السلام عليكم وبعد،
من أقوال أبي المعالي الجويني الذي ولد سنة 419ه/وتوفي سنة 478ه :" اشهدوا علي قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور". ويقول أيضا: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بعلم الكلام."
ماذا يمكن أن نقول عن هذا الاستنتاج الذي توصل إليه أبو المعالي في لحظة من لحظات سعيه للمعرفة؟
أولا:- نفهم أنه يعلن ثوبته عن الخوض فيما قاده إليه العقل، ويقابل بين حاله وحال عجائز نيسابور ليبرز أنهن أفضل منه، لكونهن لم ينعمن بنعمة الشك التي تؤدي إما إلى اليقين أو إلى البقاء في تيه الشك ودوامة اللايقين.. وها هو يود أن يكتب الله تعالى في قلبه الإيمان رغبة في أن يعود إلى حالهن.
ثانيا:- إن عجائز نيسابور لم تكن لهن معرفة بالأسباب التي أدت بعلماء المسلمين إلى الخوض في قضايا العقيدة الدينية كقضية " طبيعة ذات الله وصفاته". ولذلك فإن قضية استغرابهن قيام أهل نيسابور بحمل عالمهم على أكتافهم تكريما وتبجيلا له لقدرته على الإتيان ببراهين تثب توجود الله، تبدو مسألة بديهية، إذ كل شيء بالنسبة للإنسان العادي "كعجائزنيسابور" يبدو واضحا لا يستدعي أن يتم التفكير فيه. ولا نستغرب أن يستخففن بأمر الجمهور،وبأمر عالم الكلام الذي كان محمولا على الأكتاف.
لقد ذكرني أمر العجائز هذا بأمر خادمة أفسوس التي سخرت من ذلك الفيلسوف الذي كان يمشي وعيناه معلقتان إلى الفضاء متأملا الكواكب، حتى سقط في بئر. وهكذا تكون نهاية طريق البحث عن المعرفة، إذ ليست محفوفة بالاطمئنان. وكان أهل نيسابور ينشدون ما يلي:
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبئك عن تفصيلهاببيان
ذكاءوحرص وافتقاروغربة وتلقين أستاذ وطول زمان.
والسؤال هو : إذا كنتم مطمئنين إلى ما أنتم عليه، فكيف تزرعون هذا الاطمئنان في من يحتاج إليه،هل من المفروض أن يحيا الناس كما كانت تحيا عجائز نيسابور دون طرح أسئلة دون معرفة بأهمية السؤال بالنسبة للإنسان؟ فلتخفوا الحقيقة، فلتضعوا الستار، فلتمارسوا الإقصاء، فلتصفقوا لبعضكم البعض، لكن لاتنسوا أن واجبكم هو استخدام ما وهبكم الله إياه، والشريعة كما قال فيلسوف قرطبة "أخت الفلسفة الرضيعة". ومن منكم لايستخدم العقل في مقالي هذا؟ أبدون العقل كنتم ستفهمون، وتهمشون ما لايأتي بردا وسلاما على قلوبكم؟ وهل ما هو مطابق لما تعتقدون هو اليقين؟ كيف تبرهنون أو تقنعون وأنتم للأبواب تغلقون، من النوافذ لاتشرفون؟ لقد دعا فيلسوف قرطبة إلى تجريد العقل العلمي من الشهوات،والدفاع عن المصالح الشخصية، وإني والله لأجد فيلسوف قرطبة نورا نحتاج إليه في عصرنا هذا، ليفصل بين العقل والقلب، بين الدين والتكنولوجيا؟ لانريد نسخة مكررة لفيلسوف قرطبة بل فيلسوفا مثله يصل إلى تقديم حل لمشكلة عالمنا الإسلامي الحالي فهل هناك طريقة لإنتاجه؟