تمرّد السكون
بقلم / حنان الزريعي
" تحاصرني إملاءاتك بأن أكون غيري ، وأن أطرّز مناديلاً تحمل أحرف اسمك دون غيرك . لكَ الحق بأن لا ألفظ سوى اسمكَ بولهٍ ، لكن هل الحق معك عندما تنحت سعادتي لتحيلها لتمثال جميل المنظر ؛ أصمّ الروح . أين أنا من سعادة أختارها برغبتي ؟ .
اليوم سيأتي هو وأهله لطلب يدي ، واليوم بالذات لا أرى سوى الكآبة قد عانقت روحي . أهو الخوف من خطوتي القادمة ؟ .. أنا .. منذ متى والخوف يحتل مقعد القيادة في حياتي ؟ ، لا .. لست أنا من أخاف الخطو ، هو شيء لا أدري كنهه " .
تركت قلمها جانباً ، أغلقت دفتر مذكراتها على شعور مجهول ، أرادت رؤيته قبل أن يأتي وأهله . اتصلت به ، فرح لسماع صوتها ؛ هذا ما شعرت به ، في حين .. انقبض صدرها لسماع صوته ؛ الذي كانت تعشقه قبل اليوم .
**********
هي شمس الأصيل بعذوبة دفئها وتثاؤبها لاقتراب موعد نومها ؛ من أضفى على تلك اللحظة هذا الخدر اللذيذ . اقتربت منه حيث يجلس تحت ظل شجرة الصنوبر ؛ التي ضمت اسميهما داخل قلب حبٍ رسماه قبل سنة . نهــض عـنـد رؤيتــهــا ، نـفض الغبــــار بســرعــة عــن بنطاله ، ابتســـم لها .. " أتريدين الجلوس ؟ "
- لا .. أريد المشي .
تسايرا جنباً إلى جنب ، سرق أرجحة يدها بين سكون يده ، برودة سرت في جسدها وعيناها غائبتان حيث اللاشيء .
- ما بكِ حياة .. أهناك شيء .. ؟
- لا أدري ما بي .. لكنني أردت فقط الحديث معك .
توقفت ، نظرت إلى عينيه ، كم أحبتهما ؛ للونهما البني دفء منظر أوراق الخريف وقد تدثرت بها الطرقات والحقول ، لكن .. أين هو الذي عشقته بكل جوارحها ، أين هو .. ؟
- لؤي .. ما الذي تعنيه حياة بالنسبة لك ؟
ضحك لؤي ، ربما لو سألته قبل أشهر لأجابها ، لكن اليوم بالذات ! . صرخ هامساً : " إنها تعني لي .. الحياااااة " .
تنهدت بعمقٍ ؛ ليس ارتياحاً لإجابة تعرفها مسبقاً ، بل آهة خرجت لتغسل زوايا تردد بوحها .
- أتذكر تلك الفتاة التي أحبتك قبل عام .. أتذكرني لحظتها .. ؟
- وهل للعاشق أن ينسى أول قطرة عشق تروي قلبه .
أجابها وقد أمسك يديها بقوة ، أفلتتهما من قبضته التي شعـرت بقسوتــهما .. الآن !
استغربت نظراته تصرفها ، سألها : " هناك شيء تودّين قوله .. ما هو ؟ .. ربما ترتاحين لمصارحتي " .
أخفضت عينيها حيث كانت لحظتها تداعب حجراً صغيراً تحت قدميها ، نظرت إليه مجدداً ، ألفته إشارات استفهام تريد إجابة كاملة .
- لؤي .. أعرف أن قرار ارتباطنا قد باركه أهلُكَ ، كوني أصبحت كما تريدون .. لكن ..
تلعثم خطو الكلمات بين شفتيها ، تراجعت أجساد الأحرف مختبئة لحين تعلم البوح ، دون أن تخدش السطر الذي عانق ولادة النور . لملمت تقاسيم وجهه القلقة بنظرة حنونة ؛ فاتكأ ترددها على بعض القوة ؛ لتتابع قائلة :
- لكن .. حبي لك .. أزال رسوماً نقشتْ سنين عمري وتفاصيلها ، برغبتي أردت أن أكون كما تحب . ملابسي وحتى ألوانها كانت على هواك ، تسريحة شعري ولونه غيّرتهما لملائمة عشقك لصورة أردتها لي ، حتى صديقاتي كُنَّ مثار نقاش بيني وبينك ، ابتعدي عن تلك فهي غيورة ، صادقي هذه إنها ابنة عائلة .. أو .. من تلك الأسباب الكثيرة ، وإن لم يعجبك أسلوباً أو تصرفاً بدر مني .. تغضب ، ولا أرى ابتسامتك أو غفرانك لحبيبة تتعذب ، إلا إذا غيّرتُ ما لا يعجبك . لا أقول أن حياتي كلها صائبة ، لكنها ليست سيئة ، فكلّ منا يمتلك الاثنين ، فلا أنا بمـلاك ولا بشيطـان ، أنا فقط .. إنســانة ، لكن .. ألمْ تخفْ عندما كنت تغيّر هذه الحياة التي عشقتَها – كما قلت قبل قليل – بأن يفقد قلبي جزءاً منك ؟ . مارستُ براءتي دون الخوف من عبارات .. هذا خطأ .. أو .. لِمَ فعلتِ ذلك ، عشتُ تلقائيتي ، وبمجرد أن تلاقيا قلبانا ، استأذنتُ براءتي وتلقائيتي ؛ بأن يختبئا ، فهما السذاجة في نظرك ، وهو ما لا تحبه في حبيبتك وزوجة المستقبل . أتدري لؤي .. ؟ ، أن من أحبتك ليست حياة ، بل هي تلك البراءة التي أخفت عيوبك عني ، بساطة حياتي هي من عشقت تمردك على سكوني ، وللأسف أردتَ لي أن أكون كما تريد ، أن أكون غيري . نحتَّ عواطفي ومشاعري وأزلت كل ما لا يعجبك ، لكنك أزلت تلك الأشياء التي عشقتك .
صمتتْ ، لأول مرة تستدرك هكذا دون أن يقاطعها أحد ، تعوّدتْ الكلمات المبتورة السريعة ، نظرتْ إليه ، ألفتهُ واجماً .
- إذن جئت لتقولي لي بأنكِ لا تحبينني .
قاطعته حياة .. " لا .. بل أحببتك ، لكــنني أستشعـر الآن برودة في مشاعري نحوك .. "
- تريدين إقناعي بأنك اكتشفتِ هـذا البرود اليــوم ، أم أن هنــاك .. شخصاً ! ..
صرخت في وجهه .. " اصمتْ ، إياكَ أن تزيد حرفاً عما قلته ، يكفيني طوال معرفتي بك ، وأنا أجيبك عن .. عـرّف .. أكـمل ما يلي .. لِمَ ؟ .. مـاذا تقصدين ؟ .. سئمت تعريف أفعالي ، مللت من تبرير كلمات تُفهم مغلوطة ، لؤي .. أنا لا أكرهك ، لكنني أخاف الارتباط بك الآن ، لأنني لست أنا . أريد استرجاع ما فقدته ، بإمكانك إعادة ما فُقد مني ، عندهـا أكون تلك التي عشقتك ".
بقدر ما ارتاح قلبها لبوحٍ مؤلمٍ ، بقدر ما تألم على من أحبه . مدّت يدها لتستأذنه بالانصراف ، فلم تعدْ تقوى الصمود أمام نظراته . صافحها كمن يهمس " انتظري قليلاً " ، شعرت بدفء لامس بريق عينيها بمجرد لمس أصابع يده ، ابتسمت له ، رشفت نظراته بسمتها ؛ كظامئ تذوق قطرة براءته للتو .
**********
" ربما هي شمس الأصيل قد أسكرت قلبي بنبيذ شعاعها ، أو ربما أخيراً .. قلت كل ما لدي " .
وضعت قلمها جانباً ليرتاح من لهاث حبره على الورق ، مدت يدها أمامها ؛ مستأنسة ببريق خاتم حمل اسمه ، وقد زيّن يدها اليمنى .
hanansalim75@hotmail.com