مليئة بعبارات .." نحبك .. نفتدك .. لن ننساك " أو " اصمد يا بطل الكويت .. الكويت تنتظر عودتك" أو سيملأن الورقة بالأسئلة الفارغة .. الموغلة في الأسى " هل تأكل ؟ هل تشرب ؟ هل تتغطى جيدا أثناء النوم؟! "
فاطمة تنظر إلي بشفقة .. ترى ورقتي .. مليئة بالشخابيط .. مليئة بالبياض الأسود .. باللاشيء .. وحدها فطوم تفهم ما بي ..
غبية أبله مديحة ، تظن بأنني سأكتب لك كلمة واحدة يا أسامة ، تظن بأنني سأسلمها هذه الثرثرة التي ما كنت لأكتبها إلا لتمضية الوقت ، كيف أسمح لها بأن تقرأ رسالتي .. مشاعري .. دموعي ، ثم تلوث بياضها بقلمها الأحمر ! مشاعري لا تخطئ .. ولا دموعي .. رسالتي هذه ليست للتصويب .. ! حتى أخطائي الإملائية .. يا أبلة ..ليست للتصويب .. !! لماذا يجعلون الأمر بهذه البساطة البشعة ؟!
أبلة مديحة لاحظت ارتباكي ، كثرة التفاتي ..
- عينك في "ورأتك" يا بنت يا سارة !
يااااه .. ما زالت ساذجة ، تفلت العلك في منديل أبيض ، و أخرجت من حقيبتها آخر ، " تك .. تك .. تك "
مرة أخرى ، و كأنها تأبى إلا أن يرافق هذا الإيقاع الرتيب الوجع الأقسى ..
فطوم تنظر إلي بشفقة أكبر ، تهمس : سارة عطيني ورقتك أكتب لك التعبير باقي عشر دقايق بس ! أتصنع الصمم .. ولا أرد .. عشر دقائق فقط .. و ينتهي مهرجان السخف هذا ، ماذا سأكتب ؟ أغنية لمحمد عبده ؟ قصيدة لمحمود درويش ؟ أم أكتب عن حالة الطقس.. و شاعرية الشتاء في الكويت .. و كيف أنه .. يبعث فيّ الرغبة في الاحتضان .. و كيف أنني .. لا أجد من أحتضنه ؟!
دقائق بقيت ، الطالبات يغادرن الصف ، سأغادر أيضا ، سأعطي أبلة مديحة ورقة الاختبار فارغة ، أما بالنسبة لهذه الرسالة التي أكتبها الآن ، فسأدسها في جيبي ..
و بخصوص الصفر الرائع الذي سيزخرف شهادتي غدا ..
كن واثقا بأنني نلت الدرجة الأعلى ..
أحبك كثيرا ..
سارة
11/9/2001
منقول /بثينة العيسى